رحلة بلا نهاية (10 ) والأخيرة
من رواية الإرهاب ودمار الحدباء
بقلم عصمت شاهين دوسكي
لم يعد الغلو في المشاعر يؤثر إلا في المشاعر نفسها ،خاصة بعد رؤية الناس والاختلاط بهم ،وبعد ترك أطلال البيت المدمر ،فلا يمكن اجتذاب قلوب الناس حتى لو كثرت البراهين والتأكيدات ، فدمار البيت كدمار الموصل الحدباء كدمار الوطن كدمار الإنسان الذي أكرمه الله ،فالمبالغة والتوكيد والتكرار الحاد والدموع والآهات والذكريات وعدم التعرض إلى القضية ذاتها ،كونها غدت عمومية التصور والشكل ،وإن كانت تعتبر وسائل ينبغي إظهارها وتعظيم صورها ، لكن لكل مواطن موصلي أبطال وجرحى وشهداء ودراما مأساوية على مسرح الإرهاب والتدمير ، لا يمكن إخفاء وجودها الحقيقي ،والمتفرجون من أهل الموصل ليسوا في راحة واطمئنان لهذا لا تنطبق عليهم غالبا مسألة الذوق والأحوال المنطقية ،الواقع إن الإرهاب والتدمير الذي حصل على المدنيين العزل تدرج على درجة منحطة في خانة الإنسانية ،ولم يحتر الإنسان في معرفة السبب ،حتى الجماعات الإرهابية أنفسهم شكوا في نجاح هذا التدمير المكاني والإنساني لمدينة الموصل الحدباء لأنهم خرجوا من سيطرة التحكم فلبسوا مضطرين ثوب الشهادة كما بخيل لهم ،فالحدود والمناطق حول الموصل مغلقة وعلى مدى ثلاث سنين خلقوا صور القتل والذبح والجلد والتخريب بصور إرهابية عصرية ،ووقعوا في خطأ جسيم عندما دمروا مساجد الله والكنائس في مدينة محافظة كمحافظة الموصل وشردوا المسيحيين وقتلوا وهجروا اليزيديين وقتلوا المدنيين العزل فضاق توسعهم وهرب كبراؤهم وأمراؤهم وقوادهم ،وبين رجحان هروبهم وبقاء ضعفائهم زاد الإفلاس واشتد الانكسار وزادت الهزائم وجثثهم في كل مكان مرمية بين الطرقات والقمامة ، كل هذه الصور المفزعة أثرت على نفوسنا وأرواحنا ومشاعرنا كضحايا على مسرح الإرهاب العالمي ،لم يعد خروجنا من الموصل إلا مسألة وقت للحصول على ورقة التصريح الأمني حيث تدقق الأسماء في الحاسبة الأمنية ومن يكون بلا شائبة يخرج ومن يشكون فيه يحجزونه ، وبعد جهد كبير وروتين قاتل حيث الواسطة عادت أكثر من السابق بين أفراد الأمن في كرفانات خاصة وضعت لهم خارج الموصل قرب منطقة ” برطلة ” المهجورة ،كأن دمار الموصل الحدباء لم تخلب العقول التي لا تلتفت إلى أحوال التدمير المكاني والإنساني إلا بقدر ضئيل تقضي فيه المجاملة لأنها لا تحزن شجون ناظريها ، رغم المأساة الكبيرة الواسعة في الخيام التي تظهرها القنوات العالمية ، تغرق حينا من شدة الأمطار التي لم يحسبوا لها حسابا إنسانيا امنيا والتي تحترق حينا آخر من خطأ وتزوير المادة النفطية المغشوشة وخلطها بمواد أخرى كسبا للربح المادي على حساب الأبرياء النازحين والمهجرين وانتشار الأمراض لقلة الأدوية الخاصة ،على عكس الصور الايجابية الأخرى التي ساعدت بما لديها من مواد ومتاع وغذاء التي سطرت عناوين ومضامين إنسانية غاية في الرقي والوعي ،اللامبالاة تكون على الدوام قاسية تتعدى قوتها كل الرؤى ،فالانحطاط الخلقي والعاطفي والحسي عظيم على مسرح الإرهاب المحلي والعالمي وفناؤه ينحط في دائرة المشاعر والإحساس ،كل تطرف بسيط في أي مكان إن ترك يكبر ويتوسع في الآراء والأفكار والمعتقدات بجملتها ،ويغدو هذا التطرف شكل الحقائق المطلقة وهي في الأصل أباطيل مطلقة ،ولما كان باب الشك غير مفتوح عند الجماعات الإرهابية كان يتلقى الآخر شعورا تاما بقوتها ، وإن أصر أي عاقل على مخالفتهم يصيبه الذل والجلد والقتل والذبح وأساليب إرهابية عصرية أخرى ،عدم تحمل مخيلتنا لهذا التدمير الكبير وعدم خلاصنا من ذكرياتنا من صور بيتنا المدمر حملنا حقائبنا أنا وأم سيلين وسيلين يوم 27/1 / 2017 ودعنا أختها أم دلال بالدموع الصامتة التي جادت في الكرم والاستقبال هي وزجها ، أجرنا سيارة إلى كراج خارج الموصل لمبيت السيارات ونقل الناس إلى بغداد وتكريت وكركوك ورغم معرفتنا لطول الطريق الذي يحتاج إلى الصبر والتحمل بسبب غلق طريق اربيل الذي كان سهلا للخروج ، ورغم غلاء أسعار التنقلات والتوصيلات اتفقنا مع السائق علي الذي كان من أهل بغداد والذي وعدنا عدم الوقوف في أي سيطرة وتجاوز الروتين كونه منتسبا للجيش ويعمل فترة إجازته العسكرية كسائق وأكد لنا ضمانة الوصول ،صعدنا السيارة الحديثة والمريحة وسارت بنا في مناطق مهجورة يبدو أهلها لم يطمئنوا بعد للرجوع إليها فدرجات عدم الاحتمال واردة وأفضلية البقاء بعيدا مع الأمان والسلام أفضل من العودة للقلق والخوف والترقب ومصير لم تظهر وتنكشف ملامحه ، جرى حديث بيني وبين السائق ” علي ” في هذا السفر الطويل ،تنوع بين الخصوصية والعمومية في مفارقة الفساد عند المناصب العليا والبحث عن كسرة الخبز عند الفقير ،عن مدى الجهل الإداري في كل المؤسسات ومدى تأثيره على المجتمع ،فإن كان رأس كل شيء فاسدا ما بعده يكون فاسدا ينخره الفساد والتسوس إلا ما ندر ،وضعف الفرد ،المجتمع هو ضعف الدولة عامة ، فيكون بالتالي سهلا لكل طامع وإرهابي ومستعمر ومغتصب ومحتل أن يطمع بهذا البلد خاصة إن كانت ثرواته متنوعة وكثيرة ، توافقنا الفكري والشعوري أنا والسائق ” علي ” مجبول على الوعي والإدراك وهذا أمر طبيعي ،كلما نمر على سيطرة السائق علي فقط يخرج هويته العسكرية واخرج أنا التصريح الأمني مع هوياتنا الرسمية نعبر ،وصلنا إلى منطقة ” الحمدانية ” التي كانت طبيعية لا تظهر عليها آثار الدمار مثل الموصل ،وفي طرق ترابية ومناطق خالية إلا من أشجار وبيوت متفرقة ،وصلنا ” تكريت ” اتفق السائق علي مع صديق له اسمه ” محمد ” لتكملة مشوار رحلتنا إلى كركوك وأثناء انتظارنا في بيت كبير فيه مهجرون من أصل منطقة ” فلوجة ” المنكوبة هي الأخرى رحبوا بنا بعد أن عرفوا من أين نحن ، كرمهم لا يوصف رغم وضعهم المأساوي واقترحوا علينا البقاء وقال صاحب البيت وزوجته بصدق الفطرة والخلق الجميل :
ابقوا معنا الغرف كثيرة وحالكم من حالنا إلى أن يفرجها الله .
قدمنا شكرنا الجزيل لكرمهم وطيبة قلوبهم وأصالتهم العربية الإنسانية التي لا تفرقها أجندات الطوائف والمناهج التخريبية والأساليب السياسية الفاسدة البعيدة عن الإنسانية بإخضاع المخالف عنوة وقسرا لمنهجهم أو إلى مصير مجهول ، هذه مظاهر الحرية التي يفهمونها في كل عصر ،لم يكن في قدرتهم أن يعرفوا سواها ،التقينا بالسائق الشاب ” محمد ” بعمر الخامسة والعشرين مع سيارته الحديثة البيضاء قال لنا :
أهلا بأهلي ومرحبا بكم ،بصراحة الطريق طويل وشاق ولكنها آمنة،
لم يكن لنا خيارات وفرص أخرى صعدنا السيارة واتجهنا لطرق صحراوية وفي كل سيطرة نبرز التصريح ويبدو السائق ” محمد ” بأسلوبه الخاص معروف عند الجميع يتحدث مع أفراد السيطرة ويضحك معهم ويبتسم ويقول لهم :
هؤلاء أقربائي بمقام أهلي من الموصل .
نعبر بسهولة، جواز مروره الطيبة والابتسامة واللين ، من نافذة السيارة أتأمل الشمس وهي تغيب وتترك خيوطها الذهبية بين تراكم السحب السود وكأنها تذوب فيها ،سماء تمطر رذاذا وكأنها ترحب بنا بهدوء وصفاء وعطف ،وعلى طرق جبال ” حمرين ” العالية الملتوية تأرجحت السيارة بين الكتل الطينية والحجرية الصخرية
،وكدنا نسقط في الأودية مرتين لشدة الظلام الداهم ،وأم سيلين تقرأ الآيات القرآنية وتدعو الله ،وأنا وسيلين نناجي الله بصمت للخلاص والوصول بسلام ،لم نر شيئا حولنا سوى أضواء السيارة التي نحن فيها ، إلى أن وصلنا بصعوبة إلى سيطرة كمرك ” كركوك ” وقال لي السائق ” محمد ” مبتسما :
الآن هنا ملعبك احكي معهم باللغة الكردية .
قلت له بثقة رغم تعب الطريق :
اترك الأمر لي .
وبعد اقترابنا من السيطرة ،سأل أحد أفرادها باللغة الكردية التي ترجمتها كالآتي :
من أين أتيتم ؟
سلمته هوياتنا وقلت له :
نحن من أهل دهوك ،وهذه زوجتي وابنتي .
فقال مباشرة : اعبروا
بعد سنين طويلة رأينا مدينة كركوك اقترب السائق ” محمد ” قرب مطعم كبير وقال :
سأبلغ العمال بغسل السيارة لأنها دمرت من الأتربة والطين في هذا الطريق الصعب الطويل . والسيطرة القادمة الخاصة بدخول كركوك عندما ترى سيارتي متربة وطينية سيقولون جاؤوا من الطريق الترابي وندخل في سين وجيم نحن في غنى عنه .
غسلنا وجوهنا وأيدينا وارتحنا قليلا وبعد انتهاء غسل السيارة عادت كأنها خرجت من معرض السيارات الآن ، وفي سيطرة كركوك عبرنا بعد رؤية الهويات الخاصة بنا ،وكنا مع موعد بأقرباء أم سيلين الذين أتوا بسيارتهم ، ليأخذونا وبعد عناق وبكاء صعدنا سيارة ” أم أروى ” إلى منزل ” أبو لبيب ” في منطقة ” حي العرفه ” المشهور زاد كرمهم كرم أبي حاتم الطائي لا يدرون ماذا يفعلون ليقدموا لنا لطيبتهم وأخلاقهم الراقية وبعد مرور ثلاث أيام ودعنا بيت أبو لبيب شاكرين لهم حسن الضيافة والكرم ، وتوجهنا إلى مدينة اربيل عاصمة كردستان وكان الطريق سهلا والسيطرة الكردية تعامل الناس بوعي ورفق ولين وابتسامة ، وصلنا مجمع ” لاوين ستي ” السكني حيث منزل بنت أختي ” هبة ” استقبلتنا هي وزوجها وأطفالها بالدموع ، في هذه الأثناء كان ابن أختي “وسيم ” موجودا ينتظر وصولنا لينقلنا بسيارته إلى مدينة ” دهوك ” حيث يسكن مع أمه وأخوته بعد دخول الدواعش إلى الموصل وقد استقروا بعد معاناة طويلة فقررنا التوجه إلى دهوك يوم 2/ 2/ 2017 مع ابن أختي ” وسيم ” وصلنا وقت المغرب منزل أختي في المنطقة الجبلية ” ايتيتي ” بين السهول والوديان والجبال التي تشتهر بجمالها ” دهوك ” استقبلتنا أختي وأولادها بالدموع والأحضان بعد فراق ما يقارب ثلاث سنين من العذاب والقيود والجوع والحرمان والمرارة والاشتياق كان البيت مزدحما بالأطفال حيث تسكن مع أختي أربع أسر عائلية ” وسيم وحسام ومشتاق وابنتها شيماء وزوجها سامر ” ،وفي الرحلة الشاقة كانت اتصالاتي مع أصدقائي لا تنتهي خاصة صديق العمر الفنان التشكيلي المبدع ” سالم كورد ” المغترب في السويد والأديب والشاعر صديق الصبا ” بدل رفو ” المغترب في النمسا والمناضل والمفكر فرهاد عمر والأستاذ احمد لفتة علي ، كذلك أصدقائي في الخارج في الدول العربية والأوربية الذين ساعدوني معنويا والذين مهدوا لاتصالاتي مع ناس آخرين في دهوك مستمرة الذي جعل في الصباح الباكر لليوم التالي ، أن يتصل الدكتور” حميد بافي ” الشخصية البرلمانية السابقة والمعروفة في دهوك ليبلغني بزيارته ، لا شك استعداد الإنسان للوقوف مع الضعيف قوة ،فإن تناوب الضعف والقوة عامل للسمو الأخلاقي والوعي الإنساني لما هو سليم في تطور الفكر في المجتمع ،قابلني الدكتور حميد بافي وأخوه الشاب ” نور الدين ” في غرفة استقبال منزل أختي البسيطة بشكلها والعظيمة بوجودها المعنوي والروحي ،جرى بيننا حديث عن أحوالي ووضعي ،وفي حديثه وإجابته وتواضعه اطمئنان وأمان ،وعند الخروج وعدني أن نزور بعد أيام المهندس ” سربست ديوالي أغا ” رئيس عشيرة دو سكي أحببت أن تمر الأيام بسرعة لمقابلة هذه الشخصية المعروفة في دهوك والعالم وبعد مرور أيام اتصل دكتور حميد بافي لنذهب لمنزل الأستاذ الكبير سربست ديوالي اغا ومقابلته عصرا وفي الموعد المحدد التقيت بالدكتور ودخلنا معا للمنزل الكبير وفي ساحة المنزل استقبلونا رجال ورحبوا بنا واشروا لنا مسلك باب الديوان الذي يجلس فيه الأستاذ سربست ويقابل الناس عامة دخلنا ، رأينا شخصا بملابس كوردية في صدر الديوان وهناك بعض الرجال وبعد دخولنا نهض ورحب بنا وسلم علينا وكان له علم بقدومنا وقال بعد أن صافحني :
الأديب ” بدل رفو ” حكا عنك كثيرا وعن ظروفك وأنت معروف أهلا وسهلا بك .
وجلسنا كان ذا قامة طويلة وملامح وجهه فيها القوة والطيبة ،والسيطرة الحكيمة والرحمة والرأفة ، متواضعا بكل حركاته وكلماته رغم ما يملكه من سلطة وجاه وحكمة من جذور أبيه الأصيلة وجده رحمهما الله فضلا عن وعيه المتقد سموا ورقيا ونشاطا وحصوله على شهادة الهندسة من دولة أوربية مميزة كاجتهاد شخصي ذاتي يحسب له وبعد حديث جميل في كافة المجالات ،هممنا بالخروج فإذا به يخرج قبلنا من الديوان ليقف أمام الباب الخارجي ليودعنا وبعد دوري في الخروج أوقفني وقال وهو مصافحا يدي :
اطمئن أنت منا ومعنا وان شاء الله لا نقصر معك .
وشدد على يدي دليل الأمان والسلام
ولم تمر سوى أيام ، يتصل أستاذ سربست ديوالي أغا قائلا :
قررت أن اؤجر لكم شقة لتسكن فيها أنت وعائلتك في منطقة ” دابين الأولى ” إلى أن يفرجها الله . سيتصل بك سائقي لترى الشقة .وان لم تعجبك سنجد غيرها .
فشكرته كثيرا
وبعد أيام اتصل السائق واتفقنا على أن نرى الشقة وذهبنا للمنطقة وصعدنا للطابق للعاشر دخلنا الشقة المؤثثة رأيتها فقال :
أن لم تعجبك الشقة سنغيرها هذا ما أمرنا فيه أستاذ سربست ديوالي أغا .
قلت له : الشقة لا ينقصها شيء .
اتصل السائق بأستاذ سربست ديوالي أغا ليطمئنه على أن الأمور تسير كما يرام .وتحدث معي ليطمأن أكثر .
وفي اليوم التالي بعد كتابة عقد الشقة المؤجرة ،انتقلنا إليها مع العائلة وبعد انتهاء سنة كاملة جدد العقد لسنة ثانية بأمر سربست ديوالي أغا . إلى أن قررنا نكتفي بسنتين فجزاه الله خيرا تحمل تكاليف الشقة ومتابعته لنا وعن أحوالنا وكذلك كان يزورنا بين فترة أخرى دكتور حميد بافى ليطمئن على أحوالنا ولننتقل بعدها إلى رحلة أخرى …
وإذا بصوت أم سيلين من داخل المطبخ يأتيني :
أبو سيلين الفطور جاهز .
واستيقظت على الصوت كأني كنت في كابوس حلم فضيع .نهضت أمام ناظري جبل ” زيوا ” الممتد عرضا ليمد مساحة جديدة أخرى للحياة بعيدة عن الإرهاب والدمار بل لتستوعب الحضارة الإنسانية والقيم الفاضلة نحو عوالم تستحق الحياة والوجود الإنساني في بلد الحب والجمال والعشق الأزلي للأرض والإنسان .
Discussion about this post