مقاربات نقدية تجديدية-تحليلية لنص عبور مرحلي للمبدعة ايناس سيد جعيتم ام عمر
بقلم الناقد حسن أجبوه
—————————————————————
النص :
عبور مرحلي
أغلقت عينيّ رغمًا عني؛ فرداؤها القصير الذي يكشف عمّا يعلو ركبتيها أكثر إغراءً من ظلمات خيالاتي، بصوت رخيم تسللت لعقل كلٍ منا وكأنه الوحيد المقتحم دائرتها:
– أغلق عينيك… تنفس بعمق… أترك كل شيء وادخل حجرتك الخاصة… أغلق بابك والنوافذ.. أطفئ المصابيح.. تحسس طريقك نحو تلك الستائر المخملية التي تفصلك عنه…
أين هي تلك الستائر؟ علّها في المواجهة، ماذا لو تعثرت بكرسيٍ أو منضدة وأنا أتجه إليها؟ لم تطلب مني أن أخلي حجرتي؟!
– تحسس ستائرك وأبعدها، اتركها واقتحم…
هذا ما تريدينه حقًا أيها المشاكسة! ولا أكذبكِ قولًا أريده أنا أيضا..
– أنت الآن داخل كهفك الخاص… إنه ملاذك الآمن…
جليدي! .. لماذا حصلت على كهف جليدي!..لماذا لم أحظ بكهف حجري دافئ، أو حتى كهفًا يعج بالفطر والخفافيش! ترى على ماذا حصل الآخرون؟
– ابحث عن حيوانك، إنه أيقونتك الخاصة ومصدر قوتك…
فقمة!.. رمز قوتي كتلة شحم وفرو! ..كائن رخو… له مخالب أليس كذلك؟ وأنيابٌ أيضًا… هكذا يلتهم صغار البطاريـ…
– دعه يرشدك دعه يقودك لمصدر طاقتك التي لا تنضب…
إنه يزحف مترهلًا على بطنه، كيف له أن يرشدني!..
لماذا لم يكن نسرًا قويًا يعتلي السماء وينقض..ويقتل، أو دبًا قطبيًا ضخمًا بمخالب عملاقة وفكين قويين وعضلات هائلة يهاجم بهم وينهش..ويقتل، أو..
تبًا لركبتيها الناعمتين، وحرف ذلك الرداء الحريري وهو ينزلق عنهما ليكشف المزيد من فتنتها، هي تقصد ذلك لا شك، رسالة وصلتني ويجب علي الرد..
ألا يفترض بتلك الجلسة أن ترشدني!.. ألا يفترض بها أن تخدر ذلك المكان المسؤول عن الوعي وتجعلني أطفو في مكانٍ آخر!
هي تفعل ذلك عن قصد، كهف جليدي وفقمة وما هذا الشيء؟.. معول!
هل باقي الكهوف بها معاول؟.. أم أنها دسّته لي خصيصا؟ إنه ثقيلٌ حقًا، ونصله حادٌ للغاية، لماذا أرسلت لي معولا؟ تلك الشقية.. تريدني أن أتحرر من كل تلك الهلاوس، تلك الفقمة لن تحتاج سوى ضربةً واحدةً على رأسها.. دمها دافئٌ ولزج، ما التالي؟.. نعم عرفت؛ جدران الكهف الجليدي، ضربةٌ وأخرى والثالثة، نعم تلك الشروخ تعني أنني اقتربت كثيرًا…
ههه نعم لقد استأثرت على جل اهتمامك الآن، تعجبني رجفتك وتسارع نبضك، هيا.. لا تضيعي المزيد من الوقت، نعم.. أكثر.. أشعر بدفء كفك وهو يضغط على صدري، تمهلي يا امرأة!.. ماذا سيقول جمعنا الصغير عنك وأنت تجثمين فوق صدري هكذا!.. يالها من نشوة غامرة! .. ترفقي بشفتيّ.. ما.. ماذا تفعلين؟! لماذا هذا الفزع!!
إيناس سيد جعيتم
—————————————-
🔖 القراءة :
قبل التعرض للنص الذي بين أيدينا، والذي يعتبر بحق انتقال مباغث و تصاعدي في طريقة المناولة والسرد لدى القاصة، حيث أن المتتبع لكتاباتها سيفاجئ بالطريقة والمنهج الغير الاعتيادي في طريقة المناولة، وهي بذلك تعبر بسلاسة عن ” عبور ” transition ليس مرحليا فقط، بل طفرة ممتدة ويمكن اعتباره ( قطيعة ابيستمولوجية بالمفهوم الباشلاري ) مع نصوصها السابقة.
لا من حيث المونولوج ولا الذات الساردة..
النص يفتح آفاق زمكانية بفضاءات رمزية، منبثقة من هواجس وتمثلات لشخصية البطل المريض او المهووس بجلسات التنويم الإيحائي hypnosis، وتفاعلاتها على كينوناته السلوكية.
وبما أن هذا النص هو انعكاس دلالي للثورة السردية بكتابات القاصة، أرتأينا أن نحاول تناوله وفق منهجية مختلفة تزاوج زاوية نظر جديدة ومختلفة… ونتمنى من الله التوفيق.
***اولا : مقاربة ( نظرية البنى المعرفية )
طوال سنوات من الاشتغال والقلق المتجدد، دأب الاستاذ سليمان جمعة على الاشتغال على النصوص وفق مرجعية مبتكرة وجديدة، تستحق منا الاشادة والتنويه، فكمرجع عربي متمكن من الذات العارفة، استنبط أستاذنا سليمان جمعة منهجا جديدا متكاملا عربيا أصيلا في التحليل والنقد، يستلهم أساسياته من التراث المعرفي ( العربي- الاسلامي ) كتابث لا محيد عنه، للاستغال على الدراسات الأدبية بشتى تجلياتها. ونحن من منظورنا سنحاول مقاربة نظريته ( البنى المعرفية ) واسقاطها لمحاولة مقاربة هذا النص.
والتيمة الأساسية التي نهجها السرد الحكائي بالنص تنهل أساسا من (بنية الخوف) :
– الخشية والخوف من المستقبل المجهول : منذ الخلق الأول تكشفت للانسان النزعة الأنطولوجية نحو الخلود، هي حاجات سليقية بيولوجية لاستدامة الحياة، هو شعور ميكانيكي مشترك بين كافة الكائنات : الخوف.. وعند حضوره وتمثله تنتفي باقي المحاور الادراكية ولذلك ( اختفت معالم التفكير لدى آدم وحواء وتناسيا أوامر الله: لا تقربا هذه الشجرة وتكونا من الظالمين) إنه ليس عصيانا بل خوفا من المجهول، دفعهما لارتكاب الخطيئة.. وبالعودة للنص الذي يتحدث عن جلسة للعلاج النفسي بواسطة التنويم الايحائي، هو بمثابة بحث مضن من طرف البطل عن الخلاص، هو محاولة مستميتة للتغلب عن ( بنية الخوف ) لذلك فالاشخاص الذين يستعينون بالعلاج التنويمي هم أناس يهابون من سلطة المستقبل. لذلك نجد المعالجة في حوارها مع بطل القصة تحثه على الاقتحام :
تحسس ستائرك وأبعدها، اتركها واقتحم…
هي دعوة صريحة ومباشرة لنفض غبار الهلع و اقتحام المجهول المشرق الذي سيجد فيه راحته وطمأنينته..
لذلك مافتئ بطل القصة يراوغ في تحدياته، مستكينا ومستجيبا رغم تعنته بالمغامرة، مستسلما للصوت القابع في ثنايا عقله المفكر، وهذا ما تمكنت الكاتبة ببراعة من إظهاره وإبرازه، بالرغم من الحالة العصابية المقابلة له.
الخوف من جسم الأنثى ومن خطيئتها الأولى ( فرداؤها القصير الذي يكشف عمّا يعلو ركبتيها أكثر إغراءً من ظلمات خيالاتي ) فالمؤمن المدرك لمآل أفعاله الشيطانية، يستعيذ بالله : ﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ الانعام 151.
لكن مغامرات البطل تتماهى مع الصوت تدريجيا، بمحاكاة تصاعدية تتداخل معها ايهامات الشر القابع بوعيه، فيزيد في تصدعها مجبرا على اقتفاء رحلة العبور، بأحاسيس متوهجة، ينقاد الى التجربة بكل جوارحه متناغما مع لذة الهدم والتكسير والقتل… كل ذلك في اضطراب محاكاتي بين الخيال والواقع. فتزداد نبضات قلبه وتتسارع تسابقه لمعرفة الماوراء الى ان تنكشف الحقيقة المرة والمتجلية في سقوطه صريعا محتضرا. منقسما على ذاته بين الحقيقة و الوهم. ومحاورته تحاول اعادته الى الحياة. في تحد تراجيدي يعارك شخصيته الانطوائية المرتعبة منتبها الى وضعه الحالم وهي تضغط بكفيها على صدره لانعاشه، مذعورا من عاقبة الفعل الجائر امام عيون الجميع:
(تمهلي يا امرأة!.. ماذا سيقول جمعنا الصغير عنك وأنت تجثمين فوق صدري هكذا؟!)
*** ثانيا : مقاربة ” القوى الناعمة ” للاستاذ محمد البنا :
القوة الناعمة (بالإنجليزية: Soft power)، هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع.
ومن ميدان الجيوبولتيك، نقل لنا الاستاذ محمد البنا المفهوم لميدان النقد الأدبي، في تطور منهجي للمصطلح، خلق ردود فعل متباينة ومتفاعلة. ونحن بدورنا سنحاول مقاربة نص ( عبور مرحلي) انطلاقا من النظرية الجديدة :
سننطلق من العتبات الرئيسية للنص وسنبدأ من العنوان لمحاولة صبر أغوار المتن النيو-حداثي للسرد الموظف، فمفتاح أي نص هو عنوانه، وقد اعتمدت القاصة البارعة كلمتين جاءتا بصيغة تنكيرية وهما عبور وهو مصدر لفعل عبر ومعناه الانتقال من ضفة لأخرى، ونحن كمتتبعين للمسار الانتاجي للكاتبة، نجزم أنها خلقت نوعا من القلق المعرفي لدينا، فالعبور المقصود وبدون أن نتمعن بتفكيك ميكانزمات النص هو إحالة الى الذات الساردة، حيث تتجلى حقيقة اللفظ في الحالة الابداعية للكاتبة التي تغمز لنا أنها في مرحلة انتقالية من حيث ابداعها القصصي، من الكتابات الحداثية الى مابعد الحداثية. ولكي تكتمل الصورة على أكمل وجه أضافت نعتا يبين ماهية العبور وأصبغت عليه صفة المرحلية، فأين تتجلى المرحلية في قضية العبور؟ ذلك ما ستجيب عليه ثنايا النص :
– قيل الكثير عن جلسات التنويم المغناطيسي كمؤشر لا غنى عنه لاستنطاق مكنون اللاوعي لدى الانسان، فمن منطلق التحليل النفسي الذي ابتدعه كبار الأطباء ( أمثال فرويد، يونج ..) نستشف تلك الرغبة الملحة في اصطحاب ( المريض ) الى متاهات الداخل بغية ايقاظ تلك الشرنقة الكامنة في عمق اللاوعي الادراكي لديه، واطلاق العنان لها للتكيف والانفلات والتحليق، لتعبر بكل حرية عما يعتريها من ضائقات ومشاغل.. فبطل القصة على ما يبدو شخص يعاني رهاب الاماكن المغلقة، يستعين بمعالجة نفسية تعينه على التخلص من كل مايعيق تحقيق ذاته والتغلب على نقائصه.. لكن في نفس الوقت نستشف تمايز ( الانا ) التي تغريه بمفاتنها، فتتصارع بدواخله توازنين سلوكيين( الليبيدو /
فتتصارع بدواخله توازنين سلوكيين( الليبيدو / الكبت ).
وفي هذا الاطار تبرز سلطوية الصوت كلجام يلزم البطل بالتعاليم بغية التقيد بها حتى لا يحيد عن الاهداف المرجوة من جلسة العلاج.. هذا الصوت الأنثوي الذي يمارس قيادة ديكتاتورية عليه، يلزمه باستيعاب مكنون اختيار حيوان كمرشد يستمد منه طاقته وعنفوانه في إحالة تناصية على فيلم ( أفاتار) للمخرج العالمي ” جيمس كاميرون” والذي حول جندي مقعد بكرسي مدولب الى نسخة سليمة قوية شبيهة بسكان مستعمرة ( باندورا) وهو نفس الاستنساخ الذي يكرسه الصوت مطالبا بطل القصة بالارستشاد بالفقمة. والفقمة كما نعلم حيوان ثديي بر-مائي، زاحف يعيش بالمحيطات وبالاماكن القطبية الباردة، وهي بذلك تدخل ( المريض) في عالم الشك ويتساءل عن جدوى اختيار حيوان زاحف
( إنه يزحف مترهلًا على بطنه، كيف له أن يرشدني!..) لأن الطاقة السلبية المتكنة منه ( شرور/ أوهام / هلاوس القتل…) تغريه بالتشبه برموز وحوش كاسرة مهووسة بالفتك والقتل ( لماذا لم يكن نسرًا قويًا يعتلي السماء وينقض..ويقتل، أو دبًا قطبيًا ضخمًا بمخالب عملاقة وفكين قويين وعضلات هائلة يهاجم بهم وينهش..ويقتل، أو..)
لكن الصوت الممثل للضمير الجمعي المتحضر يريد كبح جماح هاته السلوكيات فيومئ له باستخدام المعول لتكسير جليد الكهف وحاجز الشر، لكن بطل القصة وفي تماهي محبط يستغل المعول للاطاحة بمرشده الطاقي فيهوي على رأس الفقمة ويرديها جثة هامدة. في فشل ذريع لقوة الصوت وللجدوى القيمية للجلسة العلاجية الايحائية !
ان القوى الناعمة التي استنجد بها البطل لتخليصه من هلاوسه ومخاوفه انقلبت عليه، وانكشفت حقيقته البشعة والمتمثلة في نزوعه نحو الشر. فسقط صريعا محتضرا ظانا منه أنه تمكن من مغازلة المعالجة وسقطت أخيرا في حباله. وهذا ماتراءى له وهي تقوم بانعاشه وكأنها جلسة حميمية اختلط فيها الوعي باللاوعي !
** ختاما :
كلا المقاربتين اتبثا بالملموس أن بداخل الانسان نزوع سليقي نحو التعرف عن المستقبل المجهول، وان دافعية الخوف كفيلة بإماطة اللثام عن كنه الشخص( فبداخل كل منا قوى خفية تتصارع محاولة ايجاد طريق للخلاص) .
يمكن القول أن القصة ( عبور مرحلي ) تجسيد متكامل للترانزيت المعرفي التي انتهجته الكاتبة واستحقت عن جدارة التنويه والاشادة عن تجربتها الحداثية الجديدة بالقص.
بالتوفيق.
حسن أجبوه
ابن أحمد، المغرب
29-12-2022
Discussion about this post