قــــــــراءة في..جدليّة العشق والانعتـاق..في بعض قصائد الشاعرة التونسية المتألقة فائزة بنمسعود
——————-_______________——————
إذا اعتبرنا الخيال عند افلاطون هو الجنون العلوي وان الشعراء متبعون وان الارواح التي تتبعهم قد تكون خيرة او شريرة ،لكن أرسطو هو الذي اعترف لصاحب الحرف في قوة الخيال وبالمكانة اللائقة به واثنى على قدرته في المجاز واعتبر الخيال قوة وطاقة ضرورية في القول الشعري..فحين نتعمق في بعض نصوص الشاعرة التونسية المتميزة ( فائزة بنمسعود) التي أمامنا فنحن امام ثنائية المجاز والعشق الذي دلت عليه عنواين القصائد،فالشعر النثري لا يعتمد على التوصيل فحسب بل يسعى الى الجمالية اذ ترتفع بالذات الشاعرية عند فائزة بنمسعود بلغة رشيقة،وصور رامزة،وايحاءات كامنة في دلالات لا تخلو من فيض الاحاسيس والرؤى والخيالات القلقة التي تشير ولا تفصح ،والمدرك منها يكفي لفهم ابعاد الرؤيا وتحسس ما هجست به وعنه في معادلة بالغة العمق جوهرية الدلالة ..
عاشقة متمردة وثائرة توشوش الغيم وتغني للسماء..تكتب الشعر بأنفاس حارة واسئلة عميقة عن ماهية الجسد والروح..إمرأة من الزمن الجميل مصلوبة على حافة الشوق تشتعل كشعاع الشمس في خمرة البحر تبوح في الحب رغم الغلاف التابوي المسلط على عناق الحب بسيف الخطيئة والقبيلة ..
نعم نصوص حارة بلغتها وبأسئلتها الكبرى والحزينة وحروف حفيفة ومشتعلة كاشعة الشمس..
لغة متقنة وبلاغة صاخبة تزف الهوى على اجنحة الغمام تكتب بضوء القمر ما تعثر من وجد في طوق اليمام وتغزل من سنابل وطنها ومن هذا السكون قصائد عشق صامتة رغم بوحها في اوردة الروح فيسيل الحبر الأحمر على قراطيس العشق المباح في الخطى السماوية ويحكي للعابثين بالحب وللراقصين على الجمر بان العشق كذب ان لم أمن بمن سواك هي لا تريد ان تدفن هذا الحب في طين الجاهلية في التوابيت فهي لا تخجل من ضوء الشمس وتغزل الفجر لحنا وتطرز المغيب وردا..
ألف تحية لسيدة الشهب وشرفة الفجر..وربى بنزرت..فائزة بنمسعود
من الطّبيعي أن يوجّه المبدع اهتمامه الوجداني و الفكري للجانب الذي يجيده و الذي يرضيه..
ومن الطّبيعي أيضا أن يتعامل القارئ مع الإبداع الذي يتواجد بين يديه من حيث المعنى والمبنى و الجرس الموسيقي فيستسيغ بعضها أو كلّها..
و أنا عندما أتجوّل في قصائد الشاعرة التونسية المتألقة فائزة بنمسعود انبهر لروعة الكلمات وعمق المعاني و جمال النّظم و أراها شمعات متوهّجة هي تنطق بكلّ مفردات الفنّ الجميل من حبّ و صدق و إحساس و بكلّ تقنيات النظم في أرقى المستويات نقرؤها و نعيشها ونحسّها ونجدها اتّساع البحر وانسياب النّهر و شذى العطر..
عرفتها إنسانة ودودة،دافئة مبتسمة،شاملة تعيش اليوم والأمس..زمنها و الزّمن الجميل ..
تعيد الروح للضّاد بفضل ما تنطق به و ما تكتبه من مفردات اللّغة الجميلة..و شاعرة مبدعة تطلّ من خيوط شمس -تونس الخضراء-و تغزل الحروف بنبض من حرير،ونهرا متدفق العطاء نرشف منه الزّلال..و فكرا و وجدانا يضيء الدّرب للباحثين عن الكلمة الرائعة والإحساس الصّادق،ولها قصائدة شعرية متعددة اختلفت متونها ومضامينها الإبداعية فهي تكتب بكل الموضوعات الوجدانية والغزلية حيث في أشعارها نجدها أحيانا مشرقة وضّاءة و أحيانا مهمومة بقضايا الوطن و الأمّة و المجتمع زيادة على همومها الشّخصية التي تكتمها في دواخلها و تفجّرها على بياض صفحاتها..و رغم كلّ هذا فهي تحمل الورد بين ثنايا السّطور ليعبق الجوّ بأريج الحبّ و التفاؤل،و تكتب بأسلوب زاخر بالصّور المتنوّعة سمتها صدق شعوري و إحساس فيّاض يشعرك بحبّ الحياة واستمرارها ..
إن نصوص الشاعرة (فائزة بنمسعود) تمتلك حريتها المطلقة ولا تسمح لأي ثقل معرفي أن يفرض حضوره على نظامها اللغوي،أو تشكيلاتها البنائية والجمالية ..نراها في غاية البساطة والشفافية..وهنا يكمن سرّ قوتها صلابتها وانفتاحها على التأويل مما يجعل متلقيها غير ملزم بفرض منهج نقديٍ عليها ..أواللجوء إلى قوانين التنظير الأكاديمي الذي يلقى في قاعات الدرس..
إنها نصوص لا تقف عند حد ٍ ملزم للفهم،بل تنفتح على أكثر من جهة وفقا ً لرهافة ذائقة متلقيها وحسه الجمالي..وهذا مقطع من نص جديد :
تـــونسيات
الأنثـــى التي تحتوي رجلا تحبّه وتعشقه تتحمل تقلبات مزاجه وتغفر كل هفواته ولكن إذا وصل الأمر لكرامتها يزول عنها تخدير العشقِ وتستيقظ اللبؤة فيها
والحذر كل الحذر من غضب الانثى لانها اذا ثارت تثور صواعق ورعودا…
هذه حقيقة المراة القوية التي تتمتع بخلفية ثقافية وثقة بالنفس وبكم هائل من الايجابيات والمواهب – ويا ويل من يحاول هدر كرامتها لانها ما عادت ترى بعين العاشق بل تدرك بعين أنوثتها التي لا تقبل لؤم الرجل وتكيل له بكل نعومة الضربة القاضية التي تحصره
في دائرة الندم بقية حياته لانه تجرّأ على اختراق حدود كرامتها والكرامة عتبة محرمة ومقدسة لا يسمح بوطئها ابدا
الرائع في تجربة كهذه هو اكتشاف المراة لطاقاتها التي تتمثل في صلابة الشخصية
والقدرة على هزم الخنوع والاستسلام،وتغتال الجارية التي تسكنها ونظرة البعض لها على انها جسد للمتعة ووعاء إنجاب..
الحذر كل الحذر
انها المراة التي ترتدي النمر معطفا والأسد حذاء والثعلب فروا وتحمل الحية حقيبة
إنها الصلابة في اللين
والقوة في الضعف
والموت في الحياة..
تلجأ في صياغاتها للرؤية الى تتبع الخطاب المرجعي الذي يتيح للبناء أن يتحقق باعتبار أن مفرداتها وتراكيبها اللغوية تثير حدثاً لاسيما تلك التي تحاول من خلالها ان تربط الحدث ببعضه موحدة ومنظومة متلاحمة ومتنامية داخلياً وخارجياً معاً،وهذا بالضبط ما تريده الشاعرة في توليفاتها النصية هنا،فالبحث حدث تبحث الحبيب الذي يسكن خلف شغاف قلبها الجميل :
لــــقـــاء..وبعد….
تأنّــق قبل الخروج/لِلِقاء في الموعد ِ/تعطّــر/بعطرك ذاك العطر الجهنمي/ذاك العطر/الذي يستفزني/ويحرق أخضر سهولي/قبل أصفر قممي/هذه سنابلي الغضة لطلعتك تنحني/في المقهى الإسباني تجلس أنـــتَ وقبالتك هي تجلس/وقهوتَــك من عينيها تحتسي/تشعل سيجارتك
من بركان غيرتي/وبأريج دخانها/هي تنتشي/وأنت في حضرتها/هل ستراني في ذاك المقعد القصي؟هل ستلتقط الحزن في عيني؟هل ستتابع تفاصيلي المهملة؟/أتابع حركة يديك/حين تغفل عنها/عجب لجموحها عن جسدك/ما نوع يديك؟/أهما يدان تواقتان أم حائرتان تحتسيان الخجل؟/يداك كما عرفتهما/ثائرتان متمردتان …/جالس الآن معها/هكذا خاطبتني/شهق الفؤاد
جزعا/وانتفض بين أضلعي/وسقطت كأس الهوى من يدي/واكتسى الماء لون دمي/والكون بات مرعدا/وتساقط غيث أدمعي…..
قرأت هذا النص الجميل الراقي(لــــقـــاء..وبعد….) للشاعرة التونسية المبدعة فائزة بنمسعود أكثر من مرة،لأنني تفاعلت مع كل حرف من حروفه،لما يحمله من أحاسيس فياضة وجياشة،وما فيه من نبض قلب،وشهقة روح،وأنفاس شاعرة رشفت الحب والعشق من أحلى كأس..الحب الطاهر العفيف،والعشق الوجداني النقي،حيث تناجي الحبيب ربيع العمر،وسلوى الفؤاد،وحياة الروح باحلى الكلام.انها تبوح بخلجاتها ومشاعرها بكل صدق ورهافة وشفافية وعفوية.
وهذا النص لا يختلف عن نصوصها الأخرى المنشورة،فهي تراتيل غزل،وأناشيد حب،وترانيم فرح،وقصائد عاطفية رقيقة وشفافة بمعانيها وصورها الفنية الواضحة الساحرة بجمالياتها وايحاءاتها وتداعياتها،وتعكس كلماتها نبضات وجدانها على تقاسيم خواطرها ومواقع حسها،فتأتي ألفاظها ومعانيها سهلة،منسابة،سلسة،متدفقة،بعيدة عن الافتعال والتحذلق والتكلف والتصنع.
في كلّ هذا المشهد الشعري العشقي البهيج تبرز الشاعرة التونسيّة فائزة بنمسعود متبرّجة حالمة تتجلّى شعرا وعشقا،لتصدح شدوا شعريّا جميلا نابضا..كأنّ هذا العشق قدر مقدور لا فكاك منه إلا بالوقوع فيه ..
حين تكتب ( فائزة بنمسعود) في وطنها ينهمر غيث دموعها فوق أوراقها دما ودمعا وبين ضحكاتها المتقطّعة من ذكريات مرّت انها تحب ناسها ووطنها حيث يعيش الوطن معها كثيرا،انه عالمها الكبير لاحدود له ،تبكي فيها مرّة وتضحك أخرى حتى ظنّ من يلامسها عن قرب انها مجنونة بحب الوطن..كل كيانها المهموم..وأحياناً أخرى تجد في داخل نفسها امراة تحمل حكمة الأنوثة والأمومة والحب،وآلام خفية من إرهاصات إنسانيّة لا تتحمّل ثقلها،فتبكي لتخفف ذلك الألم،تظنّ أنّ البكاء سينفض من ظهرها المتهالك هذا الحمل الثّقيل ..
أقرّ أنّها ترسم في كتاباتها لوحة فنية أشكّ أحياناً أنّها تكتب بفرشاة وألوان وليس بكلمات هي طفلة في نص،وامرأة ناضجة بنص آخر:
فائزة بنمسعود شاعرة تونسية ناعمة رقيقة وبارعة،تبهرنا ببوحها الأنيق،وتكتب بلغة رشيقة باذخة، تمتص من خلالها كل نبوءات الجمال والسحر والبيان، فتدغدغ المشاعر وتلامس شغاف القلوب دون أن تحتاج الى جواز مرور.وهي تتميز في سبك القصيدة،وتنويع القوافي الندية،وتجيد ايما اجادة فن اغواء الحرف.
وغني عن القول،أن فائزة بنمسعود ملهمة ترسم الورد بالكلمات،صورها الشعرية فاتنة ومبتكرة،وموسيقاها الداخلية هادئة تعانق الروح،وشاعرة مهذبة تعرف كيف تداعب الكلمة وتخيطها وتخلع عليها صفات الامتياز،فهي أنيقة حسًا ومعنى،ومن دوحة الشعر السهل الممتنع.
فلها باقات حب وحبق،واسمى معاني التقدير لحروفها الحريرية
حاولت قبل قليل أن ألفت الأنظار إلى جماليات تضمنها تشكيل لشاعرة حقيقية استطاعت أن تصنع لنفسها مكانا بين الكبار وما ذاك إلا بتوفرها على موهبة شعرية أصيلة وذائقة اكتسبتها من تكوينها الإبداعي المتراكم عبرسنين طوال،فكل الدلائل في نصوصها تشي بذكاء حاد يساعد على صيد اللحظة الشعرية وقولبتها في القالب الجمالي لتكون الدهشة والإمتاع تحصيل حاصل.
أتمنى ان اكون قد تناولت ولو جزءا من أبعاد المشهد الشعري للشاعرة التونسية فائزة بنمسعود وقربت الفكرة الأساس من القارئ واستسمح السيدة الشاعرة”البنزرتية” الأنيقة – فائزة بنمسعود-في هذه القراءة المستعجلة ..
تحياتي وتقديري..وترحمي الدائم على زوجها الذي فارقها في زمن مفروش بالرحيل..
محمد المحسن
Discussion about this post