“شالوم”
الرواية البكر للكاتبة التونسية وفاء بوعتور .
“شالوم” رواية سياسية بامتياز .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
في منتصف العشرية السوداء لحكم الإسلام السياسي وتحديدا بعد الثورة ,قناة تلفزية خاصة بثت برنامجا مصورا بطريقة الكاميرا الخفية وفيه يتم استدراج شخصيات سياسية ودينية لإجراء حوار مع قناة أجنبية ليكتشفوا أثناء الحوار أنهم في مقر سرّيّ للسفارة الإسرائيلية . ويعرض البرنامج أوالسفارة المزعومة أموالا على الضيوف مقابل التعاون مع إسرائيل.وقد شهد هذا البرنامج سجالا حادا عبر مواقع التواصل الإجتماعي في البلاد وأسال الحبرالكثير في الصحف والمجلات . وشن البعض هجوما لاذعا على
الشخصيات التي شاركت في هذا البرنامج , واتهموها بالخيانة والمتاجرة بالشعارات الوطنية .وكان فرصة سانحة للكاتبة التونسية وفاء بوعتور لتحوله إلى رواية إختارت لها من العناوين (شالوم) .
فماذا عن شالوم الكلمة العنوان وعن شالوم الرواية والتفاصيل ؟
شالوم الكلمة وتعني السلام والرفاهية وهو شكل من أشكال التحية أو الوداع بين اليهود.
وهذه الكلمة متجذرة في اللغة العبرية، وتنقل رغبة في الصحة وفي الوئام وفي السلام وفي الهدوء وفي السكينة وفي الرفاه بين الناس والأمم ، أو بين الله والإنسان .
أما شالوم الرواية , فهو عنوان مشاكس لرواية خارجة عن المألوف .والعنوان كما يعرف الكثيرون هو عتبة النص, ومهمة القارئ أن يخطو من خلالها ليدخل ساحة الدراما والصراع, وعلى هذا الأساس يكون العنوان موضع اهتمام كل كاتب ، ومحل عناية خاصة فهو في الحقيقة لا يلخص العمل, وفي ذات الوقت لا يكشف ستره. والروائية وفاء بوعتور تعمدت اختيار هذا العنوان لتستفز قارئا بعينه له حساسية تجاه اسرائيل ومشتقاتها ,وتجعله يقبل على قراءة هذه الرواية الخارجة عن المألوف .و في
اعتقادي وانطلاقا من المقولة الأمثولة: “الإبداع هو ما يأتي على غير مثال”. تعمدت الكاتبة الخروج على المألوف في بناء نصها , الأمرالذي أعطى الكتابة ماهيتها وجوهرها. وجعل من هذا النص الروائي نصا مختلفا مبنى ومعنى دون ابتعاده عن الواقع .وكما هو معروف لدى الجميع , الأدب بصفة
عامة هو شكل من أشكال الوعي بالواقع والتعمق فيه , والأكيد أن هناك علاقة جدلية مستمرة بينهما, لأن الواقع يحفل بالدوافع والمحفزات التي تثير اهتمام الكاتب وتختزن المادة الخام التي يشتغل عليها, كما تحفز رغبته في الكتابة والتعبير .ولعل هذه الحلقة المثيرة من الكاميرا الخفية هي التي حفزت وفاء بوعتورإلى كتابة هذه الرواية المتمردة على كل أشكال الكتابة الروائية .فجاءت في شكل مغاير للمألوف . وتوزعت بدل الفصول على أربعة عشر مقطعا منها مقاطع قصيرة وأخرى طويلة مفتوحة .و يتصدر كل
مقطع قول مأثور لأحد الفلاسفة والكتاب المشهورين أمثال (كارلوس ثافون) و(هرمان هسّه ) و(نيكوس كازانتزاكيس) و( ألبرت أنشتاين) و( إيريل نايتنجيل )و( غاستون باشلار ) و( أنطون سعادة )و( جمال الغيطاني ) و( ادوار الخراط) و( مظفر النواب ) و(مالك حداد ) و(محمود درويش), والسؤال الذي يمكن
طرحه : ما الذي يجمع كل هؤلاء المبدعين حتى تستحضرهم الكاتبة في روايتها ؟ علما وأن حب الوطن والتشبث بالإنتماء والدفاع عن الوجود كلها قيم تلخص ما جاء في كل التصديرات .
ومن البداية تشعرنا الكاتبة بمضمون روايتها في إضاءة وردت في صفحة 3 جاء فيها :
( …فهو كتاب الوفاء والأنفة والفناء في الحق ,في الجمال , في الله …).
وعلى غيرالعادة جاء توقيعها على هذا النص المختلف قبل بدايته حتى أنها كتبت تقول في صفحة 5 :
(… قررت أن أسلّ من جسدي الحروف لأحيا …بين كلمات اختنقت في الحناجر وأخرى تلطخت على الورق , قررت أن أعبر نزيفا يحملني إلى مثواي , حيث يرقد , هانئا , صوت الحياة الأول …).
وعلى غير العادة أيضا جاء الإهداء موجها إلى كل من ستربطها بهم عاطفة النص .وخصت منهم الأحرار والحرائر من القراء والقارئات .ومباشرة بعد الإهداء كتبت تأبينا حيا لمعلمها المفكر والأديب العربي الطليعي إدوار الخراط جاء فيه في صفحة 11 :
(…حبيبي إدوار ,كل من عليها واقع في الحياة , ولكن ,ليس كل من واراه التراب في عداد الأموات ,أنت حيّ خلود الفكرة , خلود رامتك وقامتك ,عين تنز بين مرجين , وجود مشهود وغد منشود , متعاقب ما جرى شدوك مرّ القراء .وحيثما أورق , وأزهر , فأثمر, فكنت وكنا , وكان البيان…).
ودائما على غير المألوف كتبت في (كواليس) حوارا شيقا دار بينها وبين البطل الذي اختارته لروايتها جاء في صفحة 13 :
(…قلت لبطلي : أنا أنثى تحترف الكتابة بحروف من إبر ….قلمي اللاهث من نازع وقتنا الظالم يصبو لتوقيع ميثاق إبداعي خالد بختم الدماء …
فهل توقع ؟…).
ولن يتردد البطل في التوقيع على هذا الميثاق وقد وعدته بأنها ستثب من اللغة إلى قلوب القراء وأنها ستعيد ترتيب الأقدار .
وقبل المقطع الأول كتبت فاتحة بتوقيع الشاعر محمود درويش وقصيدته ( سجل أنا عربي ) كاملة .والأكيد أن كل هذه الإضافات التي وردت مع النص الروائي متعمدة من قبل الكاتبة حتى تكون متفردة ومختلفة في بنائها للرواية وفي توزيع أحداثها بصفة عامة .
والمتابع لكل مقاطع الرواية يلاحظ أنها ترتكز على بعض الأفكارالسياسية وكذلك بعض آليات عمل الساسة والأحزاب,وأن الراوئية تبدو رافضة ومتمردة وغير خاضعة للموجود بل بانت مقاومة للسائد الضار والمنافي للإنسانية .وشخصية جمال مهران التي اختارتها كبطل استثنائي لروايتها قاسمته دور الراوي , بل مكنته من فرصة التعبير بلسانه الثوري المتمرد ومن استعراض مواقفه وأفكاره بكل حرية .جمال مهران هو شاب ثلاثيني مهيب متين البنيان قوي المنكبين والفكين بوجه عميق وعينين عسليتين دقيقتين دافئتين يشع منهما نور مؤلم حاد ,رفقة صديقه عبد الناصر بن جاد الذي يصغره بسنوات قلائل ,وكان تتلمذ على يديه وتأطر في العمل النقابي الطلابي وفي الفعل السياسي القومي الأصيل وقد ساهم وإياه في تزكية الصفوف بالمظاهرات الشعبية والحركات الإحتجاجية التي تمخض بها البلد بعد ثورة 14 جانفي .
الإثنان تعودا على اللقاء في مقهى (الفلوكة) بمدينة “تاكابيس” , وهو الإسم القديم لمدينة قابس التي قال عنها في صفحة 35 :
(… لعل المدينة أكلت في غيابي أهلي وأحلامي الصغيرة ؟ لابدّ أنهم في الداخل عطشى ينتظرون …سأدخل لأسقيهم من دمعي وحبري الذي كنت ألطخ به يديّ طفلا غضيرا يعرك الحروف لأول مرة …).
وفي هذا المقهى يتشارك الصديقان في تعنيف وضرب المدعو (قملاش) وهو ناشط سياسي شارك في حلقة من حلقات الكامرا الخفية (شالوم) ,وهو برنامج يدعو بطريقة أو بأخرى إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني .وقد أثارت هذه الحلقة ردود أفعال مثيرة وانتقادات شديدة اللهجة بسبب تصريحات (قملاش) حول التطبيع وعلاقته بإسرائيل . وعلى إثرهذه الحادثة تمت إحالة جمال مهران وصديقه عبد الناصر بن جاد على المجلس الجناحي لمقاضاتهما من أجل الإعتداء بالعنف الشديد في إطار عملية أرادوها أن تكون إرهابية بامتياز ,لكن المحكمة الإبتدائية بقابس بعد مداولات ومرافعات تجند لها العديد من المحامين ,قضت بعدم سماع الدعوى لبطلان الإجراءات . غير أن الفرحة ببراءة الموقوفين لم تدم
طويلا لأن النيابة العمومية قررت استئناف الحكم .
وتعتبرهذه الرواية سياسية بامتياز لإستعراضها للحرب القائمة بين الإسلاميين والدساترة وبعض اليسار الرافضين الجلوس على نفس الطاولة للتحاور بين الفرقاء والبحث عن حلول تفضي إلى الإستقرار والحياة العادلة في هذا الوطن .بل وصل بهم الأمر إلى حد السخرية من القائمين على تسيير البلاد . وقد جاء على لسان الراوية في صفحة (188) :
(… يتطلع جمال إلى الحشد الأمني المستدير بهما , وكانت نظراته تبدو حانقة أكثر من كلماته وعلى فمه ابتسامة غير مبالية لا تعبر عن ألم بقدر ما فيها من سخرية من يترفع وهو مظلوم حين قال :
– الخاين حرّ طليق وأحرار تونس بين الأسوار …
– ماذا تنتظر من تونس ” البجبوج” و ” بابا غنوش” ؟ …).
كما يمكن اعتبارها رواية الجزئيات والتفاصيل لما تحتويه من تفاصيل الأمور ودقائقها تماما مثل شريط يوثق الأمكنة ويبرز أدق الجزئيات بها . والكاتبة كانت حريصة على هذا التمشي في كل مقاطع الرواية , وعلى سبيل الذكر لا الحصر كتبت في صفحة 56 :
(…جلس إلى السفرة الغزيرة تحفّ به الأطعمة المضنية وتطير بأنفه كل مطار: صحفة شربة الفريك باللحمة البرشني الطازجة ,الكسكسي الدسم المتوبل المعقر باللبن والوزف سخن من ناره , وقرص الطابونة الأسمر المرحرح الناضج في الطين الحار, ودقلة النورالمبطنة بقلوب اللوزالمقلي وطحين الشامية,وشطائرالجبن يشرّ منها العسل القابسي الجبلي الحرّوالبريك الدنوني الهشّ والحرق الخفيف …).
وهذا الوصف الدقيق يؤثث (شالوم) من البداية الساحرة والتواقة للجمال وحرارة الحياة بأنغام أمل عرفة وسوسن الحمامي وفيروز وريم البنا وجوليا بطرس ومارسال خليفة وفرقة العاشقين في المقطع الأول إلى النهاية الساخرة في المقطع الرابع عشر حيث كتبت :
( كان عصفور الدوري عائدا من الغد وهو يضحك …
يطل من فتحات السحاب ويضحك …
ينقر ورقة أسقطتها الريح ويضحك …
يتعلق جناحاه بين أغصان الأشواك ويضحك …).
ورغم ذلك وفي مثل هذا الجوالساخر يبقى الأمل لهذا الدوري في هذا البلد وعلى حد تعبير مالك حداد :
إن الشعب لا يجتمع في قاعة من القاعات , إن الأمل في الشارع .
وخلاصة القول (شالوم) رواية تطرح سؤالا إشكاليا متعدد الأبعاد في مستوى البناء وقد يشغل المهتمين من نقاد وأدباء , سؤال يضع مفهوم الرواية ومكوناتها على طاولة النقاش ويترك الحرية للكاتب في الإشتغال على نصه حسب المتغيرات والسعي نحو تجديد أدواته للقبض على جوهر وكنه الواقع الإجتماعي والديني والسياسي والنفسي الذي يستمد منه مادته .وعلى هذا الأساس تعتبر هذه الرواية سياسية بامتياز .
Discussion about this post