رحماك… نار الشوق
نقد لقصيدة صفية الدغيم،
بقلم/
مدحت عبد الجواد
أقدم لكم شاعرة تمتلك ناصية البيان بقوة، ومهما أصف شعرها فلن أوفيها حقها، لاتتكلف الشعر، بديعة التراكيب، رائعة السبك، وإن أردت أن أقسم طبقات الشعراء فى عصرنا وضعتها في منتصف العقد فهى جوهرة الشعر الثمينة.
بداية.. هى لم تضع عنوانا للقصيدة التي بين أيدينا ولعلها وضعت لها عنوانا في ديوانها، وأما هذا العنوان الذي بدأت به هو من عندي، ولن أطيل في المقدمة بل سأذهب للقصيدة مباشرة.
وسأعرض كل بيت وأتبعه بما يفتح الله على..
……….
تناءيتَ عن قلبي، بمن سوف تحتمي
وغادرتَ أحضاني فأينَ سترتمي
_ تفجأنا الشاعرة بموقف مستنكر للحبيب الذي ابتعد عن قلبها، وقد قدمت فعله ثم استنكرته باستفهام استنكاري عمق الإحساس بسوء فعله من وجهين، أحدهما استغراب اختياره بالبعد رغم حاجته للقرب، والآخر بالأثر النفسي الذي خلفه في قلب الحبيبة، وتأمل الاستعارة في التركيب ثم تأمل سبك الاستفهام بسوف التي تخوفه من مستقبل فقد فيه الحماية والأمان، ثم عطفت بالفعل غادرت المترتب على تناءيت وهذا الفعل جعل من الأحضان موطنا كان يحيا فيه بأمان، واستخدام السين مقترنة بالفعل ترتمي الذي صنع تصريعا رائعا وأضاف للأحضان بعدا جديدا يشعرنا بمدى راحة المحبوب فيه فتعجب كيف غادر الراحة والأمان، وتأمل القافية التي أظهرت خضوع المحبوبة واستعطافها وقلة حيلتها أمام تصرف المحبوب وفراقه دون إرادتها، فلم تشاركه الإرادة بل تألمت لفراقه.
وهنا أشعر بأن الحبيب هو ابن لها فقدته وأنها ربما تذكره وتستعيده وأن كلمة ترتمي صنعت تورية بين الارتماء في أحضانها والارتماء في التراب، ونستطيع أن نقول أن عاطفة الأمومة طاغية على عاطفة العاشقة.
وَكنتَ سمائي، حيثُ سرتُ تُظلُّنِي
وتجمعُ غيماتي و تحرسُ أنجُمي
_ تأمل التشبيهات المتراكبة، وإعادة توظيف السماء كمظلة، وحماية وحتى الغيمات التي تشير للأحزان والنجمات التي تشير للآمال والنجاحات، وهنا تظهر تبادل المواقف فهى تذكر له دوره في تبديد أحزانها وإنارة حياتها، وتأمل الأفعال تجمع التي توحي بجمع الثمار، وتحرس التي توحي باليقظة، وكأنها جعلت منه حارسا وهنا تبرز أهمية الحماية والأمن التي تنشدها المرأة في رجلها وحبيبها.
وكنتَ إذا لامستَ في غفلةٍ يدي
تُطَوِِّقُ أسرابَ الحمامِ بمعصمي
_وتلجأ إلى الشرط مسبوكا مع استعارة لم تسبق إليها شاعرة غيرها، وتجعل لمسته ليدها في غفلة منها، كمن يطوق معصمها بأسراب الحمام فهى تستخدم الحمام في إشارة إلى السلام النفسي والراحة والاطمئنان، ثم تربط بين سمائها وأسراب الحمام، في ربط عجيب فالفعل تتوق يوحى بالقوة ولم تقل تزين فالنفس تحتاج إلى قوة ثم اليد هنا أعطتنا إيحاء بالعطاء.
ألوذُ بصمتي وهو أصدقُ شاهدٍ
وأبلغُ مقروءٍ على فَمِ أبكمِ
_ ما هذه الاستعارات الرائعة؟! تلوذ بما في الفعل من تعلق وخوف ورجاء واستعطاف للصمت، وكأنه كهف تحتمي به، ثم هو شاهد على حالة ينطق بما سكتت عنه، وأصبح الفم الذي لايتكلم كأنه لوح مقروء واضح البيان.
أنا امرأةٌ قصَّ الزمانُ جناحَها
وقال: اعتلي صرحَ السماءِ بِسُلَّمِ
_ مفارقة رائعة تعكس ظلم الزمان الذي سلبها الأجنحة التي تهبها القدرة على الطيران ثم أمرها أن تصعد بسلم إلى السماء، وتأمل هنا مدى الضعف في قولها أنا امرأة لا طاقة ولاقدرة لى قد كان حبيبي هو أجنحتي التي أطير بها إلى السماء محلقة، وقد حرمني منه الزمان، وتأمل الأمر باعتلى… الذي يحوي اقتباس وتأثر بالتراث معا.
أسيرُ وأدري ما لِدربِيَ آخر
ولا زادَ لي إلا فتاتُ تَحلُّمِي
_تأمل السير دون هدف والتخبط دون أمل وتأمل السبك بين القصر والاستعارة فليست تمتلك زاد وما زادها إلا أمل وشوق وحلم وصبر وهى ما عادت تملكه، وتوحي أسير بموجة الحياة في سيرها فكأنه طريق ولكنها حياة تسير نحو منتهاها تحيا دون حياة وقد فقدت الأمل فما أصعب الطريق وأطوله على من فقد الحبيب، وفتات من بقايا التحلم يقيم أودها.
وهنا أتركك مع بقية القصيدة ترتاد طريقها وحدك عزيزي القارئ وتتذوق وحدك جمالها، فهى تحوي من الجمال ما يحملك على التلذذ بالشعر الصادق.
……..
النص
وفي خاطري ذكرى لها طعمُ علقمٍ
وريحٌ كريحِ الموتِ في كفِّ مجرم
مُصابي لمن أشكوهُ ماظلَّ صاحبٌ
وهمِّي لمن أحكيهِ والماءُ في فمي
وقد كنتُ أخفي الوجدَ حتى وجدتُه
يُفَتَّق من عيني ويعبقُ مِن دمي
ويا دهر ما أبقيتَ للقلبِ فرحةً
يُعزَّى بها حتى تقولَ تَبسَّمي
أعرني خيالاً منهُ يملأُ ناظري
وَخُذ كل أحلامِ السنينِ بدرهم
وياسُحُبَ الميعادِ إنْ لم تُبلِّلي
فؤادي بغيثٍ منك، مُرِّي وسلمي
ويانارَ هذا الشوقِ دونكِ خافقي
فخليهِ يشقى في لظاكِ أو ارحمي
……..
بارك الله فيكم وزاد الشاعرة تألقا وإبداعا لتثري اللغة العربية، وتؤكد رحابتها.
Discussion about this post