أُسطُورةُ العشق المُحَرم
زينب حواس /الجزائر
في مكانٍ ما كانت هناك قريةٌ ضبابيةٌ قاتمةٌ بعيدةٌ عن أبسط معالم الحياة، تفصِلُها عن جاراتها من الغرب غابةٌ شاسعةٌ زرعُها أشجارُ هابيلَ الهائلة، وزقومٌ طلعها كرؤوس الشياطين ، ومن الشرق تَحُدُّها جبالٌ شامخاتٌ يسكنها الجنُّ و الوحوشُ ، امتهن أحدُ رجال القرية الحطابة، وكان يتوجب عليه في كل خريف أن يبدأَ رحلةً طويلةً بالاتجاه شرقًا نحو الأخشب القريب من القرية حاملًا إزميلَه، يتسلق عدة أمتار ليصل مغارةً تتخذها زُمرةٌ من المخلوقات العجيبة ملجأ لها من صقيع الشتاء ؛ كانت تلك المخلوقات بحجم السبابة ، تقف على قائمتين تمامًا كالإنس ، وعلى رأسها قرنان يلتقي طرفاهما عند وشمٍ بشكل معين وسط الجبين، يشِعُّ نورًا كنورِ الشمس، إن ارتَشفَ قليلاً من الخمر ؛ وهذا ما جعل تلك المخلوقات أسطورةً لا يعرفها إلا حطابون قلة ؛ لذا يصطاد منها ذاك الحطاب واحدًا ويضعه في قفصٍ، ينزل به إلى القرية؛ ليتَمَوَّنَ من أجل أيامه التي سيقضيها في الغابة بين أشجار الزقوم يجمع ما استطاع من لحاءِ وحطبِ شجر هابيل الأحمر القاني، كان يعينه في دجىٰ ليالي تلك الغابة ضوءُ وشمِ المخلوق الذي يتخبطُ ثمِلًا لأيامٍ حتى ينتهي الحطابٌ من عمله ، يواصل ما بقي له من أمتار للمدينة ، يبيع ما عنده ثم يعود أدارجه للقرية فتنتهي رحلةُ الحطاب الموسمية، وينتهي أجَل ما في القفص معها.
ذات خريف ذهب إلى مغارته، وعلى غير العادة لم يجد إلا قليلًا من تلك المخلوقات، فشقي و خارت قواه من محاولات الصيد التي باءت جميعُها بالفشل، فقعد يلهث مستندًا على صخرةٍ كبيرة، انتظر قليلًا ثم قرر الاستسلام ، وحين أدخَلَ أصابعَه في ثلَمة كي يقفَ شعَرَ بشيءٍ تحت كفه، أدرك من فوره أنه أحد المخلوقات التي يريد، فأمسك به بسرعة، وأخرَجه من مخبئه ليفاجئه ما بين أصابعه، فقد كان كما لو أن كل جمال الكون ينبض في قبضته، لم يخيَّل إليه يومًا أنه سيعثر على أنثىٰ تلك المخلوقات العجيبة، أو انه سيشهد جمالها الأسطوري الذي أُخْبِر عنه من قبل، فعيناها الساحرتان، وقرناها الزمرديان، والوشوم التي زينت كتفيها ، بهتتْ عينَ الحطاب، وشرد حتىٰ فتح قبضته دون وعي، فتضاعفتْ دهشته حين اكتفت تلك الجنيةُ بالجلوس على كفه، والنظرِ في عينيه بدل الفرار، فرفع يدَه الأخرىٰ، وداعب وجهها الصغير بلطف، عانقت إبهامه هُنيهةْ ثم طارت وجلستْ على كتفه. شعر الحطاب بسعادةٍ لم تزايلْه من قبل أبدًا، فنزل القريةَ وتمَوَّنَ على عجَلٍ، وابتاع خمرًا من أجل جميلته الصغيرة التي ستضيء لياليه الكالحة، ثم سلك طريق الغابة الطويل مترنمًا أثناء سيره بأجمل الأشعار والقصائد التي استلهمها من جمال “غيداء” كما أسماها ،
لم تبرح غيداء كتفَ الحطاب ولو لبرهة، راقبته وهو يُخرِج إزميلَه والخمرَ من زوادته ، كما راقبته حين بدأ العمل بجد وجهد ، ولما جنَّ عليهما الليل أشعَّ وشمُ غيداء من تلقاء نفسه فعجب الحطابُ من ذلك، واستمر يجاهد المعضلة، ويقلبها في رأسه رغم انهماكه في العمل، ولم يدرك أن غيداء انتشت من كأسٍ أخرىٰ غير الخمر التي يعرفها، فقد نبَضَ قلبُها للرجل دون علم منه أو إذن. مرت تلك الأيام العشر وغيداءُ تكحِّل عينيها بمراقبة حبيبها، وتُطرِب أذُنيها بشِعره نهارًا، وتنير له الغابة على وسعها ليلًا، تقاسمه طعامَه وشرابَه وقد لا تنام متىٰ نام خوفًا عليه، أخيرًا أنهىٰ الحطابُ حزمَ حطبِه و أمتعتِه، وانطلقَ نحو المدينة على حدود الغابة يبيع ما جمَّعه، وحين وصل انكمشت غيداء وتشبثت بياقته؛ إذ خافت من البشر وزحامِهم في المدينة، بقيت على حالها حتى باع الحطابُ كل ما لديه ، فَسُرَّت غيداءُ لذلك على ظنٍّ منها أن الحال ستبقى كما عهدَتْها، لكنها أخطأت الظن ، فقد توجه الحطابُ لبيتٍ تربَّع بين شجيراتِ الفل والياسمين، وعندما وصل أمسكَ غيداءَ وأجلَسَها إلىٰ نافذة البيت، وقفت المتيَّمة تنظر من وراء زجاج النافذة بشغفٍ تشاهد الحطاب يدخل، غير أنها رأت ما جعل قلبَها يتواثب في صدرها، إمرأةً غجريةً بارعةَ الحسن تتقدم نحو الحطاب وتستقبله استقبالًا يليق بشوقهما، اغرورقت عيون غيداء بالدموع على وجنتيها كأنها حباتُ لؤلؤ ، تأملت أن ينظر الحطابُ نحو الزجاج لكنه لم يلتفت، انتظرت على مضض متمسِّكةً بأمانيِّ قلبها – وليتها لم تفعل – فبعد لحظاتٍ أنشد الحطابُ شعرًا من أشعار كانت غيداء تظنُّها لها وحدها، تسارعت دقاتُ القلب المتيَّم حتى تقطعت نياطه ، شعرتْ غيداء بالألم في صدرها فرفعت يدَها وشدت بقبضتها عليه، لكن لا جدوى… ذلك الألم لا يشفيه شيء غير الوصل أو الموت، أشعَّ وشمها حتى أضاء كل المدينة فذُهِل الحطاب والتفتَ نحو النافذة فلم يرَ وسط ذلك الشعاع سوى عيون غيداء الرقراقة ، وما زالا علىٰ حالهما حتى سمعا صوتَ ارتطام، فتلاشى ضوءُ غيداء على إثر مشهدِ جثةِ حبيبة الحطاب التي استيبسَتْ و ابيضَّت عيناها و تناثر شعرها مخلِّفًا ظلامًا حالكًا، امتقع وجهُ الصغيرة المتيمة، هي لم تعرف أن اشتعال غيرتها قد يفعل هذا، حاصرتها الآلام من كل جانب ..لم تعرف أعليها أن تشمُتَ لموت غريمتها؟؟ أم تحزنَ من أجل قلب حبيبها؟؟ هل تفرح من أجل نفسها؟؟ أم تندم علىٰ جريمتها؟؟ جثا الحطاب على ركبيته عند رأس حبيبته، وأخذ يلعن اليوم الذي صادها فيه، في تلك اللحظة طارت غيداء نحو السماء واجمةً تجهش بصوت مختنق ، زاد توهُّج وشمها سرعة ارتقائها ولم تنظر الى الارض حتى وجدت نفسها محاصَرةً في فراغ الفضاء غير قادرة على الهرب أكثر واستقرت مكانها تشع كنجمة درية يزداد بريقها فرَحًا كلما رأت وصال حبيبن .
تقول الأسطورة تلك النجمة البديعة التي يكتب عنها كل متيم، و يسمِّيها كل محب باسم محبوبه و يتأملها كل عاشق ليست إلا غيداء الوالهة …
أما عن الحطاب فقد قيل إنه خرج من بيته في أرض غير أرضه، وزمنٍ غير زمنه هائمًا بين العصور كشيطان حاقد يعيش على تحطيم كل قصة حب جميلة تطالها يده .
Discussion about this post