قراءة بقلم الناقدة والروائية التونسية الأستاذة حبيبة محرزي Habiba Meherzi لنصي المسرحي المونودراما(أخيرا سنلتقي)، شكرا للاستاذة حبيبة محرزي، مع خالص الود والامتنان.
**
**أخيرا سنلتقي**
هل هو وعد لقاء ام نعي فناء؟؟؟؟
نص مسرحي للأديب والمسرحي جبار آل خديدان القريشي/العراق.
يقسم الكاتب نصه إلى فصلين .الاول :
**الخطاب المسرحي **
يفتتح النص ب*الخطاب المسرحي*وهو عبارة عن تاطير من حيث المكان ومؤثثاته . هذا المكان المغلق ليس مجرد عنصر سردي يجسد فضاء الأحداث ومكان وقوعها بل هو شريك فاعل في مطلق الحدث ماضيا وحاضرا ومستقبلا . فالمسرح عبارة عن زنزانة قذرة .تمهيد لاحداث درامية تراجيدية بما أن المكان منغلق وبانغلاقه تنغلق الأحداث وتتحدد صنوفها ويقفز المتلقي إلى ما جمعته الذاكرة من خصوصيات المكان الذي يحشر ضمن المرذول والمكروه بل الأشد قضما لإنسانية الإنسان .و الشخوص الذين سيتحركون في هذا الركح “سجين ثابت وسجان متغير.” والإطناب في الوصف وتحديد خصوصيات المكان بدقة للتأثير في القارئ وإقناعه بالواقعية .
المكان ثابت الزنزانة والنافذة بقضبانها الحديدية . غير أن المنقولات نفسها تحيل على التوتر والاستمرار بل هي تؤرخ لمن يعيشون الحدث الان ومن عاشوها ومروا لتظل “ملابس وحقائب اغراض مغلقة …حائط منقوش عليه كتابات واسماء وصور وقلوب….”تعمد الكاتب التنكير في تعداد الأشياء المكونة للمكان ليحدد موقفه مما يرى والمعجم يجعل المتخيل اقوى وأشد تأثيرا من موصوف يخيل على ابشع الممارسات إلظلمية القهرية في حق الكائن الحي “سوطان ..دماء متيبسة.نقالة …. الكاتب جرجر المشاهد ووجهه الى بوتقة التعذيب بكل دلالات المكان .والأهم من كل ذلك أنه وبوصف هذه المنقولات قد فتح نافذة على الماضي “القلوب والكتابة والدماء المتخثرة كلها تجعل ذهن المتلقي يفتح كوة ليستحضر أصحاب هذه الشواهد ويستبق الأحداث لتكون لها لواحق منها ما يصفه حاضرا ومنها ما يرجئه مخزنا في الذاكرة الجماعية لمرجع قار “الزنزانة” فالتداول حدث جعله الكاتب دوريا متواصلا لا يتوقف .
والجزء الثاني *الفعل المسرحي”
سيستهله بتحديد الزمان الفاعل والذي هو من جنس المكان في انسجام تام “ظلام مطبق “نقطة الضوء الوحيدة تكشف جسدا شبه عار مسجى على نقالة…..ولتوضيح الصورة والتأكيد على فظاعة المشهد وتقريب اللامعقول من المتلقي يلجأ إلى التشبيه التمثيلي ،لان المشهد غير عادي ولابد له من أساليب تعريفية توضيحية لإقناع المشاهد بالمحتوى ، ومشهد الخارج من حريق …ليس بجديد ولا غريب على المشاهد والكاتب يحاجج المتلقي بوقائع ثابتة من الواقع المعيش .
والكاتب سينتقل من الثابت إلى المتحرك ” يتحرك الجسد ببطء …يتحامل على نفسه ليجلس … والراوي عليم بباطن الشخصية المتألمة التي أوحى بها المكان والزمان وجعل المتلقي يستحضرها لأنها حاضرة في الذاكرة المباشرة وفي تسلسل لانهائي واقتحام الموسيقى والمؤثرات الصوتية لتكثيف المعاناة واثقال المشهد بكل ترسانات التأثير خاصة وأن المعجم متكامل مجتث من سجلات التعذيب والتقتيل الممنهج والأفعال المنسوبة الى “البطل” الإشكالي جلها تشترك في الوزن والدال على الشدة في القيام بالفعل “يتفحص ، يتالم ،يتأمل …يعاني”
والراوي وان حاول أن يكون محايدا متخفيا إلا أنه على دراية بكل حيثيات التعذيب كمنهج له وسائله التي يستحضرها من مخزون الذاكرة القهرية التي يشترك فيها مع المتلقي بل هي مخزون مشترك لأبناء الوطن الواحد أو المذهب الواحد أو الفئة الواحدة.. إضافة إلى تسمية إحدى مكونات الزنزانة بتسميتها الشعبية السجنية الدلالية “عنقرة” ليغرق الأحداث في واقع خبر البطل ومن معه خصوصيات المكان في علاقتة بالسجناء الذين لا يحضرون إلا في علاقة تراكمية من حيث الالم والأذى لكنهم لا يساهمون في تقدم الأحداث فيدخلون في ثنائيات الجامد والمتحرك .القابل والرافضة. السلبي والايجابي . ليظل البطل الواعي بعمق المأساة الجماعية يحذر ويناضل في “مونولوج ” افتراضي بما أن المجموعة مسحوقة في القاع .
الراوي سهل على المخرج تجسيم الأحداث بأن حدد له زاوية الرؤية بل وجه الكاميرا لنقطة ضوئية شكلا لغاية الكشف وتنبيه المتلقي كي لا يتشتت المشهد ويظل يتبع البطل في المظهر والحركة والعلاقة بالآخر و المكان كفاعل تراجيدي يجعل السجناء أكثر اتحادا ولو من طرف واحد بحرصه على عدم ايقاظهم .تناصر ضمني.
الصوت يكشف انتماء البطل وعلاقته بمن حوله كمتلفظ “انها حقا مسخرة …النوم جنب المعنقرة …مسخرة ….مسخرة .
ثم إضافة يقول ..ممتعضا:
_كم هو مؤلم ومؤسف …”كشف الاكراهات التي يتعرض لها السجين “الذي يتجرد من حميميته ..تحت القهر والإكراه ….”
و”كم” للتعبير عن الكمية في تجاوز المعقول والممكن كمية من القهر والإكراه …وهو في الأصل موقف صاحب النص الذي يتسلل من الفرد إلى الكل من تجربة خاصة إلى تجربة جماعية كمية .
ينظر …يهز مضارع يحيل على عدم الانقضاء …فالحديث مستمر متواصل وتلك هي المعضلة .اي تجانس الماضي والحاضر والمستقبل .
والكمية تغرق الحدث في المطلق .ليبني المسرحي مقارنة بين ماض بعيد مثالي قوامه “الحياء والمروءة “وحاضر فيه “يضطر وعرق الحياء يتصبب من كل أنحائه …” والإلحاح على التمسك بالفضائل لتحديد هول التضحية “كثيرا ما أجبر نفسي على الصوم …”قمة الأذية أن يصبح المعذب في موقف مدافع ومتمسك بما تربى عليه .قمة المهانة أن يصبح متسلطا فاعلا على نفس ضعيفة خاوية “حتى اني أشعر بالجوع والخواء ” والتبرير افظع من الحدث حينئذ يصبح الحق تكرما وفضلا ” تكرموا علينا …”حدث منقض مقيد بزمن منته فيه الفواعل غائبون الا من ضمير مستتر تقديره “هم” وتلك قمة الإذلال ، والتغييب مقصود فهم حاضرون بأفعال تتصادم مع ما تربى عليه من أخلاق .لكن هذا التزمين وإن بدا محددا منقضيا إلا أنه نقطة بداية ” تبدأ بعدها بدقائق حفلة التعذيب”والحفلة استعيرت من سياقها الأصلي لتضاف إلى “تعذيب صباحي”المضاف إليه نكرة موصوفة لأن لا صفة لها فنعتها بالزمان “الصباح “الذي تجذر في المخيال الإنساني كبداية يوم جديد يصاحبه النور والامل . سخرية مرة لاذعة أن يقترن الحفل بالتعذيب .قمة الإجرام والتحريض ان تقترن الحفلة والصباح بأبشع مصطلح يحيل على الأذية والغطرسة والظلم :معجم تتصافع مفرداته وكأنها في ساحة حرب شرسة لا عاقل فيها ولا حكيم .
ليتدخل السارد ويصف الوضع النفسي للبطل المأساوي التراجيدي “بوجع عميق…” هو عليم بالباطن والظاهر .
غير أن الكاتب سينتقل دون تمهيد من ضمير المتكلم المفرد”انا” إلى جمع المتكلم “نحن” لتصبح المواجهة بين “الهم ” ونحن” فاعلون ظالمون في مواجهة مفعولين مظلومين”.عودة إلى التحرك الفردي على الركح “يقترب من الأسماء المنقوشة …”هذه الأسماء المحفورة في ذاكرة البشاعة الإنسانية هي الحجج والأدلة والبراهين على جور حكام ظالمين .لتبدأ المواجهة بين المتكلم المفرد والمخاطبين لتبدأ الخطبة بأسلوب انشائي يقوم على الطلب ، الأمر “كفاكم غثيانا….حطموا ..اقتلعوا .. مع الاستفهام الإنكاري الدال على انتهاء الغاية الزمانية “إلى متى ؟”ليعود إلى الخبر المنقضي في الماضي “استمراتم” ..
والشاهد من كوته الضوئية يتابع الحدث “يتفجر باكيا والناس”
مشهد مسرحي مؤثر موجع يزيده عمقا وأسى صفات المكان الذي يصبح شريكا في الجريمة “هذا القبو الموبوء بالعصا والاختراق ….والكاتب وفي تناص مع النصوص الدينية التي تؤكد على “الفرج بعد الشدة، والسعة بعد الضيق “في ثقة بالقوى الغيبية .والوصف لمخلفات التعذيب على الجسد بطريقة تخفى فيها السارد المسرحي وراء صوت الضحية لغاية الاقناع بالمعاناة لرفع درجة الإقناع بواقع مر موجع سيسربه المسرحي من خلال حوار بين حاضر وغائب …اشتركا في المعاناة القهرية جراء الظلم. والتعذيب… ليصل حد العنف الذاتي .قمة التأثر “يضرب رأسه بالحائط”…يدور في “المسرح” تحديد المكان الركحي لتذكير القارئ أنه أمام عمل فني مسرحي مجتث من الواقع والشاهد أو بطل الملحمة التعذيبية “حسين موحان” واستحضار نزاريات قباني “أحبك رغم الذي كان …” في المستوى تسمو العواطف المجردة على مسالك التعذيب الممنهجة ليتغلب الحب على العنف ..المكنى “قابض الأرواح هذه المفارقة الغريبة بين من يتشبث بالحب ومن يتشبث بالقتل واستعجال النهايات .وما تدقيق الكاتب في اختيار المعجم الذي يؤكد الجرم والقسوة ، مقابل ضعف الشخوص المحرومة من الحرية إلا دليلا على موقف الواعي بضرورة التغيير والسمو بالعلاقات الإنسانية إلى الأفضل بالتواصل والتحاور .. فصول التعذيب هذه شاهدها العالم كله في “ابو غريب ” وغيرها من سجون الظلم والاستبداد وهي راسخة في الذات الإنسانية .وحرص المسرحي على نبش هذه المأساة يعود إلى تصنيف مؤثثات المشهد بين مرئيات ومسموعات ومحسوسات . لأنه يتقمص دور السيناريست والمخرج بحكم العلم بالشيء .
حلقات التعذيب التي ينقلها النص ويدعى الممثلون لأدائها بالاحاسيس والمواجع والآلام مؤثرة جدا ولا أظن متفرجا واحدا سيستطيب هذا الجلد إلا من التاع من قريب أو بعيد من التعذيب والظلم والاضطهاد .خاصة وأن المعجم الطاغي “صالة الرعب …السوط …الحقد التشفي …غير أن الأسوأ من كل سيئ أن يحضر مسؤول كبير حلقات التعذيب …ب “ابطال “يستعرضون قدراتهم على الأذية والعنف …تلك هي المأساة الحقيقية .الحاكم الظالم المتلذذ بتعذيب المعارضين .
“يعم الظلام أرجاء المسرح من جديد …”هذا التذكير بالركح لتأكيد أننا إزاء عمل فني توعوي على المتلقي أن يعي بهذه الماسي ويمني النفس بأن الأمر لا يعدو أن يكون تمثيلا لا رابط بينه وبين الواقع …
هذا الواقع المر الذي نهاب سماعه أو مشاهدته فكيف هو حال من عايشه واكتوى جلده بسياطه ؟
لكن قوة المسرحي حين يحمل بطلا واحدا كل هذه المفارقات ليعتمد على الومضات الماورائية أو ما يسمى في عالم السينما “فلاش باك” لتتلاحق الأزمنة وتتقاطع في زمن قياسي وبطل وحيد مأساوي عايش الأحداث حضورا وغيابا فردا وجماعة ماضيا وحاضرا ”
كل المسرحية تدور بين فرد معذب واع ومجموعة معذبة تغط في النوم .هذه المفارقة تخرج بالنص من مجاله الضيق حلقات التعذيب إلى مجال أوسع انساني مصيري فيه تنبيه وتفريع لمجموعة جعلها المسرحي في عداد المنتهية مقارنة ببطل يلبس الابيض ويختار النهاية لأنه صوت وحيد حرمه الكاتب من كل رابط عائلي دموي اجتماعي. هذا الإلحاح على الفردية هو في الحقيقة صوت الواعي المصلح الذي يرفض الظلم ويدعو إلى وعي جماعي لإنقاذ الانسان من ظلم من يدعي الإنسانية . والنهاية باللباس الأبيض الذي اختلف عما بدا في اول النص “ثياب رثة ….ملطخة بالدماء”قد تكون انتصارا ولو ضمنيا لبطل يرفض مصيرا مشابها بمن نقشوا أسماءهم على الجدران في الزنزانة .
نص مسرحي بمشهدية عالية ومعجم القهر و الغطرسة والعنف والموت والجوع لتخاطب الإنسانية وتلفت الإنتباه بل لتصرخ بوجوب تجريم التعذيب وتطهير المجتمعات من الاضطهاد والظلم ..
نص بجمالية فنية مسرحية عالية رغم الوجع لأن كما قال محمود المسعدي “الادب مأساة أو لا يكون”
حبيبة المحرزي
تونس
Discussion about this post