“ثدي واحد” الكتاب البكر للكاتبة التونسية دنيا مليكة .
أكثر من سرطان تواجهه المرأة التونسية في حياتها اليومية .
قراءة في قصص دنيا مليكة بقلم الشاعر عمر دغرير:
بالرغم من القفزة النوعية في التجارب الطبية الخاصة بالبحث عن الدواء لكل داء , وتحديدا الأمراض الخبيثة مثل داء السرطان , الذي لا يزال يكتنفه الغموض وتحيط به جدران من الصمت المطبق, فلا يكون الحديث عنه إلا بالهمس ,والغمز, والنظرات الفضولية التي تحمل في طياتها أسئلة كثيرة من دون وجود أجوبة شافية, ووحدهم الكتاب والمبدعون حاولوا كشف المستور, وإدراجه في قصصهم و رواياتهم , قصد التقليل من مخاوف المرضى بسرد حكاياتهم وطرح معاناتهم في مقاومة هذا الداء الفتاك .ولعل الكاتبة دنيا مليكة من خلال اختيارها هذا العنوان (ثدي واحد ) لمجموعة من القصص المختلفة أرادت وهي المرأة المبدعة والجريئة أن تطمئن المرأة العادية بالخصوص , وتحدّ من مخاوفها ليس من هذا السرطان فحسب بل كذلك من بعض السرطانات الأخرى التي قد تعترضها في حياتها اليومية .والسؤال الذي يمكن طرحه قبل قراءة هذه القصص : ترى كم من سرطان يمكن التعرف عليه من خلال هذه الحكايات وهل المرأة على علم بكل هذه السرطانات ؟
في البداية لا بدّ أن أشير إلى أن من بين هذه السرطانات المختلفة ,وأولها وأهمها في آن ,سرطان يفتك بجزء مكشوف من جسد المرأة، وتحديداً الثدي؟ ويطلق عليه سرطان الثدي وهو فظيع جدا ,والنساء المصابات به يعانين من مشاكل جسدية عديدة نتيجة التغييرات الكثيرة التي قد تطرأ على أجسامهنّ، وما يزيد الأمور سوءاً هو غياب الدعم الاجتماعي والوصمة المرتبطة بمثل هذا النوع من الأمراض، فبغض النظر عمّا إذا كانت المرأة قد خضعت لعملية استئصال الثدي أم لا، فتلاحقها الوصمة نفسها، وتشعر بأنها وحيدة في معركتها مع المرض، وعرضة للأحكام المسبقة حتى من أقرب المقربين منها، وكلها عوامل تؤثر سلباً على حالتها الصحية وعلى تقدمها في الشفاء، بخاصة حين تكون ثقتها بنفسها معدومة، أو تنظر إلى جسدها بعيون مهتزة وقلقة.
وقصة (ثدي واحد) تحكي عن إمرأة شاء القدر أن تولد بثدي واحد . وبقلبها الكبير تقبلت وضعها وتأقلمت مع حالتها حتى أنها تعودت على قص الجزء الثاني من كل حمالة صدر تلبسها . وشاء القدرأيضا أن يصاب هذا الثدي الوحيد بالسرطان الذي أجبرها على قطعه لتكمل حياتها بدون أثداء . ومن حسن حظها , وبمعنوياتها المرتفعة تحدت النقص وذهبت بعيدا لتصبح من أشهر عارضات الأزياء …وقد ورد على لسان الراوية في صفحة 50 :
(…عارضة أزياء بدون ثديين تلبس الثوب الأبيض في العرض الأخير للمصمّم المشهور جاء عنوان تصدّر في الغد إحدى الصحف الإلكترونية اليوميّة الأكثر متابعة على النات….).
ثم أنهت الكاتبة قصتها بقفلة مفاجئة وصادمة في آن , إذ جاء فيها :
(…لم يمرّ وقت طويل حتّى اصطّفت طوابير طويلة من الفتيات أمام عيادات أطّباء الجراحة للمطالبة ببتر أثدائهنّ…).
وهذا في اعتقادي سرطان من نوع آخر أصاب عقول بعض الفتيات ودفعهم لبتر أثدائهن السليمة من كل داء .
والكاتبة بأسلوبها المشوق ولغتها السهلة والقريبة من القارئ العادي وقفلات قصصها الصادمة ,تمكنت من شد الإنتباه وجعل الحكاية حميمية تدور أحداثها داخل الوسط العائلي وفي فضاء الأسرة والأقرباء .
وهذه المجموعة تتكون من 21 قصة وأقصوصة , حافظت فيها الكاتبة على جميع مقومات القصة القصيرة التي عرفت ضمن الصياغات القصصية الشائعة، وضمن ألوان الأدب الحديث، وقد ظهرهذا اللون الأدبي في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر بتأثير النزعة الواقعية التي باتت تعنى بالأمور والمواقف الصغيرة والعادية من الحياة. ثم انتقل عن طريق الترجمة إلى كافة البلدان الغربية والعربية. بحيث تتناول هذه القصص القصيرة حلقات عرضية من الحياة الإنسانية والطبائع البشرية، وما تتعرض له من الحوادث, وهي تدور حول حادثة خاصة ومحور واحد من حياة شخص أومجموعة أشخاص. وقد حرصت الكاتبة على أن تكتب جميع قصصها رغم اختلاف مواضيعها على نمط خاص بها ,محافظة على كل العناصر الأساسية للقصة القصيرة من حدث و شخصيات وأسلوب وفكرة . وصاغت كل قصة بفكرة يظهرها الحدث وتجسدها الشخصيات, والجميل في كل ذلك هوأن هذه الفكرة تكتمل باكتمال القصة, ولا يمكن تصوّرها أو إدراكها قبل نهاية القصة نفسها . وهنا لا بد أن أشير إلى أن دنيا مليكة تفننت في تصويرالأحداث وتطويرها حتى تصل إلى الذروة، و يمكن القول , أن جميع الأوصاف والحوار والسرد الذي انتهجته الكاتبة قد جاء لتحقيق هذه الذروة المرجوة ,والثابت أنها اعتمدت في أسلوبها على التركيز والتكثيف والإيحاء,فكانت جملها قصيرة ومضغوطة , وكل كلماتها كانت تحمل شحنات من الإيحاء الذي يعبرعن دلالات معينة تؤدي إلى الغاية والهدف من وراء كل حكاية .
وفي هذه القصص تتعدد السرطانات وتظهر للقارئ في أشكال مختلفة , ففي قصة (هو وهي) تضع الزوجة طبق الفاكهة فوق الطاولة في غرفة الجلوس , وتدخل في حوار طويل مع زوجها حول وجبة العشاء وطبقه المفضل “سلة الصياد” وكيف أنها طبخته بكثير من المحبة .وأنها أمضت وقتا طويلا في إعداده حتى يكون شهيا وبنكهة قوية ولذيذة وغايتها بذلك التمهيد لطلب من طلباتها الكثيرة والتي لا تنتهي .بحيث كانت ترغب في تغيير ستائر غرفة نومها . ولأن الظرف لا يسمح بمثل هذه المصاريف حاول الزوج إقناعها بالعدول عن هذا الطلب .ولأنها كانت عنيدة ولن تقبل أن يرفض لها طلب , اقترحت عليه أن يدعو أصدقاءه لوليمة يقيمانها بالبيت بعد انقطاع طال بسبب الكورونا الملعونة واستغلت هذه المناسبة لتنفيذ طلبها وتجديد ستائر الغرفة . وبعد أن حدد الزوج مع زوجته تكاليف هذه الوليمة التي بلغت ألف وسبع مائة وثلاثون دينارا.قالت له بدهاء في صفحة 8 :
(… هي: أليس كثيرا ألف وسبعمائة وثلاثون دينارا، الظرف غيرملائم. كما ترى”الكورونا” أضرّت بالجميع. والوضع يفرض علينا الضغط على المصاريف، كان هذا كلامك منذ حين.
هوضاحكا :يا عزيزتي المثل يقول “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ”
سرعان مارسمت على وجهها ابتسامة ماكرة.
هي: وهوكذلك ياعزيزي، إذن وأنت تمرّغدا على البنك اسحب من حسابنا ضعف المبلغ وقسّمه إلى نصفين واجعل كلّ نصف في ظرف،ظرف للوليمة وظرف لـ “ستيفال ” سيكون الغداء أروع وستائرالصالون مواكبة للموضة. ..).
وفي قصة أخرى نكتشف سرطانا آخر, كثيرا ما نخر جيوب المواطنين دون أن يصدر منهم صوت رغم الألم النفسي الذي لازمهم لفترة طويلة في حياتهم اليومية . والكاتبة عرفت كيف تخلع اللثام وتكشف عن هذا السرطان . حتى أنها في قصة ( الورقة النقدية ) تحدثت عن امرأة كانت تقود سيارتها بكل انتباه ودون أن تتجاوز علامات المرور . وفي طريقها أوقفها عون مرور وأعلمها بأنها عبرت والضوء أحمر وأنها أمام محضر ومائة وعشرين دينارا خطية .ولأنها إمرأة دخل معها في حوار عن اسمها وأصلها وفصلها ,وعن عملها ومكان إقامتها ,وعن ظروف عمله الصعبة , وكيف أنه منذ الصباح الباكر لم يضع في فمه لقمة . وأنه سيعتبرها ضيفة في تونس, ولن يحرر ضدها محضرا ,فقط في المقابل طلب منها ثمن كسكروت و قارورة مياه معدنية . ولأنها لا تملك في حافظة نقودها غير ورقة الخمسين دينارا . سلمته الورقة على أن يفكها في الكشك المقابل ويكتفي بعشرة دنانير , و يعيد لها الباقي . وبقيت تنتظر بينما غاب عون المرور خلف الأشجار .وكما في كل قصة أنهت الكاتبة حكايتها بقفلة لم تكن في الحسبان بحيث كتبت في صفحة 71 بعد أن سألت صاحب الكشك عن عون الأمن الذي قصده لفك الورقة النقدية :
(… صباح الخير،هل مرّعليك شرطي ليفكّ…؟ ثمّ استدركت الأمر وصمتت.
ابتسم وقال: -لم يمرّعليّ ولكنّني رأيته يستقلّ سيّارة تاكسي منذ حوالي ربع ساعة.
ثمّ أضاف بعد أن نظرإليها نظرة ذات مغزى: -في العادة،كان ينهي عمله بعد هذاالوقت بكثير لكن اليوم يبدو أنّه قد غنم رزقا وافرا فعاد مبكّرا على غير العادة.
أخرست الدهشة لسانها ولم تعلّق على الأمر. ولكنّها أغلقت نافذة السيّارة ثمّ وضعت يدها على مبدّل السرعة وضغطت على دواسة البنزين لتنطلق بسرعة نحو الأمام.”كلّ هذا لن يثنيني عن عزمي، حالما أنهي دراستي الجامعيّة سأعود إلى هذا الوطن”…). والأكيد أن مثل هذه التصرفات التي قام بها عون المرور مع هذه المرأة لم تكن شاذة وهناك العديد من الخارجين عن القانون والفاقدين للضمير المهني ولحب هذا الوطن يمارسون هذا العمل الشنيع ويسلبون المواطنين أموالهم هنا وهناك . وهذا لعمري سرطان فظيع ينخر الدولة والوطن في ذات الوقت .
وفي موقع آخر وفي قصة أخرى مؤثرة جدا إختارت لها الكاتبة عنوانا مثيرا (أحمر الشفاه ) كان فيها الشك بمثابة سرطان كاد يتسبب في هدم أسرة عاشت في استقرار وهناء لفترة طويلة . والحكاية أن إمرأة متزوجة ولها إبنة لم تتجاوز أسبوعها الثالث , أثناء قيامها بشؤون البيت اليومية تفطنت إلى وجود عقب سيجارة عليه أثر أحمر شفاه في حوض الياسمينة .ولا أحد في البيت يدخن السجائر . استغربت في البداية قبل أن يهزها الشك إلى أن زوجها خانها وجلب إحدى الفتيات الساقطات أثناء غيابها . وكادت تهدم أسرتها بيديها وتنهي قصة حب جميلة شبيهة بقصة قيس و ليلى , لولا تدخل أختها التي اعترفت في الوقت المناسب بأنها صاحبة عقب السيجارة مصدر الشك :وقد كتبت في صفحة 20 :
(…اليوم وأنا أسقي الياسمينة، تفطّنت إلى عقب سيجارة في الأصيص وعندما رفعت العقب لألقي به في القمامة تفطّنت إلى أثرأحمرشفاه فاقع عليه. لمن عساه يكون وأنا لم أستقبل أحدًا منذ الولادة؟ لن يكون سوى لامرأة جلبها قيس إلى البيت في غيابي “.صمتت هدى بعض الوقت ثمّ قالت بنبرة الواثق من نفسه “قيس بريء ولم يجلب أحدًا إلى البيت” “بريء كيف؟، أعرف أنّك تقفين دوما في صفّه،لكن هذه المرّة لا يمكن أن تفعلي ذلك. فعلته شنيعة ولا يمكن أن تغتفر”. أجابتها هدى بإصرار”قلت لك قيس بريء من كلّ هذا “ثمّ أردفت قائلة “وإذا كان هناك مذنب حقّا فهوأنا” اندهشت “أنت !!!كيف؟” صمتت هدى ثمّ أضافت”أنا من دخّنت البارحة في الشرفة ” “أنت؟؟!!لا لا أصدّق ذلك “. “بلى صدّقي، أنا أدّخن منذ مدّة وأخفيت عنك الأمر حتّى لا تلعبي دور الأخت الكبرى وتؤنبينني…).
وكم من عائلة مستقرة في المجتمع تسبب الشك في تحطيمها و تشرد أفرادها وهو بمثابة السرطان الفتاك الذي ينخر الأسر والعائلات في هذا الزمن بالذات .
وبعيدا عن السرطانات تميزت هذه القصص بعنصري التشويق والمفاجأة .حتى أن أغلبها تنتهي بنهايات مفاجئة تصدم المتلقي بمعطياتها الخارقة أو السريالية في أغلب الأحيان , إضافة إلى تنوع المحاور واختلافها بحيث نقرأ عن تربية الأطفال في البيت وفي المدرسة كما هو الحال في قصة (تحسس جسدك) وكذلك قصة (وعاء) . ونقرأ عن الهم السياسي في قصة ( فرحة شعب) وكذلك في قصة (زواج في السفارة) كما تعرضت بعض القصص إلى البؤس والفقر وذلك في قصة (لله يا محسنين) وكذلك (حي البائسين) . واستعرضت الكاتبة موضوع الغربة والهجرة في قصة (وليمة مع وقف التنفيذ ) . وكل هذه القصص تقريبا تستحق الوقوف عليها, والتعمق في أبعادها .ولعل القصة التي ختمت بها المجموعة تحت عنوان (حبوبة) كانت من أجمل القصص من حيث البناء والسرد والتشويق والمخاتلة . حتى أنها بدأتها بالفقرة التالية وتحديدا في صفحة 91 :
(…كانت سنية مستلقية على الأريكة عندما فوجئت بها ترتمي عليها وتضع رأسها الصغيرعلى فخذها لتستسلم لغفوة خاطفة. نظرت إليها بحنان ثمّ ربّتت على رأسها بلطف قبل أن تداعبه بأناملها. همّت سنية أن تنحني عليها وتقبّلها لكنّها عدلت عن ذلك كي لا تزعج نومها الخفيف. وفكّرت كيف أنّها غيّرت حياتها وبعثت البهجة والفرح في البيت الذي ظلّ ساكنا سنينا بسبب عدم وجود الأطفال…).
والقارئ العادي لهذه الفقرة يفهم أن البطلة سنية وهي مستلقية على الأريكة فاجأتها هذه الصغيرة ونامت على فخذها . وتستمر الحكاية بحيث في غفلة منها تخرج الصغيرة وتضيع في الطرقات .وتجوب سنية جميع شوارع المنطقة ولم تعثر على صغيرتها قبل أن تطلق العنان لبكاء صاخب وتبقي لزمن بدون أكل ولا نوم لأن قرة عينها بعيدة عنها ولا تعرف مصيرها .
وتنتهي القصة بأن طبيبة بيطرية تظهر في آخر الحكاية وتكشف عن هوية هذه الصغيرة , وهي كلبة صغيرة تبنتها سنية وعاشت معها كأنها ابنتها .وحزنت كثيرا حين فقدتها ومرت عليها أوقات صعبة قبل أن تتدخل الطبيبة وتعيدها إليها عن طريق شاب كان اعتنى بها طيلة الغياب وأطلق عليها إسما آخر (لبيبة) .وقد جاء في صفحة 94 :
(…عندما همّ الشاب بالخروج انتفضت واقفة لتتبعه. فقال لها بنبرة حزينة” لبيبة هذا هو بيتك وأنا الآن مطمئن لأنّك عدت إلى حضن عائلتك”. ثمّ التفت نحوهما وأخبرهما أنّه أطلق عليها ذلك الاسم لشدّة فطنتها. ولم يلبث أن انحنى عليها وحملها ليعانقها قبل أن يغلق الباب ويغادرمسرعا. أحسّت سنية بشعورغريب ينهشها وجلست صامتة تنظر إليها وتتابع حركاتها. ثمّ أسرعت تتصلّ بالطبيبة البيطرية لتسألها عن سبب تصرّفها الغريب. أخبرتها أنّ الكلاب عندما تتغيّرعليها الأماكن يتشوّش ذهنها ويتطلّب الأمر يومين على الأقل حتّى تعود”حبّوبة” إلى حالتها الطبيعيّة…).
وفي النهاية لا بد أن أشير إلى أن هذه القراءة لهذه القصص , قد تفتح الباب للمهتمين بهذا السياق الفني حتى يتأملوا متن نصوصها المكتنزة بإمكانات قراءات أخرى أكثر عمقاً وأكثر ثراءا .
ملاحظة : صدرت هذه المجموعة في الأسبوع الأول من جانفي 2023 عن دار ورقة للنشر والتوزيع بتونس في 95 صفحة من الحجم المتوسط و في نسخة جميلة وتصدرت الغلاف لوحة للفنان ماجد زليلة.
Discussion about this post