بؤساء اليوم
بقلم: منعم صالح
ان كثرة الحديث عن السرقة والنهب وتكرار ذلك في الاعلام وعلى مدار السنة ،،جعل هذا الامر وكانه من المسلمات لينتشر في السلوك واللاوعي الجماعي ،فانكسرت كل ما كانت تمثل تمثل قيودا اخلاقية امام اصحاب النفوس الجشعة…ليشرعوا لانفسهم الاحتيال و الغش.
من باب اليأس الذي ولد لا مبالاة وهجرا لمتابعة الشان العام منذ سنين ،لم ارغب يوما في الحديث عن الفساد السائد ،،فقد اكتفينا من سماع اخباره حتى شعرنا بالقرف.لكن فضولي اللامتناهي يجعلني من حين الى اخر افتح احدى النوافذ على هذه الحياة والواقع،
اليوم فتحت نافذة على وجه بشع لقساوة الحياة،، فأشاهد عن كثب كيف تمر الايام على فئة من الناس ،يعيشون بيننا في هذا الواقع الغير معترف بالجمود والمهادنة، جعل من اللامبالاة قفلا موصدا لنافذة تحول بيننا وبيهم حتى تعودنا على رؤيتهم يوميا ،كمشهد مؤلوف لا نتسائل حتى عنه.
هو مشهد اولئك البؤساء واغلبهن العجائز، الاتي هجرن مكرهات راحة الفراش في اواخر اعمارهن، بعد ان دفعتهن الفاقةوالحاجة لتحصيل القوة الى اكثر الاماكن التي تثير اشمئزازنا .تراهن يجبن الشوارع والاحياء طولا وعرضا، بحثا عن حاويات الفضلات، للظفر ببعض القوارير البلاستيكية ..يحملن على ظهورهن المنحنية كيسا ضخما ،يضعن فيه ما عثرن عليه من قوارير واغراض بلاستيكية ،،يمشين غير عابئات بنظرات الشفقة تجاههن، يتوقفن عند كل حاوية فضلات ليطلعن على ما فيها او نبشها ان اقتضى الامر،، وقد يحصدن الخيبة بعد وصولهن المتأخر، نظرا لتزايد نظرائهن ممن اضطرتهن قساوة اللايام الى اللجوء الى هذا المصدر للرزق. فيمضين خالي الوفاض في غير يأس ،تسوقهن نظرة اصرار نحو الامام الى حاوية اخرى ، شعارهن في ذلك الرزق بيد الله.
يتطلب تحصيل كيلوغرام واحد حوالي خمسين قارورة بلاستيكية ،،ليشتريه منهن “اصاحب القاراجات” كما نطلق عليهم ،بنصف دينار للكيلوغرام الواحد.
هناك في “القاراج ” وهو مستودع كبير يقصده هؤلاء “البرباشة”او بالاحرى جامعوا البلاستيك ،لبيع ما حصلوه من جهد امتد على طول ساعات يوم او يومين من البحث،، اكوام من مختلف انواع الفضلات القابلة للرسكلة ،، يشتريها اصحاب هذه المراكز من عند هؤلاء ،،ثم يبيعونها بدورهم لمصانع التحويل والرسكلة، بسعر مضاعف ثلاث او اربع مرات عن سعر الشراء …وسط المستودع ميزان إلكتروني كبير،ب جانبه كرسي يجلس عليه رجل ضخم البنية كانه احد الزبانية ، يستقبل اكياس هؤلاء المساكين مبتسما بكل ثقة، كانه ملك لا يظلم عنده احد …انزلت العجوز في عناء الكيس من غلى ظهرها لتضعه على ذاك الميزان الدقيق، والله اعلم ،فكان محصول ما جمعته سبع كلغرامات.
ادخل يده فيصندوق حديدي وضع على يمينه ، واخرج منه في امتعاض باد على وجهه بضع دنانير ،، وسلمها ثلاثة دنانير ونصف، بيد زاهدة كانما يتصدق عليها ويمن،، او كانه اوفاها حقها واكثر ، رغم اني اشك في ذلك،،
منهن من اكتفت بقدر رزقها لذلك اليوم رغم انه لا يفي حتى لاعداد طعام الغذاء ، ومنهن من انطلقت مجددا لتاتيه بدفعة ثانية.
لعل من قرأ هذا المقال يتسائل ما علاقة ما ذكرته في البداية من تفشي الغش والفساد بقصة هؤلاء المساكين ..لا ادري ان كان البحث عن الحقيقة او الاشفاق على حال هؤلا جعلني اخوض التجربة للتاكد من سلامة العملية بين هؤلاء واصحاب المستودعات، فقمت بجمع كيس من الاغراض البلاستيكية ، وبعد ان حددها وزنها وقد كان خمسة كيلوغرامات ، حملت الكيس وقصدت “القاراج” ، حيث اشار الي صاحبنا ان اضع الكيس بنفسي على الميزان لتحديد الوزن، وكانه يوهمني بمدى شفافية العملية ،، غير ان شكي كان في محله ، فميزان صاحبنا لم يكن رحيما بهؤلاء ولا عادلا.. وقدر لنا وزن الكيس باربع كيلوغرامات وبضع غرامات.
Discussion about this post