في مثل هذا اليوم 25 نوفمبر1491م..
بدء حصار غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
أهالي غرناطة مروا بمعاناة قاسية خلال اعوام الحصار، وقامت القوات الاسبانية بتحطيم وحرق الحقول المجاورة للمدينة، ما تسبب في مجاعة رهيبة بين سكان غرناطة، ولهذا السبب اكلوا الخيول والكلاب والقطط. لم تكن تملك غرناطة سلاحا أقوى من الشجاعة، ولا أمضى من الصبر في المواجهة والثبات عند اللقاء، فصمدت إلى حين، وظلت المدينة تعاني الحصار زهاء سبعة أشهر، وتغالب نكباته في صبر ويقين، وتواجه الجوع والبلاء بعزيمة لا تلين، وحاول الفرسان المسلمون أن يدفعوا هجمة النصارى الشرسة بكل ما يملكون خارج أسوار المدينة، لكن ذلك لم يغن من الأمر شيئا، فالأحوال تزداد سوءا، والمسلمون تتفاقم محنتهم، وانقطع الأمل في نجدتهم من بلاد المغرب.
فوزع فرديناند وإيزابلا ثلاثين ألف رجل على الحقول التي تمد غرناطة بالغذاء ليكتسحوها. فأتلفت الطواحين ومخازن الغلال ودور الفلاحين والكروم وغياض الزيتون والبرتقال، وحوصرت مالقة ليمنعوها من تلقي المؤن إلى غرناطة أو إرسالها وصمدت مالقة للحصار حتى أكل سكانها كل ما تقع عليه أيديهم من الخيل والكلاب والقطط، وكانوا يموتون بالمئات من الجوع أو المرض. وأرغمها فرديناند على أن تسلم بلا قيد ولا شرط، واستعبد الأثني عشر ألف الذين بقوا من سكانها، ولكنه سمح للأغنياء منهم بأن يفتدوا أنفسهم بتسليم كل ما يملكونه. واستسلم عز زغرل وأصبح إقليم غرناطة بأسره خارج العاصمة في أيدي المسيحيين.
وشيد الملكان الكاثوليكان، فسطاطاً كاملاً لجندهم، حول القلعة المحاصرة وأطلقوا عليها اسم سانتافيه، وانتظروا أن يموت أهلها جوعاً، ليجعلا مفخرة الأندلس تحت رحمتها، وخرج الفرسان المسلمون من غرناطة، يطلبون مبارزة فرسان الأسبان فرداً لفرد، واستجاب هؤلاء بعزم مماثل، بيد أن فرديناند لما رأى أن خير المحاربين من رجاله يقتلون واحداً بعد واحد، على أساس خطة الفروسية هذه، وضع حداً لتلك المبارزة، وقاد أبو عبد الله قواته في هجوم يائس، لكنهم ردوا على أعقابهم وأنفذت الرسائل تطلب العون من سلطان تركيا ومصر، ولم يتلقوا شيئاً، فقد كان العالم الإسلامي منقسماً على نفسه كالعالم المسيحي.
ولم يجد أبو عبد الله بداً من توقيع شروط التسليم التي أسبغت شرفاً نادراً على الفاتحين. ذلك لأنه سمح لأهل غرناطة أن يحتفظوا بمالهم ولغتهم وزيهم ودينهم وشعائرهم، ولهم أن يحتكموا إلى شريعتهم وقضائهم ولا تفرض عليهم ضرائب إلا بعد ثلاث سنوات، وعند ذلك يؤخذ منهم ما كان يجبيه الحكام المسلمون، وكان على المدينة أن تفتح أبوابها لاحتلال الأسبان، وللمسلمين حق الهجرة من المدينة إذا شاءوا، ويجب أن توفر وسائل المواصلات لمن يرغب في العبور إلى إفريقية الإسلامية.
في ظل هذه المحنة القاسية تداعت أصوات بعض القادة إلى ضرورة التسليم؛ حفاظا على الأرواح، وكان “أبو عبد الله محمد” سلطان غرناطة وبعض وزرائه يتزعمون هذه الدعوى، وضاع في زحام تلك الدعوة المتخاذلة كل صوت يستصرخ البطولة والفداء في النفوس، ويعظّم قيمة التضحية والكرامة في القلوب، فاتفق القائمون على غرناطة على اختيار الوزير “أبي القاسم عبد الملك” للقيام بمهمة التفاوض مع الملكين الكاثوليكيين.
ليس ثمة شك في أن هذين الملكين كانا وراء سريان روح التخاذل وإشاعة اليأس في غرناطة، وتهيئة الأوضاع لقبول التسليم، واستخدما في ذلك كل وسائل الإغراء مع السلطان أبي عبد الله وبعض خاصته.
استمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم، وافق عليها الملكان في 21 من المحرم 897هـ= 25 نوفمبر 1491، وكانت المفاوضات تجري في سرية خشية ثورة أهالي غرناطة، وحتى تحقق غايتها المرجوة.
ويتعجب المرء حين يعلم أن أبا القاسم بن عبد الملك ومساعده في المفاوضات الوزير “يوسف بن كماشة” كان سلوكهما مريبا، يقدمان المنفعة الشخصية على الصالح العام، فقد كتبا إلى الملكين الكاثوليكيين خطابا يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات التسليم، عُقدت معاهدة سرية أخرى، مُنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزراؤه منحًا خاصة بين ضياع وأموال نقدية.
وما كادت تذاع أنباء الموافقة على تسليم غرناطة حتى عمّ الحزن ربوعها، واكتست الكآبة نفوس الناس، واشتعل الناس غضبا حين تسربت أنباء المعاهدة السرية، وما حققه السلطان وخاصته من مغانم ومكاسب رخيصة، فسرت بين الناس الدعوة إلى الدفاع عن المدينة، وخشي السلطان من تفاقم الأحوال وإفلات الأمر من بين يديه، فاتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة قبل الموعد المحدد في 2 ربيع الأول 897هـ= 2 يناير 1492م.
ومع ذلك فقد احتج أهل غرناطة على استسلام أبى عبد الله. وتهددته الثورة حتى دفع بمفاتيح المدينة إلى فرديناند (2 يناير 1492) وركب مع أقاربه وفرسانه الخمسين، وسط صفوف المسيحيين، إلى إمارته الجبلية الصغيرة التي كان عليه أن يحكمها تابعاً لقشتالة، ومن فوق الصخور الشماء التي عبر عليها ألقى نظرة أخيرة على المدينة الرائعة التي فقدها، ول اتزال هذه القنة تسمى آخر زفرة للعربي El Ulxtimo Sospiro del Moro وأنبته أمه على بكائه قائلة ” أبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال”.
ودخل في الوقت نفسه الجيش الإسباني بالمدينة. ورفع الكاردينال مندوزا صليباً فضياً عظيماً فوق الحمراء، وركع فرديناند وإيزابلا في ساحة المدينة شكراً لله الذي أخرج الإسلام من إسبانيا بعد إحدى وثمانين وسبعمائة سنة.
في هذا اليوم استعد الجيش القشتالي لدخول المدينة، وأطلقت المدافع في قصر الحمراء طلقاتها إيذانا بالاستعداد للتسليم، ودخلت القوات المسيحية، واتجهت توا إلى قصر الحمراء، وما إن دخلت القوات حتى رفعت فوق برج القصر الأعلى صليبا فضيًا كبيرًا، وهو الذي كان يحمله الملك “فرديناند” خلال المعارك مع غرناطة.. وأعلن المنادي بصوت قوي من فوق البرج أنّ غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين.
وباستيلاء القشتاليين على غرناطة طُويت آخر صفحة من تاريخ دولة المسلمين في الأندلس، وقُضي على الحضارة الأندلسية الباهرة وآدابها وعلومها وفنونها.كانت مدينة غرناطة في هذا العصر أجمل مدن العالم بشوارعها النظيفة وميادينها الرائعة وحدائقها الغنّاء، ومبانيها ومرافقها الجميلة، ولا تزال آثارها الباقية تشهد على ما بلغته المدينة من رقي ومدنية.
وقد اشتهرت مساجد غرناطة باستخدام الرخام، وتجميل صحونها بحدائق الفاكهة، وإقامة المآذن منفصلة عن المساجد، وتوجد الآن مئذنتان يرجع إنشاؤهما إلى هذه الفترة الأولى: مئذنة مسجد تحوّل إلى كنيسة، وهي المعروفة باسم كنيسة “سان خوان دي لوس ريس”، والأخرى ببلدة “رندة” التي تحول مسجدها إلى كنيسة باسم “سان سباستيان”.
ويعد قصر الحمراء من أعظم الآثار الأندلسية الباقية، بما حواه من بدائع الصنع، والمهارة الفنية الراقية، بالإضافة إلى قصر جنة العريف، وهو يقع بالقرب من قصر الحمراء ويطلّ عليه، وكان يتخذه ملوك غرناطة متنزها للراحة والاستجمام.!!
Discussion about this post