قراءة في عرض مسرحي ..
(الموجز) … يتصفح الذاكرة المتعبة ويُراقص الجسد الساقط من السماء.
– قيصر الوائلي –
تخيل.. أن تُعلق الأماني على جدار من صفيح متآكل ، وتلوك الأحذية المغطاة بالوحل ، وتتصفح الرسائل المهداة بمزيج من دموع ، ومطر ذي لون داكن ، وتنبش كل الحضارات المندثرة والباقية على قيد العذاب للبحث عن قطرة ماء مستعصية ، وان تسلط وجنتك المُثقَّبة على جثة صديق – لتغفو منسياً إلى الأبد ، وان تضطر يوماً لتمخر جمجمةً – أنت وإياها في سباق أزلي نحو الموت
هكذا عبرنا الحروب .. وهكذا رأينا إنسانها على مسرح ( منعم سعيد ) مُخرجاً – وأشعلها بعيداً عن الخجل ( خالد ايما ) ممثلا .
هادي المهدي ( النص )
لا يخلو من سرد قصص آلاف الجنود التي ذابت وتحركت كبيادق الشطرنج على أكفان الرصاص واحتمالات اللاعودة إلى ضريح امن يكون نائياً عن التفسخ تحت وطأة الشمس وسرفات الدبابات والبكتريا .
(وحنه مشينه للحرب.. عاشك يدافع من اجل محبوبته) نعم ولكنهم قلائل والآخرون تاهوا في حسابات القناعة أو عدمها أو حسابات أما أن تعيش للموت أو تموت.
(الموجز) لملم كل الأوراق التي تساقطت في خريف ظل ملازما لأعمار الشباب لنقرأها مرة أخرى برؤية حداثوية أسس لها (منعم سعيد) هاجساً مؤلماً بعد أن (عجن) النص و (خبزه) بروية .
مجموعة مكونات ( خوذ – ستائر بيضاء – لوحة سوداء) قطعة قماش بيضاء ينمو داخلها الأموات الذين نهضوا من بين الأشلاء وزحمة السواتر، ( صراع ، وجع ، سياط ، محاكاة) لغة إيمائية (خالد ايما) آخر الحالمين بالموت يتصفح الذاكرة المتعبة ويُراقص الجسد الساقط من السماء فوق غيمة وهم ، يتحول هذا الجسد الأبيض إلى دمية راقدة تدعى ( مونيكان ) تصاحب هذا الحالم في سمفونيته الأخيرة
سرير المهد هو الآخر مثل دلالة انتمائية كما مثلت ذكريات الحارة والأصدقاء وأيام الصبا عندما تذوب جميعها بصراخ مر أمام المشهد الدائر في النفي والعودة إلى الجبهة ، على مقربة تقف (الأم) تحاول طرد الشياطين برشة ماء تتأمل الحفظ والسلامة لولدها (أمي طشت غيبتي بماي العصر- الشاعر علي الشباني) هكذا رصد العرض تفاصيل دقيقة لأيام غابت حقيقتها عن الآخرين
يعود الصراع مع الذات وتلوح الهستريا في الأفق القريب يجهر آخر الأمنيات (أريد أن آكل لا يوجد في البيت سوى بيضتين – من حقي أن اضحك.. من حقي أن اضحك) هذا الحق الذي أودى به إلى موتة أخرى .. نهاية مشهد
( قبر الخوذ – مزرعة الموت )
صوت مزيج.. بين عويل وانين- تخرج من قبره خوذ.. ينهض هذا الثائر على الموت مرة أخرى ليرفض الأحكام العرفية للأسياد – وكما المشهد في جدارية جواد سليم (نصب الحرية) شق الخوذ وتسلق الأنفاس ليُصدم من جديد بواقعة صفراء قاحلة كانت الملاذ الحتمي لسنوات أخرى جديدة في مشوار العمر التعب ( الله اكبر.. كنت معي هناك لحظة بلحظة، أنت وأمي التي لم اذكرها إلا بعتب على ولادتها لي) نداء من السماء اجهر الصوت به لمأساوية الحدث العائم في الصحراء حيث تجففك الرمال وتشاركك الجرذان فتات الطحين وتصادقك المعاول والأوامر ( تقدم.. احفر.. تقهقر.. تراجع.. إلى الوراء در- عادة سر.. ابتسم.. لو كانت الصحراء صالحة للزراعة لشهد العالم موسماً خصباً، فقد حفرناها بمعاولنا شبرا شبرا)
(مونيكان) تحدق صامتة لا تستعطف بكاء الخلاص حتى الوصول إلى حالة القول الغادق بالسخري
(الأرواح واقفه من جديد يكسوها الكفن) تراصف عسكري .. إيعاز (تهيئوا.. كونوا على استعداد تام العدو يباغتنا في اي لحظة.. وعلينا أن نلقنه درساً لن ينساه… لنريه من نحن ومن هم ) النهاية المتوقعة في نهاية كل مشهد (الهستريا) ذوبان الكلمات المتحولة إلى إيماءات جسدية يشفّرها (البانتومايم).
وللموت رقص
(لم اكن احلم إلا بك يا أمل.. انت الوحيدة التي تدفعني للاستمرار في الحياة) كأن مراقصة (مونيكان) قد تضفي في صدره المحروق بعض الرماد عله يخفف شدة الاحتراق ..
عودة لابد لها أن تطفح على سطح العرض مرة أخرى بذكريات السوق والبيت والحارة.
(غزلنا الأول .. المواعيد عند مفترق الحارة.. احتكاكي بك في سوق الخضرة.. خجلك.. كلماتك الأولى (فدوه).
تداخل سريع يصنعه المخرج ليبرهن على حداثة العرض عندما يخرج لنا (خالد ايما) من زاوية جديدة في عرض تبنته اللوحة السوداء لتخرج صورة (البروفات) أثناء الأداء، وهنا صار المزيج دلالة مشتركة للوصول إلى تنافر وتجاذب في آن واحد.
(السرير والليل)
كان لهما الدلالة الفاضحة في العرض (أتصورك أمامي تغتسلين وتتعطرين وتتهيئين لي.. كنت معك تحت ثيابك وبين أصابعك تسرين في روحي كالنسيم البارد.. آ .. آ.. آه..) فجأة تسقط الحرب على رأسه لتشنقه ببرودة أعصاب لا تبرير لها إلا العبث.. ولا نهاية لفرار من موت حتمي إلا آخر – موت بطيء مكانه سرير المشفى.. ولا يتم الخلاص من هذا المشهد إلا بالهستريا الإيمائية حتى الوصول إلى غضب السقوط.
(الشبح)
ثانية وثالثة وعاشرة تعود إليه زاخرة بالألم والحب معا.. كانت تريد له أن يموت على طريقتها الجميلة ، قبل أن يقتله ضجيج الرصاص، سقط من غير دراية.. من قتل من؟.. من عذب من؟.. من أبكى من؟.. من دفن من؟ لم يتركوه وحيدا في الصحراء حفروا له قبراً ماسياً وجاءوا به بعد أن غيبوه بالكفن ورحلوا به بعيدا إلى أطراف السماء.
(الموجز) عرض مسرحي أضاف للمسرح الديواني والعراقي إشارة مهمة رغم مواجعه .. نعم هكذا هو المسرح
المخرج منعم سعيد رغم ما وضع من تكوينات أراد لها أن تشير إلى مأساوية الحدث وفضاعته، وعندما تحقق له هذا تجاهل تكوينات أخرى كانت حاضرة باستمرارية خائفة على خشبة المسرح ولم يسعفها باشتغالات الممثل عليها وأهمها – الخوذ
ولضعف الإمكانية في التكنولوجيا بدا واضحاً أن الموسيقى قد هبطت عن مستواها وتلاشت في أحيان كثيرة .
أما الممثل (خالد ايما) فقد خانه النحو، وخانته ذاكرته ولياقته البدنية في بعض الموضع قابلها الجمهور بالتصفيق.. وكما عرفنا أن (خالد ايما) ممثل بانتومايم فقد أجاد العرض الحواري ولكن تبقى التجربة الأولى هي الأخطر رغم تجاوز الخطر، وعليه أن يتقن أدوات الحوار بشكل اكثر دراية في تجاربه القادمة.
كادر مسرحية (الموجز) اهدوا لنا وجعا آخر رغم فرحة الانجاز.
Discussion about this post