مختارات ..
=-=-=-=-=
المحبة ..
د.علي أحمد جديد
(المحبة) هي نوع خاص من أنواع الحب ، وتدل على الحب اللامحدود واللامشروط . وبخلاف المعنى العام للحب ، فإن المحبة لا تُمثِّل الحبَّ البيولوجي بين البشر بل تدل على الحبِّ المُطلَق تجاه شخص ما أو فكرة ما بعيداً عن الجنس أو العاطفة مع محبوب كما يفهم من كلمة “حب” عادةً .
وتسمو المحبة على الانجذاب والرغبة فهي نورانية لا تسعى إلا للخير والتسامح والإيثار والإخاء دون أي مصالح شخصية ، على عكس حب الذات والحقد والبغضاء التي هي سبب رئيس في تفكك المجتمعات .
وللمحبة أثرها الكبير على الأفراد وبالتالي على المجتمع ككل ، لأن محبة الفرد لغيره تعكس السعادة والرضا ، ذلك لأنه لا يمكن مقابلة المحبة إلا بمحبة مثلها او تفيض عنها ، وتجعل الإنسان سعيداً ومتسامحاً مع نفسه ومع الآخرين ، ويؤدي ذلك إلى بناء علاقات اجتماعية قوية قائمة على التعاون وتنشر التكافل الاجتماعي .
كما أن للمحبة أثرها الواضح على الفرد وعلى المجتمع وذلك لأن تمتع الفرد بمشاعر المحبة تجاه الآخرين من أهم العوامل التي من الممكن أن تجعله راضياً ويشعر بالراحة لأنه سيلقى أثر محبته في قلوب الناس والمحيطين به في حياته وفي تعاملاته .
وتتجلى فوائد المحبة للأفراد في أنها تورّث القلب الشعور بالطمأنينة والسلام وتلك هي أعظم المشاعر التي يسعى البشر للوصول إليها ، على عكس مشاعر الكراهية والحقد التي تؤجج نار الصراع مع النفس ومع الآخرين وتذهب بالسكينة والطمأنية وتستنزف الطاقات وتمضي الحياة سدى في أذية الآخرين وإيقاع الضرر بهم ، وهو مايصنع أفراداً مسلوبي الطمأنينة والراحة وغير متصالحين مع ذواتهم .
وتشكل المحبة عاملاً رئيساً في نجاح الفرد وتحقيق أهدافه التي يسعى إليها لأنها تجعل طاقته تنصب على كل ما هو إيجابي وطيب ، وتساعده على التركيز في بناء نفسه والدافع للتحلي بأفضل الصفات التي ستوصله حتماً إلى مراده وتعود عليه بمحبة الآخرين واحترامهم ، فيتخلص من عبء المشاعر السلبية سواء كانت تلك السلبية حقداً أو حسداً بغيضاً لأن هذه الأعباء تشكل حملاً ثقيلاً و تضعف الإرادة وتنهك القوى وتجعل الوهن يدب في الروح والبدن معاً .
كما أن أثر المحبة يعود على المجتمع بالسلام بالاستقرار والازدهار ، ويتميز مجتمع المحبة بأنه خالٍ من الخلافات ومن الصراعات والمشاحنات التي تنهك قواه وتدمّر بنيته وتهدر طاقاته في مواصلة الإعمار والتطوير والتقدم في كل مجالات الحياة .
أما المجتمع الذي يعاني من الكراهية والبغضاء ويفتقر للسلام فيكون منحرفاً عن طريق التنمية بسبب هدر طاقاته في النزاعات والخلافات الداخلية وحل المشاحنات ، فلا يملك الجهد والوقت للبناء والتطوير بل يبقى يعاني من التخلف ومن الفقر الذي ينعكس على أفراده وجميع مؤسساته .
وما من محبة إلا وتقابلها كراهية وبغضاء ، هذا مألوف في نسق التفكير التثنوي أو الثنائية المتقابلة الذي يفترض المحبةَّ خالصة ومُطلَقة أوالبغضاءَ خالصة خالصة ومُطلَقة أو أن يكون المحبوب كاملاً وخيراً مطلقاً أوالمكروهَ مسخاً وشراً مطلقاً ، لأن القوانين الإلهية في توازن الكون تجعل من المحبة الخالصة الوجه الثاني للكراهية الخالصة ، (محبة خالصة للذات وكراهية خالصة للأخرى والآخر) ، مثلها كمثل القبول التام ، الذي هو الوجه الآخر للرفض التام ، وأنه ما من عاطفة خالصة أو مطلقة . وأن الإنسان مهما أحب فرداً فلابد من لحظات يمتزج فيه الكره بهذا الحب ومامن إحترام لشيء أو شخص ما إلا ويخالطه شيء من الرفض والاحتقار . وهذا ما يستدعي النظر في مفهوم “الإخلاص” لتخليصه من معاني التبعية التامة والانصياع الكامل أوالإيمان الأعمى دون قناعة عقلانية تدل عليها .
وفرضية المحبة والكراهية في السياق الاجتماعي – الإنساني ، هي أن المحبة تقع على الإنسان ، أي الفرد بوجوده الإنساني ، ولكن الكراهية تقع على بعض أفعاله ، أوعلى بعض صفاته وبعض محمولاته . أي أن المحبة تقع على الذات ، بينما تقع الكراهية على الأفعال أو على بعض الأفعال وبعض الصفات وبعض المحمولات . فالكائن الإنساني إذن لايستحق البغض والكراهية في ذاته ، مهما بدرت منه أفعال كريهة !!. وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن أن توجد محبة خالصة ولا كراهية خالصة ، ولكن هناك محبة تخالطها بغضاء ، أو محبة تخالطها كراهية ، واحترام يخالطه احتقار ، كما أنه هناك تراجح دائم بين المحبة واللامحبة ، وبين الاحترام والاحتقار .
وفي جميع الأحوال فإنه
لا يمكن كراهية الإنسان في ذاته دون تجريده من إنسانيته ، وهذا مايقود إلى العنصرية . لأن الكراهية الخالصة ، أي كراهية الآخر تنصبُّ على الإنسان في ذاته الإنسانية ، لا على أفعاله ومحمولاته . والأسوأ من هذا ، هو أن لا تكون المحبة إلا اعترافاً مشروطاً كأن يكون الآخرون مثلنا أو مثلما نريدهم أن يكونوا لنمنحهم محبتنا أو شيئاً منها . وهذا الأسوأ هو النمط السائد اليوم من المحبة في مجتمعاتنا والمقترن بالمحبة الخالصة للذات والكراهية الخالصة للغرباء (الأغيار) علاوة على المحبة المترافقة بسلوكيات التملق والتزلف والنفاق . والقاعدة الإنسانية الواضحة تقول بأنه لا يمكن أن تكون الكراهية موجودة إلا لسبب أو لعدة أسباب ، أما المحبة فلا تحتاج إلى سبب غير ذاتها ، لأنها فطرة إلهية في الطبيعة البشرية ، ترقى برقيّها ، وتسمو بسموها ، وليس لها من غاية سوى ذاتها ، وإلا كانت تملقاً وتزلفاً ونفاقاً . ومن أسباب الكراهية المحايثة للمحبة التي تبدو جلية في التنافس على السلطة والثروة والمكانة ، وهذه الكراهية لابد أن تزول بزوال أسبابها . وأما الكراهية الخالصة ، فإنها لا تزول إلا بزوال المحبة الخالصة ، لأن المحبة سببُها وعلّة وجودها . والمحبة الخالصة للذات الفردية أو الجمعية ، ذات المتكلم والمتكلمة ، هي سبب الكراهية الخالصة للآخر المختلف والأخرى المختلفة ، وهذا مايوضح بأن المحبة الخالصة والكراهية الخالصة كلتاهما تقتضيان التناقض والتباعد والعزلة .
ولأن المحبة لا تحتاج إلى سبب لها غير ذاتها ، فإنها تتعلق بتأويل “الغريزة الجنسية” التي تكمن في أساس الحب أو المودة والاستحسان ، لأن الغريزة الجنسية تعني غريزة “حفظ النوع” في أمرين أساسيين :
*) – الأول هو الحفاظ على جميع أفراد النوع ، وهذا مما يضع مسؤولية الشخص عن حياته الخاصة كشخص في الأسرة و المجتمع ، وكذلك مسؤولية الأسرة عن حياة أفرادها ، ومسؤولية المجتمع عن حياة جميع أفراده إناثاً وذكوراً كما هي مسؤولية الدولة عن حياة جميع مواطناتها ومواطنيها .
*) – الثاني هو إنتاج النوع وإعادة إنتاجه .
ووفق هذا التأويل، لا تعني صفة “الجنسية” التي نصف بها الغريزة ، مجردَ المعاشرة الجنسية ، أو مجرد “الجنس” الطبيعي البسيط (sex) ، بل تتعداهما إلى غريزة الانتماء ، أو الانتماء الأصلي إلى الجنس أو النوع والاستئناس بأفراده . أي أن الغريزة الجنسية تعني الغريزة البشرية أو حفظ النوعية البيولوجية . وإن المعاشرة الجنسية مجرد أداة ووسيلة لغريزة حفظ النوع ، وليست هي غريزة خالصة بحدِّ ذاتها ، وإن العزوف عن الإنجاب – على سبيل المثال- لا يعني الاستهانة أو الاستهتار بالحياة عامة ، ولابحياة الآخرين والأخريات خاصة ، ولا يقتضيها اقتضاء الضرورة في أي حال من الأحوال .
إن الغريزة الجنسية ، غريزة حفظ النوع ، تنطوي في حالة الطبيعة على إمكانات المحبة والاهتمام والعناية والحرص والرعاية .. وكلها يمكن ترجمتها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وأخلاقياً – في الحالة المدنية – إذ أن المجتمع (المدني) هو الوحدة المكتملة في الجوهر بين الإنسان وبين الطبيعة – البعث الحقيقي للطبيعة – طبيعة الإنسان وإنسانية الطبيعة ، وقد وصل كل منهما إلى تحقيق ذاته بما يؤكده الفرد الإنساني في وعيه النوعي لحياته الاجتماعية الواقعية ، وهو لا يعدو أن يكرر وجوده الواقعي ، في الفكر تماماً . كما أن وجود النوع – بالعكس – يؤكد ذاته في الوعي النوعي (للفرد) ، ويكون (الإنسان) لذاته ، في عموميته وفي كلِّيته كائناً مفكراً . ولهذا فإن المحبة هي الطريقة الوحيدة التي تُظهِر بها الشخصية جوهرَها الإنساني وكلِّيتها الوجودية .
Discussion about this post