الموت و الخلاص : قراءة لنص :
…………………………………………
أولا : النص :
رفاق الدرب
اضطرتني ظروف الحياة القاسية أن أستوطن هذا المكان،بين بقايا حياة ذابلة وأرواح هائمة تبحث عن مستقر لها، تسللت مستترا في جنح الليل، أعددت أقامتي البسيطة مما تبقي لي من أثاث متهالك، أرغمت نفسي على البقاء وانا أعاهدها على العودة القريبة، ضاقت الحياة بما رحبت أمامي، تراكمت الديون فآرقت ليلي، لم أكن الوحيد الذي يقتحم هذا السكون الآبدي، سبقني الكثير والكثير ممن طرقوا الأبواب التي لا توصد أبدا في وجه أحد.
صارت الحياة والعدم سواء، ألملم بقايا نفس متهلهلة وروح كسيرة، أغلق الباب لأواجه وحيدًا الخوف الذي صار يلازمني، أقلب دفاتر الماضي بتفاصيلها ودفئها، أعود صبيًا يلهو وحوله الآحباب، أحتضن الوالد الذي سقط في غفلة، أستعيد الحياة في أحلامه المفقودة، أستند إلى ذاك الجبل الذي حملني صغيرًا بين ذراعيه، أمضي في دروب غابت عن الحياة ولكنها متجسدة في ذاكرتي.
ببطء تمر الساعات، وفي ليلتي الثانية أتي بعض الزائرين لمسكني الجديد، وجوه كأنها عائدة من زمن بعيد مضى، لمحت عيونهم التي أختبئت عني قليلًا، كان ترحيبهم بقدومي يفوق تصوراتي، نشأت بيننا علاقات صداقة متينة، استمرت زياراتهم لشهور متتالية، أحاطوني بالدفء الذي لم أعهده من قبل، بثت قلوبهم الطمأنينة لروحي، شاركتهم حياتي الجديدة؛ متخففًا بهم من هذه التلال الكئيبة التي تجثم على قلبي، بصفاء يسردون حكمتهم وأصغي لهم، تتسع صدورهم لما يجيش بداخلي.
علي قبر والدي وقفت متألمًا لفراقه، جالت بخاطري كلماته الرصينة، مازالت حكمته تنفذ إلى صدري، ألتفت حولي أرواحهم التي لم تفارقني ليلة واحدة، تسري ابتساماتهم وحدتي، عانقتهم ورجوتهم ألا يفارقوني، فالحياة باتت بينهم أكثر أمانًا، قبل أن انصرف لمحتهم
يتسسللون إلى داخل القبور المحيطة، ينفذون رغم وجود الأقفال والأسوار، حاولت اللحاق بهم، ولكنهم غابوا عن المشهد تماما وتلاشت صورهم، جمعت ما تبقي داخلي من قوة، وفي هدوء تخيرت أحد القبور ورقدت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
محمد كامل حامد…مصر في سبتمبر ٢٠٢٢
ـــــــــ
ثانيا القراءة
أولا : النص كتشظيات إطارٍ عام :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعاب اللاجدوى .. و الموت كخلاص بحثًا عن المعنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
” من ذا الذى يعرف إن كان ما نسميه بالموت ليس حياة ، و أن الحياة ليست موتًا ؟”
” يوربيدس ”
……..
النص قصيدة سيزيفية إزاء الجبرية و عدم الفهم .. درب يسير الإنســان فيه محكومًا
بحبال تشـده شدًا إما إلى الجنون أو الموت، يعانى غموض الحال و المآل ، فيضطر
إلى اختيار الحل الصعب بمحض إرادته و هو ينشـــد لحن الوداع و الأمل فى الوقت
نفسه،حل يقبله الإنسان ســــعيدًا كنهاية لـ اللعبة كبطل” الغريب” لألبير كامو الذى
تقبَّل الموت بتفهم كامل ليرى الوجه الآخر لـ اللوحة .
النص بهذا قصيدة و نداء جمالى شــــعرى يسير متئدًا نحو النهاية المحتومة المختارة.
درب الشقاء و الموت .. كلا الأمرين ،و صحبة اللاجدوى و العبثية .. القدر و الظروف غير المواتية و خْلق الإنسان فى كبد كما بيَّن القرآن الكريم.
فى كتابه “أسطورة سيزيف ” ناقش ألبير كامى مفهوم اللاجدوى
و الانتحار الذى يمكن أن يستتبع ذلك التوجه و الاستغراق ،
و كما قال هو عن كتابه :
” موضوع هذا الكتاب هو بالضبط هذه العلاقة بين اللاجدوى و الانتحار و الدرجة الدقيقة التى يكون بها الانتحار حلا للاجدوى ” (1)
هو ذلك ” الغثيان ” السارترى أيضًا و الدهشة و عدم الفهم .
و عدم إدراك أو قراءة مفهوم الموت و الانتحار الفلسفى فى هذا النص بهذا المنحى يعتبر قصورًا
فى القراءة و التناول ,
و قد اختار كامى أسطورة سيزيف كعنوان لبحثه هذا لارتباط العبثية و اللاجدوى بالتفكير فى التخلص من الحياة _ بصرف النظر عن الحكم على المفهوم فى حد ذاته _
وذلك للارتباط الحتمى و التسلسل المنطقى
اللازم (نظريًا)بين التكرارالعبثى و نهاية اللعبة أو المسرحية ، لا فرق بين( تكرار) الدفع الأبله لحجر,
و( تكرار) الحياة .
مع العلم أن كامو رفض الانتحار كحل فى مواجهة اللاجدوى بل اعتبر حب الحياة هو العكس اللازم فقال فى كتابه هذا :
” و فى هذه المرحلة يتم عكس المسألة ،كانت فى السابق فكرة إيجاد ما إذا كانت الحياة تتطلب
أن يكون لها معنى لكى تُعاش،و يتضح الآن بصورة عكسية ، أنها تُعاش بصورة أفضل إذا لم يكن لها معنى
فعيش تجربة ، حياة معينة ، هو قبولها تمامًا ”
(2)
و أيضًا :
” و بواسطة فعالية الإدراك فقط أحول إلى قاعدة للحياة ما كان سيصبح دعوة للموت _ و انا أرفض الانتحار.. إننى أعرف حقًا
الذبذبة الكئيبة التى تتردد هذه الأيام ، و لكن لدى كلمة أريد أن أقولها .. انها ضرورية ” (3)
….
فى مسرحية ” جبهة الغيب ” بالغة العمق لبشر فارس
_ و التى تناقش الحل العكسى _
“فدا” بطل المسرحية يتطلع إلى الوصول إلى “العالية” ذلك الجبل الي تستقر فيه الأبدية
فى طريق شاق
محاط بأسباب الفناء
يحذره الإمام قائلاً: “يا رجل لا تصعد فصعودك خطيئة”
فيرد:
“حسبك أن تكون سلكت في الطريق، أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، لا نظرة من حدقة جنيت بغبار السنابل، ولكن من حدقة هي للروح طاقة”.
صعد “فدا” ليحقق حياته هاربًا من دوائر العدم فينجو ،
و فى نصنا هذا خط مقارب لهذا فى الاتجاه التكتيكى ، فطبيعى
أن نلامس تلقائيًا تصور بطل
القصة هذا الاستخلاص من قبضات العدم أيضًا طبقًا لما وصل إليه فكره لتحقيق النجاة
[عبر الموت]
و كأنها أنشودة فرعونية فى مخاتلة الموت
و العودة.. فاختياره الحاسم للموت هو اختيار فلسفى للحياة فى صورة جديدة ،
.وكأن اختيار الموت هو نوع من النضال
و فى مسرحية بشر فارس هذه رأت
زينة ( حبيبة فدا البطل) “أنه أراد تجسيم الإرادة كمثال ، فالحياة هى موت”.
يصعد سعيًا لاقتناص عمره مخافة أن يموت.
…………………………..
بطل نصنا هذا
ميت بين أموات،
هومات منذ البداية حين انتقل ،
فتحول من حالة ( القوة) إلى ( الفعل )
_ بالتعبير الأرسطى _ حين انتقل مرتين …
أولا من الحياة فى المدينة إلى الحياة فى المقابر ( الموت الأول الفلسفى )
ثم حين انتقل بالفعل الى المقبرة كخاتمة لحياته التى لم يحسها إلا ( كفعل غير متحقق ) و لا جدوى و نمط عبثى
حققته ضربات متتالية و ظروف بالغة الشدة و الصعوبة.
القصة تمثل سيمفونية
للموت و الموتى _ و كأنها القصيد السيمفونى
[ الموت و التجلى لريتشارد شتراوس]
والمشابه جدًا لهذه القصة ،
و تحقق فعلا سيزيفيًا معكوسًا بالنسبة لرحلة الإنسان غير المفهومة حسب الفلسفة الوجودىة،
فسيزيف استمر فى التكرار الآلى الميكانيكى للفعل ، و بطل نصنا رفض الاستمرار.
هذا النص يتماهى _ كما ذكرت _مع كتاب كامو هذا بامتياز
و لابد من قراءته بمرآة فلسفة العبث
و اللاجدوى السيزيفية
و الابتعاد عن رؤيته بهذا المنحى يعد خطأ فى القراءة فى تقديرى
( 2 )
( الموت موجود فى الوجود منذ هو وجود أى من كينونته [ الوجود منذ كينونته هو وجود لفناء])
ــــــــــــــــــــــــــ
“أنا أفكر فأنا إذن موجود” أى منغمسًا فى الأشياء أحياها ،و لست مجرد عارف لها فقط
كما ترى الوجودية،و كما عبَّر “هيدجر” عن ” الفيلسوف الحق الذى يحب معاشرة الأشياء
و يطيل الإقامة بينها و وسطها و يستمع إلى همسها فى تعاطف ودى ” \(4)
و( اختيار الموت) أو ( الحنين للموت)هو [موقف ] بالمصطلح الوجودى و اختيار مضاد للضجر هربًا من علاقات الصحيح و الزائف و المنطقى البارد و علاقات التناقض، و إيقاف لهذيان و قرف الغثيان
_ أيضًا بالتعبيرات الوجودية _
حينها يكون التصور الرومنسى و الجمالى الإستطيقى هذا فى تصور من يروق له هذا الحل،
كتلك النظرة الرومانتيكية للموت كما عند نوفاليس :
” و الموت هو مبدأ إضفاء الطابع الرومانتيكى الخاص بحياتنا … فعبر الموت تقوى الحياة ، لأنه يفتح الأبواب المفضية إلى الخلود و إلى ما هو فائق للطبيعة ، و الموت أساسًا ليس عكس الحياة ، و إنما هو اكتمالها “[نوفاليس ]\ (5)
و هناك من ينتحر فى حياته_ عن طريق الابتعاد و الانزواء_ كالشاعر الألمانى
“هلدرلن” مثلا الذى أصيب بالجنون و وصف نفسه حينها قائلا :
“لقد حييت قليلا و مع هذا فلست أستروح غير برد المساء، و هأنذا هنا صامت أشبه ما اكون بالظلال ؛ و هذا قلبى الحزين العاجز عن الفناء ينام على الأرض فى صدرى ” \(6)
…..
وفقدان الأب هنا فى هذا النص ـــــ هو نقطة فارقة حياتيًا و احتدامًا، و بعكس
فقدان الأم فى رواية الغريب لكامو ـ هو ضياع اغترابى صامت و بارد.
و لاشك أن سكناه القبور و كأنه [ تماهى ] مع الموت فى منظومة وجودية تخاتل العدم،
و الفلسفة الوجودية تبيِّن أن الإنسان يمكن أن يؤكد ذاته و ووجوده فى الحياة من خلال ( المواقف ) التى يعايشها و من خلال الاختيار الحر يتميز الإنسان كمفهوم إنسانى ،
و فى نصنا هذا حدد البطل موقفه فى الاختيار الحاسم للموت [ ليس باعتباره عدمًا] بل كوجود آخر مغاير و مقابل أو محايث لوجود سابق لم يفهمه..
اختار الموت ( كخلاص) و كأن الموت حينها قصيدة إذا اعتبرنا النص فانتازيا للموت .
اختاره هذا البطل الذى يعانى حياته ( كوجود) قلق غير مفهوم و عبثى ، ومع توالى الإحباطات و الإخفاقات و تكرار الخيبات و الحظ العاثر، و تحقق مفهوم اللاجدوى الذى رآه كامو النتيجة اللازمة لتأمل الحياة ، تنصهر روحه بالتدريج حتى تصل إلى نقطة الاحتدام و الذروة
( لتحقيق ذاته)طبقًا لتصوره ،و اختيار العدم أو الانتحار أو الموت كتحررو خلاص و تحقق
خو كأنه كسر لـ اللاجدوى السيزيفية فى تكرارها رمادى اللون الباهت غير الفاعل
( الموت المضىء أو المتوهج _ إذا صح التعبير_ أو المقابل الفاعل المضاد السيزيفى).
فى كتابه” أسطورة سيزيف”ناقش ألبير كامو باستفاضة مشكلة اللاجدوى التى تجسدها بجلاء دراما العمل السيزيفى غير المفهوم و الخالى من المعنى أو الفائدة فى
إعادة) دفع الحجر إلى أعلى الجبل ثم النزول من جديد بعد سقوطه لفعل نفس الشىء مرة أخرى إلى ما لا نهاية، الحل المنطقى _ من وجهة نظرية مجردة تمامًا و تلقائية _
سيكون هو وقف هذه العبثية الملولة بإيقاف هذا السيال المتصل من (الحياة و الألم ) بالانتحار، و كأننا
” فى قاع شىء لا ينبغى أن يكون ؛ و من ثم فإننا نكف عن أن نكون ” كما وصف شوبنهاور النظرة الهندوكية للموت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيًا : التجنيس :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص فى تقديرى [ أقصوصة ] و هى التى تقع_ حجمًا و طبيعة فنية_ بين مشهدية القصة
القصيرة جدأ ,و بين اتساع و تعقد الحدث فى القصة القصيرة فى تضفيرات وصفية لا تتحملها
القصة القصيرة جدًا
و منها التوسع التفصيلى فى رسم الشخصيات والأجواء و التطويل الزمنى النسبى .
و السياق السردى يسير بسرعة منتظمة ليصور حالة السكون القلِق ، و الذى ينبىء فى الوقت نفسه
باتجاه الأمور لمصير مغاير مهدت له الأجواءالغائمة تلك ، و الأسلوب يقترب بشكل مذهل من أسلوب كامو نفسه فى رواية الغريب , و هو ما يدفعنا للثناء على كاتبنا الرائع .
أما عنوان القصة فموفق لأبعد مدى ؛ فالرفاق هؤلاء هم المهزومون و رفقاء التعاسة البشرية الذين يصورون الحياة فى جانبها الآخر ضبابى اللون، و يحاولون أيضًا البحث عن خلاص .
………………………….
و أخيرًا كل التقدير لكاتب النص أستاذ محمد كامل على هذا النص الثرى المفعم الذى يدل على تمكن و اقتدار.
( أحمد طنطاوى \ يناير 2023 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش
ـــــــــــــ
(1) أسطورة سيزيف ، ص15
(2) أسطورة سيزيف، ص 62
(3)أسطورة سيزيف ص 74
(4)يحيى هويدى، الفلسفة الحديثة و المعاصرة ، ص235
(5)الموت فى الفكر الغربى ، ص 184
(6) عبد الرحمن بدوى ،الموت و العبقرية،ص 31
Discussion about this post