رأس مملوء حكايات.
مقتطفات حياتية
أحمد طايل
* الحياة مواقف تتحول إلى ذكريات..فاجعلوها سعيدة..
_______________________________
تقديم
للكاتب المغربى..
حميد المصباحى
______________________
ّسيرة أحمد طايل
رأس مليء حكايات
عاد يكتب الكاتب أو الروائي سيرته الذاتية عندما ينهي مشاريعه، سواء كانت أدبية أو فكرية، دون أن يعني ذلك، وجود هذه القاعدة وانطباقها على كل الكتاب والروائيين، فرجالات الأدب لهم خصوصية، فأنت تجدهم أمام سير ذاتية مختلفة، فالروائي أو القاص، بل وحتى الشاعر، سيرتهم أي ذاتهم الشخصية حاضرة في مجمل إبداعاتهم الأدبية ولكن، بشكل غير مصرح به، وبذلك يمكن القول، أن الأدباء لهم سيرتين ذاتيتين، واحد غير مصرح بها، وهي في شكل شذرات، وأخرى مصرح بها كعنوان، سيرة، والسيرة أيضا فيها بعدين، واحدة واقعية وأخرى مفترضة أو لنقل متخيلة، والأديب يشتغل بحواسه وخيالاته، ولا يمكن حصر القيم التي ينتصر لها، والتحكم في الدلالات التي يولدها من سيرته، ولذلك فسيرة الأديب أكثر تعقيدا مما يتخيل للدارسين والباحثين في السير، ولا يعني ذلك أن الأديب يكذب أو يزور أو يقدم ما ليس صحيحا أو مشكوكا في صحته، بل هو فاعل في انتصاره لقيمه والدفاع عنها، لكن بما يرى فيه فنية وأدبية، تقربه من القراء وتنال به إعجابهم، بل انبهارهم بما يقرأون ويتابعون، وهنا أحب أن أتحدث عن الأديب الروائي والكاتب أحمد طايل، من منطلق ما عرفت عنه من خلال كتاباته والإنصات له بتمعن، واستشعار رهافة إحساسه الأدبي الحكائي، فهو يرسم بما يرى ولكن أيضا بما يشعر، غير أن سيرته التي أحاول الاقتراب بها منه، متشظية فنيا وأدبيا، بحيث يفرض ترتيبها ترتيبا جديدا لا تسعف العناوين في شده ليبدو كسيرة تقليدية اعتاد الكتاب على تأليفها في شكل روائي، وهنا متعة الصعوبة، لذلك ارتأيت أن أسميها القصص السيرية الأدبية، كتجربة لأول مرة أصادفها على غير العادة، فالسيرة هنا في شكل قصص لم تتبع الزمن الواقعي والتراتبي، بل اختار لها الأديب أحمد طايل صيغة أخرى، هي ما أحاول فك رموزها والاقتراب من عوالمها بما عرفت عن النقد الأدبي والروائي خصوصا:
1_الرأس والحكايات:
عنون القصة الباب، بدوار يا زمن، في صفحتها 24 يقول(من ينسى أمسه، لا يوم ولا غد له) والحكمة واضحة، ففي الحكمة اللاتينية يقولون، نفي الماضي يعني العيش بدون مستقبل، لكن عبارة أحمد طايل، نتيجة تجاهل أو نسيان الأمس لا تهدد المستقبل وحده، بل حتى الحاضر، لكأن الكاتب يدعوك منذ البداية لإدراك حقيقة الأمس وضرورته لتنصت لما فات وهم يحكون عنه، فحاضرك لن تفهمه بدون أن تعرف ماضيك، وليست هذه حكمة تاريخية فقط، بل هي حياة بأكملها في الوجود والسياسة والمعرفة وحتى الأدب نفسه، ولا يمكن حفظ الذاكرة إلا بملازمة المكان الذي حدثت فيه الوقائع، وهو القرية الذي ولد بها الفرد، وهو أيضا الوطن بعد المدينة، وبذلك كانت الهجرة شبيهة بالنسيان لأنها تنتهي بمأساة الموت التي عبر عنها أحمد طايل وهو يطل من نافذة الزمن والوطن بعنوان:
2_ طائر الموت:
الأسماء أحيانا هي أفكار، يتم استحضارها بفعل عادات الحكي، لذلك سأتعامل معها كأفكار من خلال ما يصدر عنها من أفعال، فقد مارس المحكي عنه الصيد بالسنارة، ثم انتقل للصيد باليدين، كإحالة على كثرة الأسماك وكبر اليدين وربما قوة الجسد والانتقال من الطفولة للشباب، لكن الصيد لم يعطل قوة الجسد وحرقة السؤال، فكانت حلقات الذكر ومعها الدروشة حلا لما هو روحي، بتأجيل الأسئلة والتغلب على الرغبات التي لا يسمح بالتفكير فيها مليا، كل هذا دفع للسفر ولم تطل الغيبة، إذ عاد المهاجر مع زوجة عراقية، فوجد البيت خرب بموت سكانه، كأنه يقول له، عدت بالسلامة وقد حققت ما أردت، فهل أنت تحيي الموتى ومن تحب بعد أن هجرتهم، فما الذي يخفيه أحمد طايل بهذه الحكاية؟
إنه يدافع عن ضرورة حفظه للبيت الأسري الذي يعتبره وجوديا هو مبرر حياته واستمراره، وهذه الحكاية تقود للتالية بقصدية، فالأب هو عماد الخيمة وعضدها.
3_ أب
في الصفحة 30 الوردة لا تنبت شوكا، فالأعراق الطيبة كالورود، لا تنبت إلا ورودا، وهي نفسها نصيحة الأب لأبنائه في الصفحة نفسها( لا تبخل عن فعل أي شئ يسعد إنسانا حتى لو كلفك الكثير)
لكن بأي دافع، فالأب هو ابن لمن علمه، لكأن الخير فيه الموروث والمتعلم، وأحيانا يكون الطبع غالبا للتطبع كما قالت العرب قديما، فماذا يقول الجد؟
4_ الجد
في الصفحة الموالية31 يقول الجد( سيروا حاملين العطاء، سيروا وأمام أعينكم الله)
إنها حكاية الجد الذي استقر بقرية فأنبت فيها خيره، وعلم الناس كيف يحبون بعضهم وألا يستغنوا عما ينالون به حب غيرهم واحترامهم، فلا يهم ما تأخذه منهم، بل ما تقدم لهم، لكنك تسأل أمام هذه العطايا، أين هي شرور القرية أم أنها خالية منها عكس المدن؟؟
5_ حادث
القرية والأخوة فيها لا يعكر صفوها إلا الميل بما هو غرائز تتخذ شكلا عنيفا، فينقلب الخير إلى شر في لحظات، ليتولد الانتقام في صيغته العرفية، أي الثأر، بحيث تتسبب الغازية نوجا في انبعاث نار الغيرة بين الصديقين الشبيهين بتوأمين، هما، طالب ومعوض، فيقتل أحدهما الآخر فيحكم عليه بالسجن وبعد انقضاء محكوميته والقبول بالدية، بعود للقرية فيجد أهل القتيل في انتظاره ليثأروا لقريبهم.
6_ العطاء
الناظر يذكره كما هي عادة الرؤساء عندما يلاحظون تفاني غيرهم في عملهم، يقول ناصحا:
( انتبه لنفسك، أنت تجهد نفسك( ص52
فيكو الجواب:( اليوم الذي يمر على الإنسان دون أن يضيف له شيئا، لا يحتسب)ص53
وهذه القصة تنضاف إليها الموالية:
7_ وفاء نادر:
حيث الوفاء الذي لا ينسى به الناس بعضهم، وإن لم يقدموا خدمة للآباء يبحثون عن أبنائهم.
8_ صداقة:
وهي إحدى صيغ الوفاء، وهنا يقدم الروائي أحمد طايل نموذجا للصداقة بين الكتاب، كشعراء وروائيين مستشهدا بما قاله الكاتب الروائي، ابراهيم أصلان) عاش جيلنا أحلاما كبيرة وخيبات أمل كبيرة أيضا) ص62 وأصلان هو كاتب رواية مالك الحزين التي تحولت إلى فيلم الكيت كات، بطولة محمود عبد العزيز، إن هذه الحكايات التي يستحضر فيها كتابا آخرين مثل، جابر عصفور، سعيد الكفراوي، سمير سرحان، لهي استحضار أيضا للموروث الشعبي في طيبته ولكن أيضا للموروث الثقافي الذي عرفت تغيرات هو الآخر وتحولات، لنجد في الأخير قصة صادمة، لكأنها رصد لعالم غريب ظهر في العالم العربي كله ولم تكن مصر فيه استثناء، مع تغير الأسماء فقط.
الحلنجي: اسم من رواية محمد فريد، وهي تلك الشخصية المحترفة للسياسة كوسيلة للرقي الاجتماعي، والتي يغتني بها هذا النمط من البشر، لكنه قد يضيع بها عندما يقترف أخطاء قاتلة في سلوكه السياسي، أو يذهب به طموحه أبعد مما وضع له.
العودة:
لكأنها الرسالة الأخيرة، التي مفادها، عودة الذات لما كانت عليه، فبعد موت الوالد والوالدة، كانت العودة دلالة على حب عالمهم في القرية كبديل لشقق المدينة التي افتقدت معها كل معاني الحب والحميمية التي اعتادها الطيبون في حياتهم، سواء كانوا كتابا أو أناسا عاديين.
ما الذي سعى إليه الروائي أحمد طايل من خلال هذه التجربة، أو ماذا تحقق بهذه السيرة، وما هو أثرها الأدبي والجمالي؟؟
1 عالم منكسرات:
لم يعد العالم أمامنا منذ ظهور العولمة كما هو، فقد تشظت فيه وحدة لتهيمن قيم العولمة، وهي مفارقة غريبة، إذ العولمة تخلق وحدة في أنماط السلوك الاستهلاكي المتشابه بين كل الثقافات، وفي الوقت نفسه، تعمل على خلق صراعات وتمايزات من خلالها تهيمن بإضعافها حتى لا تترك لها المجال لممارسة اختياراتها، كل هذا كان له تأثير على الفكر والأدب، إذ الذات لم تعد قادرة على التعرف على ذاتها في المنتظم والموحد، بل في المتعدد، أمكنة، قرية مدينة، قديم جديد، رواية قصص، حتى عالم الفن عاش ثنائياته الخاصة، الرسالة _ الربح، الحب_ الجريمة، الاستقرار_ الهجرة.
2_ رواية قصصية:
القصص المذكورة هي عبارة عن رواية متشظية، الذات حاضرة بشكل صريح في بعض القصص، وفي أخرى هي مضمرة، تنوب عنها شخصيات أخرى، ترتدي ثوبها أو تحمل صفاتها أو حتى تغضب غضبها وتتكلم لغتها، والسؤال، لماذا يفعل الكاتب ذلك؟
يتطلب الأمر قراءة لكل أعمال أحمد طايل، لكنني سوف أغامر مدعيا أنني فهمت رهاناته، فالروائي ابتداء من عمله الرابع أو الثالث، يبدأ ميله للتجريب محاولا تكسير عوالمه بأشكال جديدة، تتضح فيما بعد عندما يمسك النقد الأدبي بنظمها التعبيرية والنسقية، فيعود لقراءاتها ومختلف أنشطتها القرائية وحتى الكتابية، وبذلك يكون الروائي أحمد طايل مفكرا في تغيير أسلوب الكتابة الاعتيادية وغير مطمئن لما ساد حول الشكل الروائي، خصوصا السيرة الذاتية.
3_ القيم والمثل:
إن الروائي أكثر الأدباء تفاعلا مع العالم، فقد اعتبرته في كتابات سابقة لي، سوسيولوجيا فاشلا، يدرك الظواهر الخفية، لكنه عاجز عن حلها بحكم أدبيته، ولأنه كذلك فهو مفرط في حساسيته تجاه القيم، الجديدة والقديمة، فلا ينتصر لجدة الجديد ولا قدم القديم، بل يبحث عن الإنساني فيهما، ولأن الحداثة كانت عنيفة في اقتحامها لعالمنا العربي، فقد وجدنا أنفسنا في مواجهتها بما طلناه من قيم وأحكام أدبية، بها ينتصر الأديب لأدبية الفكرة وجمالية الرفض والبطولة في عالم بلا أبطال.
حميد المصباحي..المغرب
…مشهد حياتى…
==============
..بداية اسمحوا لى أن أعرفكم بى، أنا (جلال سيد منصور) ، من (آل منصور)، لأسرة ذات المكانة والمهابة،التى تتوارث العمدية على مدار عقود بعيدة المدى.بقرية ا(لرملة)، التابعة لمركز بنها، أبى (سيد منصور,)، شيخ بالمعهد الدينى بالقرية، خرج من عباءة العائلة التى ترسم لأبنائها طريق واحدا،لكليات العسكرية على تعددها، أو الإلتحاق بكلية الشرطة وما دون هذا تكون الأولوية لكليات الحقوق، الأب هو الوحيد الذى غرد خارج سرب العائلة، وأصر على التعليم الأزهري الدينى وكانت حجته اثناء الجدال الكبير بينه وبين أبيه وأعمامه..أنه يريد أن يكون بمعيه الدين والفقه، ومعرفه الحقوق والواجبات، هو.يجد نفسه مشدودا لهذا العالم، يحب أن يلبس الزى الأزهري حتى لو ناله ما ينال طلاب الأزهر من سخريات بعض من يماثلونهم عمرا، (شد العمه شد، تحت العمه قرد)، وكان له ما أراد واثبت نبوغا غير معتاد وغير مسبوق بكل الامور الدينية والفقهية، صار يصعد لمنابر مساجد القرية، خطيبا مفوها، ملما إلماما كبيرا بما يتحدث به،خيوط الحديث سلسلة بين ايديه، أخذته نجابته وذكاؤة أن أصبح يسأل من الكثيرين فى أمور الدين، وعلى مدار الأيام ضاعت غضاضة رفضه أن يكون على نفس مسار أهله، أباه تباهى به بجلساته العديدة، ويستدعية ليحدث ضيوفه فى أمور دينية، ويقص عليهم قصص آل البيت بطلاقته اللغوية، ويبدو أن أبى كان دوما بحالة جدال مع الأسرة..صلب الرأس حتى لو جمع الأب إخوته للضغط عليه، لا يتراجع مطلقا عن اى قرار أخذه، حتى أن أباه كان يردد دوما، لا أدرى من أين اتيت بهذا الرأس العنيدة؟، بالنهاية كان الكل يرضخ له، عندما إنتهى من دراسته الثانوية الأزهرية.،كان مطلب دائم لإمامة الصلاة، يتمتع بصوت رخيم تخشع له القلوب، كان متفوقا بكل سنوات دراسته، عند بدايات الجامعة أقنع الأب بفتح كتاب لتعليم الصغار عمرا القرآن الكريم، عملا بالقول، خيركم من تعلم القرآن وعلمه، كان يكنى دوما من عمر العاشرة بالشيخ (سيد)، بزغ إسمه علميا وأصبح مثلا يضعه الآباء والأمهات أمام أولادهم، عندما إنتهى من تعليمة الجامعى وإستقر مدرسا بالمعهد الدينى بقريته والتى ساهمت أسرته بالكثير من أجل إقامته، أسرع إلى والده يطلب منه أن يتزوج، اتسعت حدقتا الأب دهشة وضرب كفا بكف، هل هذا معقول وأخوته الأكبر منه لم يفكرا بهذا؟، تمتم الأب بصوت مسموع، جئنا مرة أخرى للنقاش والجدال، واجهه صارخا بوجهه.
= ماذا بك؟، عاقد عقد مع كل مسائل الجدال، نخرج من جدل إلى جدل جديد، المفروض كنا اسميناك (جدل)، والله أمرك غريب.
= يا أبى الحبيب هل طلبت أمرا سيئا أو منبوذ؟,من يستطع منكم الباءة فليتزوج، وأنا أطلب شرع اللهالحلال، ونحن قادرون والحمد لله، وإن كنت ترغب أن أعتمد على نفسى أفعل، والله معى لن يخذلنى،ماذا قلت؟
شردالأب قليلا، هو يعرف أنه بالنهاية لن يستطيع التصدى لتفكير إبنه الذى يجيد النقاش والإقناع، رفع رأسه، صوب نظره له بقوة، سأله.
= وهل قمت أيضا بتحديد العروس؟ أم ترغب منا أن نختار لك؟ وهذا ما أظنه بعيدا عن تفكيرك كعادتك، تختار وتقرر وعلينا نحن ان نوقع ونبصم على إختياراتك، صح.
إنتابت الإبن نوبه ضحك عارمةاستمرت وقتا، ثم قال.
= أبى بجد أنت أب رائع، تفهم كل أبناؤك وماذا يدور بروؤسهم؟، نعم يا أبى إخترت وحددت، وربما تنال رفضا منكم، ولكنى أتمنى أن توافقنى إختيارى.
تجهم وجه الأب وجحظت عينيه وصرخ به.
= إنطق، من إخترت يارب يكون إختيارا لا يؤدى لجدل، لم أعد قادرا على ملاحقة جدلك الذى لا ينتهى.
أطرق الرأس قليلا..الكلمات تأبى الخروج من جوفه، إستجمع أشلاء شجاعته، همس.
= (ثريا بنت أحمد الملاح).
إرتسمت إمارات الدهشة بكل صورها على محيا الأب، وفغز فاه دون حديث، أخذ منه هذا الوضع بعض الوقت، قال بعدها.
= هل تعرفها..تحدثت معها؟, لماذا هذه تحديدا؟.
= أولا أنت تعلم جيدا تربية إبنك وتفكيرة، فقط أنا لست متطرفا بفهمى وتعلمى الدين..لست متزمتا..وأيضا لست أرعن، أعرفها لأنه أخت صديقى (منير), وأظن أنك رأيته مرات.، كان يذاكر معى لأننا كنا زملاء كلية واحدة، لم أتحدث معها مطلقا، أنا ممن يغضون البصر، غض البصر أقوى رادع لنوازع الشهوات، أما لماذا هى؟ أولا أعرف أنك تقصد الفارق الإجتماعى رغم أنى لا أؤمن بالطبقية مطلقا، كلنا أولاد تسعه، وليس هناك تمايز بين غنى وفقير، ألا يقال خذوهم فقراء يغنيكم ألله أنا ما يهمنى التميز الأخلاقي، والتربية الدينية، والقدرة على تحمل أعباء الأسرة، وهذا لمسته من تعاملى معهم على مدار سنوات..لمحتها مرات مجرد لمحات سريعة، الملامح آخر ما أفكر بها..أفكر دوما بالجوهر الإنسانى، وأترك لك فرصة ان تتحرى.وتسأل رغم علمى أنكم تعلمون كل من بالقرية.
إكتفى الأب بهز رأسه موافقة على هذه المهلة رغم يقينه ان ولده لن يتحرك قيد أنملة لتغيير ما قرر، الأم عادة لا تتدخل إلا ببعض النصح، قالت له.
= فكر ألف مرة، النسب يضيف أو يسلب، لا أقلل من شأن أى أحد، فقط قرب المسافة بالاختيار بين مصاهرتك ومصهارات من تزوج من إخوتك وأبناء عمومتك.
أشار إليها مطالبا بالسكوت، واضعا يدها بهدوء على فمها مانعا إكمال حديثها.
=زأمى، لست مثل أحد وليس من المفترض أن أسير بمسار أحد، لا أهتم بثروة منتظرة، ولا بوجاهه إجتماعية، ثم لتعلمى ويعلم الكل أننا لسنا من نختار، ألله هو من يوجه خطواتنا ويحدد أقدارانا وإختياراتنا، وأنا وفق مشيئته لا احيد عنها.
لم يكن أمام الجميع مناص من الإذعان لرغبته، كان اول من أوجد الزفاف الإسلامى بالقرية،جانب يخصص للرجال، وآخر للسيدات، لا غناء ولارقص،فقط اناشيد دينية تناسب الزفاف، منحه الأب حجرتان من البيت الكبير،المبنى على مساحة قيراطين أرض، محاط به حديقة بها الكثير من الأشجار الباسقة، وعديد من أشجار الزينة والفاكهة، ليلة الزفاف حكاها لابناؤة مرات كثيرة، عندما اغلق عليهم باب إقامتهم، كانت العروس شديدة الخجل، والخوف، خطواتها متعثرة،وربت عليها كثيرا مانحا لها نوعا من الإطمئنان وازاحة الرهبه، أجلسها بهدوء، تى بمصحف، أخذ يقرأ بصوت عال بعض الشىء، عندما إنتهى أمسك بمعصمها،وأنهضها وطلب منها الدخول لحجرتها،وتبديل ملابسها والاغتسال والوضوء ليصليا صلاة شكر لله والدعاء بأن يغلف حياتهم بالهدوء والسكينة وأن يبعد عنهم أى منغصات، أدخلها الحجرة،وغادر إلى نوم بحجرة أخرى غير متبرما أو ضجرا، قالت لأمها (الباتعة ربيعة)او ا(لباتعة غزالة) كما يسمونها بالقرية نسبة إلى أمها (غزالة)، السيدة التى تعمل كامل اليوم ولا تكل ودوما الضحكات مسترسلة من تناياها،أسموها النحلة، قالت.أ
* أن هذه الليلة،ليلة زفافها، وتركت بها أثرا لن يزول على مر أيامها، أثبتت هذه الليلة أنها تزوجت رجلا يفهم ويعى أن الرجولة تعامل واحساس ورقى، إحترمها، تعامل معها إنسانا، لم يتلهف على قطاف ثمارها، لذا عندما أعطاها الأمان والحنان، أعطته كل شئ بكامل إرادتها لذا غلفت الأيام بحب وسعادة، كانت (ثريا) البيت، دؤؤبة الحركة، تخدم الأسرة دون أن يطلب منها،اشراقة الفرح تملأ صفحة وجهها على الدوام حتى لو بها وجع أو عرض مرضى، كانت تسعد وتزداد توهجا عندما تربت يد الحاجة ام زوجها، الحاجة (نعيمة)، أو توجه لها كلمة حلوووة تداعب فؤادها، كما كان جدى (محمد منصور)،يبتسم بوجهها، دوما يقول لها.
* فعلا (سيد) إختار صح. بنت أصول ربنا يبارك فيك وفى صحتك وعافيتك.
جدى كان قليل الكلام ولكن مع (ثريا) إنفكت عقدة لسانة وإنفك تحفظه،الفعل الجيد دافع لفتح أبواب الصدور بطلاقة حتى لو كانت مغلقة من أزمان وأصابها الصدأ، تنهض قبيلزالفجر، تغتسل، توقظ زوجها، ينهض يغتسل، يجلس فاتحا مصحفة، هى خلفه قليلا، تفتح المصحف، تقرأ بصمت أما هو فيقرأ بصوت مسموع، صوته رخيم،ةخاشع، وينهضان للصلاة، هو يأخذ طريقة إلى المسجد ، يقف أمام البيت مع إخوته ينتظرون قدوم الأب، طقس إعتادوا عليه منذ نعومة أظافرهم، لا يتغير أيا كانت حالة الجو حتى لو كانت تمطر سيولا، يعود بعدها، يجلسان للدعاء لفترة ليست بالقليلة،ينهض مقبلا جبينها، رابتا على كتفيها، تذهب لإعداد الإفطار، بتناولانه بين مداعبات لطيفة، يطعمها وتطعمه، يقتسمان اللقيمات، كانا وإلى آخر أيامهم يعيشون حالة عشق وكأنهم ببدايات العمر، حتى بوجود الأبناء على إختلاف مراحلهم العمرية، كانا مؤمنان أن إظهار الود والحب والصفاء ينتقل إلى الأبناء دون إملاء أو طلب، بعدها يتناول يدها، يسيران إلى السطح، هو مغرم من الصغر برؤية الندى يبسط ذاته على كل شئ صيفا، ورذاذ المطر الخفيف يهطل حانيا على الوجوه شتاءا، يعشق رؤية إنبلاج الشمس رويدا رويدا،يعشق رؤية ميلاد اليوم الجديد، يهبطان، يسرع إلى إرتداء ملابس العمل، يميل على أولاده يقبل جباههم، يلقى عليهم السلام،تسرع هى إلى ترتيب الحجرتان، تساعد الأولاد بتجهيز حالهم للذهاب إلى المدار، تتحقق من أن كل منهم لم ينس شئ، ثم تعمل على تنظيف باقى البيت، والمطبخ، أنجبت، (محمد) أول الأبناء، بالريف عادة مازالت راسخة به، إطلاق إسم الجد على أول حفيد إن كان ذكرا وإطلاق إسم الجدة إن أتت أنثى، ثم أحمد على إسم الجد للأم، فلابد من نصيب له من غنيمة الأسماء، ثم أنا (جلال) ووحيد، وآخر العنقود، (روضه)دلوعة البيت بالكامل رغم أنها ليست الحفيدة الأولى،ولكن لعدم إقامة أعمامى بالبيت بداعى أعمالهم..كانت هى من نالت كل الانصبة،إعتاد أن يوقظنا قبل الفجر، يغسل وجوهنا، يقوم بمتابعة وضوءنا، يجلسنا دائرة حوله، هو مدارهاووأمنا أيضا، كل له مصحف، يقرأ ونحن نردد ورائه، نصلى جماعة،بعدها كان له طقس غريب، يخرج بنا إلى فناء البيت، يصنع منا طابورا يؤدى تمارين رياضية،نقلده وهو يردد .
= نشطوا أنفسكم..أزيلوا كسل الليل عنكم ورحبوا بيومكم الجديد..بعدها إفطارا..التمارين تجعل شهيتنا على أهبة الإستعداد لالتهام كل الطعام وسط مناغشات وضحكات ونظرات أبوية تقول الكثير، يعود من عمله، يغتسل، يدخل حجرته لبعض القيلولة، بوقت محدد ومعتاد توقظه أمى بهدوء،لتناول الغذاء، ليلا يجلس بيننا يحكى قصص الانبياء والمواقف النبوية الشريفة..يذهب بنا إلى أسرتنا..يغطينا..يمرر يده على وجهنا..يقبلنا..ثم ينصرف ممتلئا حبا وحنانا، يدخل إلى حجرة خصصها كمكتب ومكتبة،يقرأ بكتب الفقة والحديث والتفسير الدينى لعلماء التاريخ، ويقرأ للجدد، يعقد مقارنات بينهم، يخرج بنتائج مهمه تضاف إلى فكره، بين الحين والآخر تأتيه بمشروب دافئ، بعد إنتهاؤه غير المحدد وقتا يخلد للنوم، تتغير مسيرة طقوسه كل خميس، يذهب بعد أداء صلاة العشاء، إلى بيت (عبد العزيز بدر)أحد المتصوفين، الذى يقيم حضرة وحلقة ذكر يؤمها الكثير شبابا وشيوخا، يعود بعدها كأنه سابح بالفضاء، يدندن بصوت مسموع بعد الأدعية والتراتيل التى أداها بحلقة الذكر، ينام بعدها هادئا تماماً، وجهه مضئ يشع نورا، حتى أن (ثريا) أمنا كانت تداعبه.
* يبدو انى تزوجت نورا ساطعا، ما اسعدنى.
بالفعل كان رجلا نوارنيا الصفاء يسكنه، هاشا باشا بكل الوجوه، كان مثل البابا نويل يوزع هداياه حنانا على الجميع، كان يردد دوما.
* إن لم يستطع الإنسان إكتساب محبه الناس..يكون بعيدا إلى حد كبير عن محبه الله..من يحبه ربه يحبب الناس به.
كان أحيانا يقول لنا.
=سوف أخطف رجلى واذهب إلى بنها، لأقرأ وأتصفح الصحف لأعرف مجريات الأمور وما يحدث حولنا، يذهب إلى محطة القطار، الرصيف الأول، (صادق)، أحد باعة الصحف، كان يمنحه الكثير، يقرأ الصحف والمجلات، كما يشاء، ربما يعود أحيانا إلينا ببعض مجلات الأطفال، وبعض صحف يرى أن بها كتابات تستحق الاستغراق بها بهدوء،ةكان أيضا يحضر الليالي الختامية للموالد اينما وجدت، اليوم الختامى يجمع بين كل صنوف البشر، من جاء يزيح هموم ايامة بالذكر والدروشة، من جاء ملتمسا البركة وتلبية حاجاته من آل البيت، ومن جاء باحثا عن شهوة وغريزة واشباعها بالشم واللمس وربما توصل لما هو أكثر.
هكذا عشت بأجواء أسرة لها طقوسا تثرى الروح، لم ينغص حياتنا أى امر إلا مرض الجد الذى إستمر طويلا،الحزن والألم أصبح شريكا مقيما بالبيت،الجد متحمل لا يشكو رغم علم الجميع مدى شراسة مرضه، كان يطلب كل الأحفاد، نتجمع حوله،ويطلب خروج الكل دوننا، يجمع أيدينا فوق ايادى بعضنا، يرسل بعيونة رسائل نعيها ونفهمها، نلمح بريق دموع يكمن بعيونة،لكننا لا نشعره بأننا نراها، هو طوال عمره قويا لا يحب الضعف ولا يسمح به، البيت صار ساحة زيارات مستمرة، الكل بحالة حزن معلن،تحكى عنه حكايات، أستمر مرضه سنوات، طريح الفراش دون حركة، محاط برعاية وحب، دون أى تذمر او إمتعاض، تغير الأب بدرجة حادة، أصبح غالب وقته مقيما بحجرته، يقرأ القرآن الكريم ، يردد الأدعية، يقوم على خدمة الأب بكل شئونه، مأكل مشرب، إستحمام، كثيرا ما يأخذ جانبا قصيا،يضع رأسه بحجره ويبكى كاتما صوته، فاضت روحه ذات يوم أثناء أذان الفجر، الجميع رغم إنسياب الدموع كان يكبر ويبسمل، موت برعاية الأذان، بكته كل القرية، ارخى الحزن سدوله عليها، وكعادة الريف الأصيل، أعلن الحداد على كل البيوت، السرادق أقيم بما يليق به، أتاه الرجال والنساء من كل البلدان، كان حريصا كل الحرص على تنوع المصاهرات مع عديد الأسر ببلدان ومدن ومحافظات، صانعا سياجا من الروابط القوية، اكتظت طرقات القرية بكل أنواع الركائب والسيارات على تنوع طرازاتها، ومكانة مالكها، وكارتات فخيمة..صوانى الطعام خرجت من كل البيوت، تقدم للمعزين من ضيوف القرية، يجالسهم نوعا من الترحاب بعضا من وجهاء القرية، واستمرت طقوس العزاء لاسابيع..عندما هدأت الأمور، إجتمع الأبناء ودخلوا محيطين بأمهم التى صارت تسير مستندة إلى عصاه إلى حجرة أبيهم، أخرجت الأم من صدرها مفتاحا،ناولته لاكبر الأبناء..اللواء الشرطى(محمد منصور)، فتح درج المكتب، أخرج ما به، بعض من يوميات أبيه..بعض من خطابات اتته من أصدقاء، بعض أوراق إتفاقات صلح بين البعض، وصور تجمعه ببعض وجهاء المديرية، وأخيرا ملفا به اوراق سميكة خضراء، إتضح أنها عقود ملكية الأرض وبعض أراضى البناء موثقة من الجهات الرسمية لكل من أبناؤه،ما لفت النظر عقد منفرد مرفقا به مظروف، فتحه اللواء فوجئ أنه عقد ملكية فدان أرض (لثريا)، وخطاب قرأة على مسمع من الجميع.
= إليك إبنتى وأقولها إحساسا صادقا لا شائبة به،أهديك هذا الفدان إعترافا وإمتنانا بعطائك الذى قدمتيه دون أن نطلبه يوما،اكرمتينا بعطاؤك العفوى المفعم بحب، أحييك على إمتلاكك قلب زوجك وعلى تربية أولادك بشكل يجعلنا فخورين انهم من صلبنا، إقبلى منى هذا وسامحينى على لحظة فكرت برفضى هذا الزواج، لا نعرف الإنسان وأصالته الا من خلال العشرة والتعامل الفعلى، وأظن أن الجميع يؤيدون هذا، بارك الله بك وعليك.
اغرورت العيون، إرتمت بحضن الحاجة (نعيمة) مطلقة عن دموعها الحبيسة داخل صدرها، قالت.
* والله والله والله والله لم أكن أريد شيئا، غير وجودك بيننا، أنت أبى والله.
أخذ الأب نصيبة من الأرض الزراعية المحددة حسب العقد،ةوأصر على زراعتها بنفسه رغم عدم امتهانة للمهنة مطلقا، ولكن بالسؤال والاسترشاد بأصحاب الخبرة ساعدة أن يتحول بوقت قليل إلى فلاح جيد، وحصل على قطعة أرض فضاء فوجئ بأن الجد قد كتبها له تحديدا، سبحان الله كأنه شريك أحلامه وأفكاره، أرض تقع على ناصيتن، مساحة تقارب قيراطين أرض، إبتنى عليها منزلا من ثلاث طوابق تطوقه من كل جهاته حديقة بها شجيرات زينة..وادأزهار، وبين الفراغات كان يزرع بعض الخضروات لتوفير متطلبات البيت، وإستمرت الحياة تسير سيرتها كما خطط لها وكما أراد الأب ،ولكن المؤكد أنه إنتهج نهج أبيه بكل شئ مع بعض التعديلات التى تواكب الزمن.
Discussion about this post