أولا النص
دسوق لاتنام!
ترى من يذرع الآن أرصفة القطارات جيئة وذهابا؟
فسباق المسافات الطويلة يعجز الجياد التي ضرب التخشب سيقانها،
في زمن مضى كنت أحد هؤلاء الذين لفظتهم الأمكنة العطنة إنها تعادي البشر والحجر؛ يتلمس مكانا آخر ويبحث عن بلاد أخرى؛ يجري وراء القطار الذي لايأبه بالراحلين؛ آلة نثير الصخب والزعيق؛ في دسوق كل شيء فقد معناه، حين عاد بي الزمن أتساءل: لم هي وحدها دون بقية المدن تعطي ظهرها للنهر وفي عناد تخاصمه؟
سمعت أنها تخاف التماسيح تأتي زمن الفيضان قبل بناء السد؛ تسكنها أصناف من البشر: من الصعيد والنوبة والغجر والطليان والأرمن، كل هؤلاء تركوا فيها أثرا؛ محلج القطن وسكة البدالة وكوبري عتربس؛ منارة جامع الدسوقي؛ حتى بصمة الكف عند المقام يقال: أثر النبي.
شارع الصاغة ثراء لاينتهي؛ يبيعون القطن ثم يأتون إليه تزغرد النسوة فتحمر خدود العذارى!
أساور وحلقان و”خمسة وخميسة”
حين كانت ملتقى قطارات الدلتا؛ من المحروسة إلى المعمورة؛ وبيوت يسكنها عمال الدريسة، خواجات من كل لون.
فيها أسماء غريبة؛ الكشلة ودحروج؛ وأرض أريمون؛ وأرض مفتاح؛ تأخذ المدن بصمتها ممن سكنوا فيها؛
مضى كل هذا وبقيت ندوب عجز الزمن أن يمحوها.
في يوم الجمعة اليتيمة يلف المدينة حزن يكفيها للعام القادم؛ يقال إن الأولياء مصابون بداء النسيان؛ لم يعد أحد يحتفي بهم.
الوجوه هنا مصابة بالعتمة؛ يطول الليل تحت سياط القهر؛ باعة الخضروات والفاكهة يتكدسون كما لو أنهم صاروا كتلا خرسانية؛ شارع سعد ذلك النهر من البشر لم يعد يسكنه غير السراب؛ وقع الخطوات وصور المعروضات كل هذا أخرس؛ رائحة اللحم المشوي وألوان الثياب والمحلات تضج بالزبائن كل هذا الآن بات صامتا؛ أتذكر بعض هؤلاء الذين مروا من هنا؛ وجوههم تثير أسئلة لن تجد غير إجابة واحدة: الموت!
نخر السوس سفن السمك القادمة من رشيد؛ اختفت المراكب لم يعد كوبري السكة الحديد ينفتح وسط النيل؛ الصدأ أحاط بالمراكب.
أتلفت ناحية مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي هنا كان ميدان وساحة تمتد بأفواج من الدراويش؛ مقام مضاء تلفه رايات خضراء؛ بخور وأصداء ابتهالات في ظلمة الليل؛ عالم آخر يوازيه؛ سراديب تحت الأرض تضج بالدخان الأزرق؛ عتمة وهمس ولمس وعناق في شهوات عارمة؛ غجر يطوفون بالمكان؛ أساور من ذهب تسرق؛ نسوة تتمايل فتثير الوالهين من جاءوا يختلسون ساعة من ليل؛ حمص وسوداني وشخاليل؛ باعة الأوهام في كل مكان، تلك مدينة لاتعرف غير المال إلها تعكف عليه عابدة!
أتجنب الشوارع الخلفية حيث تقف الذئاب عند مداخلها؛ تروى حكايات عن أبو سن؛ ذلك الوحش الذي يسرق البنات؛ أستدير فارا إلى وسط الميدان؛ مجذوب يحمل ثوبا ممزقا يرفعه فوق خشبة أتراه يحمل روحه؟
كل هؤلاء المقهورين يجوبون الميدان؛ يلتمسون حياة أخرى؛ تتكاثر أمواج العراة حول المقام؛ يريدون الدسوقي؛ بعضهم من أقاصي البلاد؛ من أسوان وبلاد النوبة وجوه تجلوها طيبة القلب؛ ثياب بيضاء وعمائم خضراء؛ تمتليء السفن والمراكب بالقادمين من وجه بحري؛ هؤلاء من أشمون ومنوف وسرس الليان وكوم النور؛ مقام ولي الله وسره الباتع!
يتكاثر الغجر في أيام المولد السبعة؛ يمتلكون الأرصفة والشوارع والحارات؛ كل شيء في تلك المدينة يسير في العتمة؛ أفر من هذا الصخب ناحية المقام؛ أصاب بالحيرة؛ امرأة تبكي غياب رجلها؛ فتاة تخلع برقع وجهها؛ نذور تمتليء بها الحجرة؛ أبو سن يكدس الهدايا في خزانته؛ تتدلى من رقبته مسبحة من كهرمان؛ يسيل زبده فيتطاير في وجوه الغافين في سكرة العشق.
يضربني العطش فأميل على سبيل الله فأرتوي؛ يعضني الجوع فأغترف من وعاء بخيمة حبات الفول النابت؛ أتمايل طربا: مدد ياولي الله!
أتحسس جيبي فيطاردني الفراغ، أنظر قدمي فلا أجد غير جورب ممزق زارته الفئران، أنظر في وجوه الماربن فأجدني مجدور الوجه؛ أراقص بحاجبي فتاة تتثنى؛ مولد وصاحبه غائب؛ كل شيء هنا مباح؛ إنها مدينة تبيع كل شيء؛ والثمن مؤجل؛ تتكدس عربات القطار فوق قضبان تائهة؛ تطوف خيول الدورية حول أمواج البشر.
أندس وسط هؤلاء الدراويش؛ في رقبتي حبل علقت أمي به قطعة خضراء؛ بت معروفا بين الناس؛ بهلول في ساحة سيدي الولي؛ ملئت خرجي باللحم والسمن والعسل؛ ارتديت سبعة أثواب؛ وضعت في إصبعي خاتما من عاج؛ أبو سن وهبني عصا؛ يتلمس الناس مني البركة؛ لم أغتسل منذ سنوات؛ فالأنثى بعيدة عني؛ عجز دهن العطار أن يداويني.
من ماء الحب أتطهر!
تجذبني امرأة من طرف ثوبي؛ يتمزق قلبي بين يديها فرخ يمام؛ تعانقني في حنو؛ تربت على كتفي؛ تبتهل في خشوع؛ اسم الله حارسه ولي من أولياء الله الصالحين؛ يحضر أبو سن حصانا أبيض؛ يرفعونني فوقه؛ ركب الخليفة وانشرح!
صدقت نفسي؛ فأنا اليوم من الأصفياء؛ حب العزيز وعمامة خضراء؛ ومقام ودراويش؛ آمر برمش عيني تلك الجموع؛ لايحق لهم أن يعترضوا!
أمد كفي فأخرج السر من بطن الحوت!
مدد يا صاحب المقام!
تدوي صافرة القطار؛ تمتليء الساحة بالهجانة عصي وكرابيج وأصوات غريبة؛ ضرب وسحق؛ انفض المولد وجرى كل واحد في خرابة بلد لاتعرف غير الفتونة وحب العزيز؛ مولد سيدي الدسوقي انفض؛ أتلمس جسدي الذي تبعثر في الميدان.
ثانيا القراءة:
كيف ننام ودسوق لا تنام؟!
عمرو الزيات
استهلال عجيب بهذا الاستفهام: ترى من يذرع الآن أرصفة القطارات جيئة وذهابا؟
تحاول أيها القارئ اكتشاف تلك الأرصفة، ترسم معالمها واتجاهاتها، إنها الأرصفة التي تربط (دسوق) بذاكرة قاطنيها؛ فلم تزل تلك المدينة العريقة رمزا لأولياء الله الصالحين، وملاذا لهؤلاء الفقراء التي زارت الفئران جواربهم وأثوابهم، يجدون فيها ظلا ظليلا من هجير الحياة حين يطحنهم الزمن بكلكله، معدات تبحث عن بعض حبات الفول النابت وحب العزيز تمنحها بعض القوة؛ وتبعث فيها غرائز فشل العطارون أن يوقظوها…
تجئ القصة بضمير المتكلم الذي يرى نفسه أحد هؤلاء وابن تلك البيئة بكل ما تحمله من مقومات وموروث، يرصد ويصور، وهو تاريخ تلك المدينة؛ لكنه لا يتدخل في الأحداث، ولا يحجر عليك – أيها القارئ – وأنت تتابع، ثمّة فروق بين ماضي و دسوق وحاضرها ” الوجوه هنا مصابة بالعتمة؛ يطول الليل تحت سياط القهر؛ باعة الخضروات والفاكهة يتكدسون كما لو أنهم صاروا كتلا خرسانية؛ شارع سعد ذلك النهر من البشر لم يعد يسكنه غير السراب؛ وقع الخطوات وصور المعروضات كل هذا أخرس؛ رائحة اللحم المشوي وألوان الثياب والمحلات تضج بالزبائن كل هذا الآن بات صامتا؛ أتذكر بعض هؤلاء الذين مروا من هنا؛ وجوههم تثير أسئلة لن تجد غير إجابة واحدة: الموت!”
إشارة خفية لآثار الحاضر التي لا ترحم تهدم كل قديم في غير رحمة؛ لكن الرواي مهموم بهذا الماضي ولا يستطيع أن يتحرر منه، يعيش فيه بكل جوارحه، تعانق روحه (دسوق) وهي تلك المرأة التي تجذبه “تجذبني امرأة من طرف ثوبي؛ يتمزق قلبي بين يديها فرخ يمام؛ تعانقني في حنو؛ تربت على كتفي؛ تبتهل في خشوع؛ اسم الله حارسه ولي من أولياء الله الصالحين؛ يحضر أبو سن حصانا أبيض؛ يرفعونني فوقه؛ ركب الخليفة وانشرح!”
تلك أمنيته، ويا لها من أمنية!! “صدقت نفسي؛ فأنا اليوم من الأصفياء؛ حب العزيز وعمامة خضراء؛ ومقام ودراويش؛ آمر برمش عيني تلك الجموع؛ لا يحق لهم أن يعترضوا!
أمد كفي فأخرج السر من بطن الحوت!
مدد يا صاحب المقام!”
بيد أن الحاضر سياطه مؤلمه يفيق على صافرات قطار هذا الحاضر تسحقه تلك السياط وتكتظ الساحة بالهجانة ويكثر السحق، ضاع حلمه وإذا به يتناثر بالميدان وينفض مولد الماضي ويطل شبح الحاضر الذي سرق حلم الولي.
يبرهن القاص أن الأديب ابن مجتمعه، وأن الأدب الحق لا بد أن يكون مرآة صادقة لواقع هذا المجتمع، وصديقنا خير من يعبر عن ذلك، ولا ريب أن الأديب الحق هو من يحمل رؤيته للعالم بحكم انتمائه الثقافي وموقفه الفكري.
Discussion about this post