قراءة بعنوان: المعادلة بين النسيج الفني والدلالي
في القصة القصيرة جدا للقاصة فتحية دبش
===========
إنها هي
قصة قصيرة جدا
في تلك المسارب الضيقة لمحها تركض، تركض، تستدير بين الفينة والأخرى كأنه ثمة شبح.
يلتفت بدوره، الطريق الطويلة خلفه، تلتهم خطاه، ويسمع صداها بينما هي تركض، فزعة.
يستعد للركض هو أيضا، ثمة شبح، خلفه.
فتحية دبش
===========
(إنها هي) صيغة تؤكد وتجزم بأنها هي. عنوان يبدو ظاهره مدلا جازما يؤكد أنها هي- هي بعينها- غير أنه في الحقيقة مضلل يستوجب منا عناية خاصة باعتبار أن العنوان نص مواز يلعب دور الأيقونة الدلالية المتميزة والبوابة الأولى التي بواسطتها نلج أي نص، شعريا كان أم نثريا، فما بالك إذا كان الأمر متعلقا بعنوان لجنس أدبي وجيز؟ فالأمر سوف يكون أكثر دقة وعناية من حيث انفتاحه الإيحائي الانزياحي الاتصالي في ذهن المتلقي وتفجّره، باعتبار الدّور الذي تلعبه استراتيجيا في علاقتها وتفاعلها مع سائر عتبات النص فالعلاقة علاقة جدلية ترميزية ثرية ولادة لماحة تدغدغ الخيال والعقل في مشاكسة للمتلقي، من أجل تفاعل بناء إيجابي يملأ فراغات الحيرة مؤولا ومفسرا لتغدو العلاقة علاقة تشاركية حوارية بين النص والمتلقي الذي ينعكس كتموجات صوتية لصوت النص المتردد في المدى الذي يرجعه الصدىن فمن تكون ال(هي) يا ترى؟ أهي الأنثى الغواية أم الطبيعة أم الروح أم الحياة بأنساقها المتطورة؟ أي عنوان هذا أدخلنا في عالم من المتاهات؟ واقع بين الواقع والخيال بين (هي)، ال(هي) الأنثى أم (هي)، ال(هي) الرمز.
إن المدقق في العتبات يلاحظ أن القصة القصيرة التي بين أيدينا حققت وحدة الحدث مع توسل محتشم بطيء لانعكاس الفعل والحركة على الآخر استلهاما لردة فعل القطيع وانعكاس الظل، رصدنا حضور المفارقة من خلال حركة الركض فبينما هي تركض أخذ هو يستعد للركض، كما لاحظنا اختزالا في العبارة والقص والزمن والتكرار؛ الذي جسده تكرار التشظي لتنشيط الخيال وتكرار بعض الألفاظ مثل: (تركض، شبح) لجذب انتباه المتلقي، كما ساهمت أفعال الحركة في دفع الرتابة مع اعتماد الوقف بين الفينة والفينة لتمرير بعض الوصف لأخذ جرعة من الاستراحة؛ من أجل التثبت في الاتجاهات خوفا من مجهول: “تستدير بين الفينة والأخرى وكأنه ثمة شبح” “تلك المسارب الضيقة”، “الطريق الطويلة خلفه، تلتهم خطاه، ويسمع صداها” “فزعة”. إن استخدام القاصة فتحية دبش للاستعارة اتخذ أشكالا مختلفة من التشبيه المتعدي بحرف الكاف “وكأنه ثمة شبح” مرورا إلى المجاز والاستعارة المكنية كأنسنة الصدى وتشبيه الطريق بالوحش الجائع الذي يلتهم خطى ال(هو)، كل هذا بقصد نسج خبر مرصع بروح القص يستجيب لمقومات القصة القصيرة جدا في نسبة من التكثيف والتلميح إلى مسكوت عنه مفضوح مع فسح المجال لانفتاح الصورة على الاستعارة والرمز والدلالة في جمال حبكة مبنية على الإقناع في بهرج إيقاعي للفظ والعبارة الصوتية المبنية على حسن اختيار الكلمة مع حسن توظيفها لخلق صورة استعارية شمولية تداولية بسيطة محافظة على الحكائية لينعم القارئ بقص بعيد عن الومضة من حيث الطول والاستمتاع بأسلوب الغزل والنسج محققة الدهشة في تناسق إيقاع اللفظ مع حركة الركض تناغما مع نسق الخوف والفزع والسرعة مع طول المسافة حتى كدنا نستمع للهاث ال(هي) واختلاج قلب ال(هو) وسط قرقعة دقات نبضات قلبيهما، محققة بذلك معادلة بين النسيج الفني والدلالي منعشة الخيال بخلق واقع آخر يجمع بين الممكن والمحتمل بحثا عما لم يقل، كي يفصح به المتلقي بحثا عن تأويل المعنى من خلال توليد اللفظ انطلاقا مع إطلاق عنان الخيال وفق مسار دلالي تنظيمي يربط العتبات بعضها ببعض من خلال منهجية عرض مقنعة تستجيب لطبيعة اللغة الإبداعية التي قدت بها الكاتبة نصها، وبناء عليه يستحيل النص إلى مجموعة من الرموز الدلالية المدلة والمظللة كما الشأن للعنوان حيث تلعب فيه ال(هي) والسرعة والشبح والخوف القاسم المشترك.
وعليه يمكننا أن نحاول فك بعض هذه الرموز وفق أبعاد كينونة الإنسان وسط صيرورة زمان ازداد نسق سرعته بشكل بات فيه هضم وفهم الأشياء المحيطة به يستدعي طاقة وجهدا أكبر من طاقة وجهد الإنسان العادي في زمن قريب مضى، وبالتالي تشعبت المسارب وضاقت على كثرتها في زمن انحطاط البشرية بعد غياب الضمير إلى درجة بات فيها من الصعب الاهتداء إلى مسلك صحيح فالمادة طغت على الروح كذلك الجسد انتهك واللذة بلغت منتهاها فسقطت الأخلاق وأعلنت البشرية إفلاسها فغابت القيم وبات الإنسان يخاف حتى رؤية نفسه في مرآته كأن شكله بات مفزعا يأبى النظر إليه لبشاعته فصار يخاف ويهرب من ظله الساقط على الأرض الذي سقطت معه كل القيم بعد أن تحول إلى تائه ضال على أثر اكتشافه لحقيقته ولحقيقة طوله فطوله ينعدم منتصف النهار ولا يستقر على حال على مدار اليوم فهو بين مد وجزر تحكمه درجة الضوء إلى أن بات شبحا يلاحقه فالجسد المادة تابع مهدد بالفناء والتعفن في كل لحظة فالروح ساعة التصاقها بالجسد تعلن بداية الغواية ورحلة الشقاء ومكابدة العناء وحين مغادرتها إياه تكتشف الذوات مهزلة نسبية الحقيقة وتفاهة العالم الحسي مهما بلغ من القوة والنفوذ والمعرفة، ذلك أن كل ما ظهر من الحقيقة ما هو إلا خدعة الوهم والغواية، لذلك كان الخوف سلطانا تربع على عرش الإنسانية داخل إطار مكان معلب محكوم بتراجيديا الموت والهروب من الحاضر نحو مستقبل غامض يأمل فيه حظا أوفر يستعيد فيها استقراره ينسيه ركضه وخوفه تحكمه سرمدية الزمان والمكان عله يكفر عن ذنب التبعية التي لحقته كظله لينعتق عن قانون القطيع الذي أغل حرية تعبيره وشل تفكيره فجعله يجري مع القطعان لا يلوي على شيء سوى خيبته بعد أن تحول إلى ببغاء يلقن القول والفعل ويتبع الهوى..
وهكذا تستحيل ال(هي) سرعة نسق الحياة، وال(هو) ما هو إلا ذاك التابع، والشبح ظل الجسد ووهم الحقيقة، وما الخوف إلا خوف من الفناء، والطريق عمر، والركض نسق وإيقاع، ليستحيل عنوان القصة القصيرة جدا (إنها هي) نسقا دلاليا لصورة شعرية ذات قيمة ترابطية تعبيرية استغلتها القاصة لتفجير بهاء صوت الهاء من حيث خفة نطقها مبرهنة انسجامها مع روح التأنيث وتبعية آدم لها كتبعيته لحوائه التي أغوته منذ الأزل وجلبت له الركض وراء قوته من أجل لذة عابرة محتمة عليه الحركة المستمرة والتغيير والتحول وعدم الثبات والاهتزاز معنى يؤازر حضور الهاء في الأنساق الشعرية وما يمثله هذا الحرف من اضطراب وشقاء وحزن وألم؛ فكأني بالكاتبة تنعى الإنسان وترثي حال البشرية المعاصرة بعد أن تاهت وصارت لعبة في مهب الريح تتقاذفها الهواجس والأشباح المنبعثة من بقايا مسخ حرمته الحضارة إنسانيته ومتعة الحياة، وأفقدته عدم القناعة راحة البال والسكون والهدوء والسعادة والرضى بالمجود لتستقيم نفسه المتمردة وجموحها ليضمن عدم كبوتها على أثر صدمتها، وهكذا تحقق الققج الدهشة في العنوان بتدوير الحكائية لنكتشف اشتباك الذات بالجسد والروح محققة صراعا وجوديا في تأصيل كينونة ال(هو) وسط تقابل الأضداد تكشف درجة حضور الوعي واللاوعي وسط نسق حكائي غرائبي داخل واقع مخبر القصة القصيرة جدا قابل للتحقيق يسقط القناع عن كينونة ال(هو) المعاصر.
سهيلة بن حسين سهيلة حرم حماد
تونس في 01/02/2022
Discussion about this post