تهويمة في المنجز الرّوائي للمبدع والصّحفي محمود حرشاني
حدث في تلك الليلة
في قراءة لهذه الرواية التاريخية بإمتياز قفز الى ذهني تعريف للعلامة بن خلدون في التاريخ
إذ يقول
فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال… هو في ظاهره لا يزيد على الإخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير بأن يعدّ في علومها خليق …”
والإخبار في رواية مبدعنا محمود حرشاني وهو الصحفي والإعلامي المتميّز ورد يصياغة أدبية روائية مشهدية في بعض فصولها لأحداث احتضنتها حقبة من الزّمن المنقضي في بلدنا تونس
وسأحيد عن طبيعة التقديم المتعارف عنها في المنجزات الأدبية أكانت نشعرا أو قصّة أو رواية وأكتفي بما تناوله غيري من الوقوف عند عتبات هذا المنجز الروائي من صورة غلاف وعنوان وعدد صفحات لأنفذ الى ما دفع لكتابة هذه الرواية وأعزوها من وجهة نظري الى تلبية ما بداخل هذا المبدع من احتجاجات ورفض لكل أشكال القمع والقهر وكبح جماح الأصوات الحرّة
فمؤلف الرواية لو لم يكن كاتبا لكان شخصا آخر مُلاحَقا منهم…
بعمله هذا جودة فنيّة أدبيّة رغم طبيعة الأحداث التي لها صبغة تاريخية وكذلك الشخوص الذين شكلوا في رحابها وأفضيتها نقطة ضوء فيها..
محتجون …ملاحقون…مستجوبون…موقوفون….وكل مؤشرات الهزائم حاضرة منذ المشهد أو الفصل الأول الذي بدأباستنطاق دقيق لمتهم بانتماء لمجموعة تنظيم مشبوه ..
“لافائدة في اضاعة الوقت الإعتراف أحسن..
نحن نتابع تحركاتك من زمان
وجدنا في مكتبك كل الوثائق المشبوهة
هل أعترف بشيء لم أفعله
نعرف عنك تاريخ ميلادك وعناوين الكتب التي تقراها فضلا عن كتاباتك بأسماء مستعارة ”
فهذه المقاطع بها من كثافة وإلماحة وقدرة على حمل القهر الفكري الممارس على المثقف والقلم الحرّ وأعتقد أنّ البداية الجيّدة والمتمكنّة التي يفتتح بها الروائي منجزه هي مؤشر لجاذبيتها وشدّها لقارئها ..
كما أنّ توظيف مشهد في المقدمة يحتوي على تفاصيل حسية “يجلس …يقف….يدخن سيجارة …يحتسي قهوة .)يمنح القارئ إحساسًا بقيمة محتواها خاصّة وهي تتحدث عن الظلم، والقمع وكيل التهم للمثقفين ..
فالمشهد الأول قويّ قوي جدّا أحالنا فيه الروائي الى تهيئ لبقية الفصول والمشاهد …وهي براعة ومهارة تحسب له في عمله …
أمّا عن طريقة وأسلوب تسريد التاريخ في هذه الرواية وأحداث تعلّقت بالحركة الطلابية الإحتجاجية وأزمنة التعاضد وتدهور الإقتصاد وما رافقها من احتجاجات …
و صولا إلى فياضانت السبعينات وغيرها من الأحداث الوطنية ..فكلّ الشخوص حقيقيون وكلّ الأحداث واقعية تنفتح على قول الحقائق برمّتها ..
فقد ظهر الروائي بجبّة القارئ في الأحداث قبل انتاجها فكأنّه الحافر النّابش كرونولوجيا في حقبات تاريخية من تاريخ تونس وهو ما ساعده في بناء متنه السّرديّ بتوفّق كبير ..
فهي تجسِّد حِقبةً ماضية, تستنفر حنين المتلقي بشخوصها بأزمنتها بتقلباتها بصراعاتها بروعة التَّاريخ وانعكاسه على واقعنا المعاصر.تاريخ حافل بكلِّ مجرياتِ الأمور والأحداث. وإبرازٌ لـ دقائق التَّاريخ المنسي، بصورةٍ تجعله مبسطا مبسوطا بين يدي القارئ
واعتماد الرواي لفصول متلاحقة متواترة تحتضن تجليات البعد التاريخي كان على امتداد الروية ذا قيمة اجرائية وجيهة ..واعتمد الحوار أحيانا في الرواية؛
وما يمكن تثمينه في هذا العمل الروائي هو كتابَ التَّاريخ بقلمِ الأديب, ووجدان العاشق وقلبِ العاشق..
الفصل الرابع عشر والخامس عشر
سرد لحكاية عشق بين لبنى وجمال في رحاب الجامعة اوتعلق عصام بصديقتة السينيغالية السوداء البشرة وبوحها لأمها بعشق التونسي عصام
واحدوثة لاعطر بعد عروس بين جارة وجارتها الأرملة
فحكايا العشق هنا هي براعة الراوي لكي لا يسقط في فخ التاريخ ولا تفقد روايته روائح الأمكنة والأزمنة وما حضنت من قصص عشق رغم ضراوة الأحداث وقساوتها ..
وما يُبهرُ حقّا هو المضموني والتوثيقي للحركة الطلابية التي لم يسبق حسب علمي أن درسها مبدع في أعماله رغم ريادة نضاليتها ستجعل كل طالب في تلك الحقبة يتحوّل الى بطل فتتماهى الأنا فيه فخرا واعتزازا بهذه النضالات..
وقد حقّق تفوّقا كبيرا غير مسبوق في مخاتلة القارئ عبر تقريبه من طبيعة الأحداث التي رواها
فما أن أدركت الفصل السادس منها حتى وجدتني أنا أيضا بطلة من أبطالها وشخصية من شخصاياتها
وضعتني أحداث المشهد في قلب اللّعبة …في قلب الحدث…وكأني بالراوي يحتم عليه مشاركته الرواية، مقوّضا السائد في التعاملبين مؤلف وقارئ…
المقطع مجتَزَاُُمن الفصل السادس
يقول الراوي
فياضنات واد بياش بقفصة ..
“مياه هادرة ترعب السكان …كارثة قادمة كان ذاكر في سنته الأولى من التعليم الثانوي..
وأقول
كانت منوبية في أول عهودها بالتدريس..
مازالت الأحداث ملتصقة بذاكرتها
ركبت شاحنة الجيش الوطني لتعود الى قصر قفصة ……لكن والدها أرسل زميلا له لينزلها فتقضي الليلة في دار المرحوم الصادق بلحاج رئيس منطقة الحرس الوطني الذي جازف بحياته مع سائق التراكس في محاولة يائسة لإنقاذ الغارقين
..حملت الشاحنات عددا من التلاميذ والموظفية ..اجتازت الشاحنة الأولى الواد بصعوبة وتلتها الثانية لكن المياه جرفتها ..وكانت تقل عددا من التلاميذ ومنهم من كان زميلا لها
هاجت قفصة وماجت
وجاء محمد الصياح وهو وزير التجهيز وقتها …لكن أهالي الضحايا الغارقين في الفاجعة أطردوه وطالبوا ببناء جسر على واد بياش
ولم تبق المدينة غاضبة فقد أسرعوا وانجزوا الجسر …
فصل من فصول الرواية أرشّح له عنوانها
“حدث في تلك الليلة ”
فما حدث كان رهيبا موجعا محزنا كارثيا ..
فشكرا للراوي الذي منحني خيوطا ومسالك لأدخل قلب الحدث وأصير احدى شخوصه ….
إنّه منهج مُسْتحْدَثُُ وشكل من الإنفتاح في تسريد التاريخ وتأريخ تسريده تجعل الذات القارئة غير منفصلة ولا منبتّة عن تاريخ أمّتها ووطنها ..
والفرد يتحدّد في هذا الجنس الروائي التاريخي بما في تاريخه من معنى وقيمة وأحقيّة نضالية وصراع من أجل البقاء
“حدث في تلك الليلة” عمل روائي تاريخي تأريخي حقق ما يمنحه شرعيته الواقعية يحمل سمة العمل الروائي الملتزم فنيًّا وايديولوجيا
وأجزم أنها من الأعمال التي تمنح قارءها لذة تاريخ كاد ينام في بطون النسيان والتهميش.
وتبقى القراءة في هذا المنجز أفقا يتيحه التلقي …ينتظر قراءات أخرى تكمله
منوبية الغضباني
القصرين في 5.11.2022[/QUOTE]
Discussion about this post