“غلالات بين أنامل غليظة”
رواية للكاتبة عفيفة سعودي سميطي
أنامل رقيقة تكشف عورة الأنامل الغليظة في زمن لا يشبهنا .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
لايشك إثنان في أن الرواية التونسية الصادرة بعد ما سمي بالثورة شهدت تنوعا ملحوظا في القضايا المطروحة وكذلك في الأسلوب والبناء ولعل موضوع الإرهاب وانجراف الشباب إلى التنظيمات المتطرفة هوأكثرالمواضيع التي شغلت فكرالكتاب والمبدعين حتى أن هذا الموضوع بات مرويّا أساسيّا من مروياتهم وقد حفزهم على الكتابة والغوص في مغامرات جديدة مسايرة للظروف السياسيّة التي تعيشها تونس بالخصوص وتمر بها كل البلاد العربية بصفة عامة، واللافت للنظر هو أنّ تفاعل الكتاب مع موضوع العنف السياسيّ والإرهاب قد نالَه تنوّعٌ واختلاف , على مستوى تمثُّلِه وكذلك على مستوى الطرائق الفنية المستعمَلة في كتابته . والكاتبة عفيفة سعودي السميطي من بين هؤلاء الكتاب الذين شكلوا على وقع الثورة المزعومة معالم العنف والإرهاب وحولوها إلى قصص و روايات , نجدها نحتت بأناملها الرقيقة (غلالات بين أنامل غليظة ) في جو رومنسي مزدحم بالدماء والدموع والمحبة والعشق والغفران ,ومن خلالها كشفت عن توغل الإرهاب في حياتنا اليومية وتوصلت إلى نتيجة تقر بأن العنف هو حالة مرضية قد تعصف بالنّفس الانسانيّة وتجعلها قاسية إلى حدّ مخيف وأن المصاب بهذا المرض قد لا يتردد في استعمال أيّ طريقة شرّيرة لتحقيق مآربه. ولعل الرسالة التي قد تصل إلى القارئ الجيد من خلال بعض التلميحات هي أن السلطة في تلك الفترة بالذات كانت المناخ الذي أنتج هذا العنف وغذاه وسهرعلى نشره في كل مكان .
وفي صفحتها على الفيسبوك بتاريخ 7 ديسمبر 2021 كتبت الروائية :
“غلالات بين أنامل غليظة ” ، رواية تشكّلت معالمها على وقع الثّورة وأحالها العنف الذي حدث إلى الحفر في الذّاكرة لتصطدم برواسب مخيفة ، هل كانت الأنظمة الدّيكتاتوريّة هي السبب المباشر لاندلاع العنف أمّا أنّ الأمر يتجاوز ذلك بكثير ؟
فماذا عن هذه الغلالات ؟ ومن يقف وراء هذه الأنامل الغليظة ؟
الغلالة في اللغة وجمعها غلالات هي ذلك الثوب الحريريّ الشّفّاف الذي يكشف جسد المرأة ويضفي عليها فتنة واغراء. والأنامل الغليظة تنسب عادة للرجل أوالذكر .والكاتبة تعمدت اختيار هذا العنوان لتشعرنا من البداية بأن الصراع سيكون شرسا بين أنامل الذكرالملطخة بالدماء وأنامل الأنثي المعطرة بالحبر وأن الإرهاب يقف وراءه فكر ذكوري متوحش , وعلى المرأة أن تثور وترفض كل أنواع العنف المسلط عليها من هنا وهناك , وأن تسعى نحو الحرية والإبداع والحياة الراقية .وتثبت أن الأنامل الرقيقة يمكنها أن تكشف عورة الأنامل الغليظة في هذا الزمن الذي لايشبهنا .
ولكن قبل الغوص في الأحداث والشخصيات لا بد أن أشير إلى أن هذه الرواية صدرت عن دار البدوي للنشر في أكثر من 500 صفحة من الحجم المتوسط خلال شهر مارس 2014 .وصدرت أيضا في طبعة ثانية سنة 2016 عن دار أور للطباعة والنشر ببغداد .
عموما , هذه الرواية يمكن اختزالها في فصلين مختلفين وبطلين أساسيين (سحر وعبدالله) .
(سحر) الشخصية الرئيسية الأولى وهي إمرأة منفتحة على العالم ومؤمنة بالحرّية ومقتنعة بالحداثة ومناضلة في سبيل أفكارها وهي تمارس العمل الصحفيّ ,كانت تزوجت من المدعو (عبدالله) وأنجبت منه (عمر) وهو طفل ضرير , غير أنها انقطعت عن زوجها الذي اختار وجهة غير وجهتها . وواصلت حياتها مع ابنها ومع بعض الشخصيات الثانوية نذكر منها محمود الجار وزوجته راضية والصديق العاشق آدم . والملاحظ أنها لم تيأس من عودة زوجها إلى حياته الطبيعية .
أما (عبدالله) الشّخصيّة الرّئيسيّة الثّانية ,فهو ناشط في العمل السياسي, ألهاه هذا النشاط عن أسرته ,الأمر الذي سبّب له تصدُّعًا في حياته مع زوجته وابنه , وفضل الالتحاق بواحدة من خلايا الإرهاب صحبة أحد أقاربه (زيد) , وهناك تعرف على (عمران) وكذلك (طلحة) الراعي الإرهابي في الجبل , وهذا الأخير أشرف على تدريبه للقيام بأعمال انتقامية في بلده .ولكن في إحدى العمليات يتم القبض عليه ويقضي فترة من الزمن في السجن يتمكن خلالها من الهرب ليعلن توبته وينشغل بالبحث عن أسرته الصغيرة طالبا الصفح والعفو من زوجته التي بقيت وفية لحبها له رغم إغراءات العاشق آدم .
والمعرف إضافة إلى أن الإرهاب أعمى لايحدد المكان ولا يعرف الزمان .وكل الأمكنة تصبح تحت سيطرته في كل الأوقات ,أشارت الكاتبة إلى أنه خراب أيضا وأنه إذا حل ببلد حل معه الخراب والدمار. وقد ظلت عن طريق ساردها ممسكة بزمام الأمور حتى أنها أدارت الأحداث على الشاكلة التي أرادتها . وكانت مطلعة على كل التفاصيل التي تخص الإرهاب ومكوناته وأهدافه ,ومدركة كل الإدراك بأن زوجها عبدالله سيعود إليها وأن الإرهاب سيتم القضاء عليه من طرف أبنائه إن آجلا أو عاجلا لأنهم سيكتشفون الحقيقة الصادمة وسيعرفون أن الدين الذي يبشرون به هذه الجماعات هو وليد مشوه لسياسة قذرة لاتريد التقدم والإنفتاح والحرية .
وكما عبدلله اكتشف الحقيقة وعرف أن هذه الجماعات سحبته من إيمانه المفعم بالحريّة وحوّلته إلى تابع مسحوق بحجّة أنّ الله في حاجة إلى دعم كبير. نجد أن قريبه (زيد ) يقر بهذه الحقيقة في حوار مع صديقه عمران عن المدعو (طلحة) الإرهابي الذي نعته بالخرابة بمعية سيده الشيخ الذي وصفه بغراب بريش أبيض ينعق .فنجده يقول في حوار مع صديقه عمران وبأسلوب يشدنا إلى النهاية :
(…طلحة كان خرابة.. و داخل تلك الخرابة كان هناك غراب بريش أبيض ينعق.. وظلّلنا بذاك الرّيش الأبيض يا عمران.. وحوّلنا إلى خرابات.. فماذا بعد كلّ هذا الخراب يا عمران؟ أنظلّ نُـلقم الغربان النّـاعقة فينا الحبّ والزّهر والأحلام العذبة؟.. أم نخنقها ونُلقيها خارج خراباتنا ونعود إلى بيوتنا ونُـنهي مآسينا؟.. إنّـنا يا عمران إن لم نفعل ذلك الآن فستزحف الغربان على المدينة وتحوّل كلّ بيوتنا سواء الصّغيرة منها أو الكبيرة إلى خرابات.. هيّا يا عمران أجبني الآن فالنّـار تشتعل في المدينة والموقدون يتكاثرون.. لقد سقطت الدّولة الخاطئة وطلحة النّـاعق يحرّك أجنحته.. وها هي.. أجل ها هي يا عمران تنتفض في حزائبها و تستعدّ للإقلاع.. فهل سَتُـقْلِع معها يا عمران؟.. أجبني لأنّـي هذه المرّة لن أُقْلع معها.. و سأعود إلى المدينة لأحطّ من جديد على بيتي و لأعيد الصّلاة بكلّ خطاياي في مسجدنا الصّغير مع كلّ أهالينا.. بعد اليوم يا عمران لن أركض خلف طلحة و لن يُغريني جدل إخوانك الذين يخفّفون الوطء الآن حتّـى يمرّوا فوق جسورنا الصّغيرة التي بنيناها ذات يوم فوق وحل أزقّتنا ليعبروا إلى المدينة بأجنحة سوداء وبخديعة كبيرة..
وقف عمران واِتّـجه إلى السّتائر المسدلة وفتحها واِخترق شعاع الشّمس القاعة الضّيّقة وأضاءها واِلتفت إلى زيد وهتف:
– هيّا يا زيد.. اِمض إلى بيتك ولا تدع أحدا يقتلك!
– وأنت يا عمران؟..
– سأظلّ يا زيد مع إخواني.. هم الآن لا يرغبون سوى في الهدنة..
– سيجرّهم طلحة إلى الحرب يا عمران.. وستجد نفسك ذات يوم مغلولا إلى قرارات تُـنزل البلاء بالمدينة..
– سنواصل الجدل يا زيد..
– أتظنّ الجدل سيحوّل نعيق طلحة إلى زقزقات؟..
– ها أنت تُـزقزق يا زيد..
– لم نكن أبدا غربانا يا عمران.. كنّا عصافير صغيرة تُـزقزق في أعشاش دافئة رغم كلّ الوحل.. لذلك الآن و رغم كلّ النّـعيق الذي نعقناه فالزّقزقات تعود إلينا وتنبت فينا من جديد..
– أنا يا زيد سأظلّ أغرّد داخل السّرب.. حتّـى يُغرّد كلّ السّرب..
– أتظنّ يا عمران أنّ ذاك السّرب سيغرّد ذات يوم؟..
– أنا موقن بذلك يا زيد ما دام في السّرب عصافير…).
لقد تعمدت نقل هذا الجزء الهام من حوار الإرهابيين للتأكيد على أن الكاتبة وهي الصحفية المتمكنة كانت قريبة جدا من أجواء الدواعش حتى أنها نقلت عنهم بشكل واضح وفي سرد سلس ومشوق أدق التفاصيل وأهم المعلومات التي لا يمكن أن يوفرها غير الصحفي الأستقصائي .
ونلاحظ من خلال هذا الحوار أن الكاتبة تركت النهاية مفتوحة ليبقى السؤال :هل سينتهي الإرهاب ذات يوم ؟ وهل بإمكاننا أن نخلع الوجه الآخر فينا ونتخلص من كل الأقنعة التي أرادوها لنا في هذا الزمن الذي لايشبهنا ؟
ولعل الإجابة عن كل هذه التساؤلات وردت في حوار أجرته مع الكاتبة عفيفة سعودي سميطي جريدة الأسبوعية اللبنانية بتاريخ 5 جويلية 2021 جاء فيه :
(… “غلالات بين أنامل غليظة ” : رواية الخيبة والإحباط , يفتضح الوجه الآخر لنا ويكشف عن دمويّته وعنفه ويسقط الحلم بين رحى الفتن والإرهاب , صحفيّة تقاوم العنف بشكليْه المختلفين النّاعم والوحشيّ لتجد نفسها في الآخر وتحت سطوة الحبّ تواجه مسألة الغفران الشّائكة…).
Discussion about this post