رأس مملوء حكايات
مقتطفات حياتية
أحمد طايل
…طائر الموت…
==============
عرفته من بدايات حبونا وثبات أقدامنا على الأرض، وظل رفيقا دائما لى، كان إبن لرجل يعمل بإحدى شركات الغزل بالمدينة الشهيرة بمصانع الغزل،يخرج بعد صلاة الفجر، يعود مع مغيب الشمس، كان يتوسط إخوته، بين سبعة أخوة هو بالترتيب الرابع بينهم، الأم ربه بيت أمية لم تتلقى أى قسط من التعلم، ولكنها تتمتع بحكمة تفوق عمرها وتفوق أميتها، تدير حياتها بشكل مذهل، رغم أن الفاصل العمرى بين كل إبن وآخر لا يتجاوز العام والنصف، كنا سويا معا، نذهب لمكتب حفظ القرآن، نلعب.. إرتبطنا سويا ..من من بدايات العمر بكل الزوايا، حتى طوال دراستنا كنا نجلس على مقعد واحد، هو ببيتى وأنا ببيته، لا نفترق إلا ساعات النوم، لم نفترق إلا بمرحلة الدراسة الجامعية، من بدايات العمر وهو يهوى الصيد، ينهض باكرا، يأتينى حاملا سنارته، أتابعة، لم أكن أهوى الصيد، نذهب لإحدى الزراعات القريبة من الترعة، نحفر لاستخراج الديدان التى تستخدم طعما للسمك، يختار مكانا يخيل له أن به ما يطمح به من أسماك، يظل ساعات وأنا مهمتى تتلخص بالتقاط السمك الذى إقتصنته السنارة ووضعه بكيس من القماش أعده لهذا، ننهض عند بزوغ الشمس ولهيب أشعتها يصر على صفعنا، يلقى السنارة جانبا، ثم اخذ بنزع ثيابة حتى يصبح عاريا تماما دون خجل مبررا أنه مازال صغيرا، يلقى نفسه إلى الترعة، وسط صرخاتى له بالخروج حتى لا يصاب بالبلهاريسيا، ويصبح تحت رحمة الطرطير المخصصة لعلاج هذا المرض حينها، وكم رأيت تلاميذ المدارس طوابير يصطفون بالوحدة الصحية وهم يأخذون.هذه اللقحات وكم كانت صعبه على الأطفال الصغار، البكاء كان يسودهم.دوما، أصرخ وأصرخ ولا مبالاة بندائاتى، طقس يتكرر يوميا، حتى وصلنا إلى مرحلة التعليم الإعدادى، ونحن بالصف الثانى تحديدا..أصيب بمرض إحتار أطباء المدينة بتشخيصة إلى أن ذهب إلى الإسكندرية بتوصية من أحد الأقرباء، الطبيب صرح..أنه مصاب بحمى البحر المتوسط، كانت أول مرة يسمع بهذا المرض، ظل شهورا يتناول الدواء، طريح الفراش واهن تماما لا يتحرك بسهولة، شفى بعد الكثير من المعاناة، من إن شفى إلا وفاجئنى بتغير طقوسة إلى طقس لم أكن أتوقعه، عشق الدخول إلى المواسير المتصله بالسواقى، يصطاد ما بها من أسماك ، بيديه وللحقيقة كان بارعا، ظل على هذا المنوال سنوات طوال، أصيب مرة أخرى بذات المرض السابق، كانت وعكة أشد وطأة هذه المرة طلق كل هواياته الغريبة، وأخذ منهجا جديدا، عشق حلقات الذكر والدروشة،وكان يغيب بالأيام لا أحد يعلم عنه شئ ولم يسأله أحد أين كان، تخرج من الجامعة، عمل بمديرية الزراعة، كان مغلقا على نفسه، رفض الزواج نهائيا، قائلا لمرات.
=وأنا رجل أحمل بجسدى مرضا شرسا أنهى الكثير من عافيتى، ثم إحساسى ينبئنى أنى قريب من الموت، فكيف لى بظلم إنسانة كل ذنبها أنها تزوجت منى؟، أرجوكم لا تكثروا بالحديث فى هذا الشأن، وعاود عيش حياته على منهجة الجديد، عمل، حلقات ذكر ودروشة وإرتياد الموالد بكل البقاع، القرآن الكريم رفيقا دائما، الأب أضيف إلى عمره أعواما لم يعشها، ولم يعرفها، إنحنى ظهره حزنا على الإبن الأكبر الذى كان دوماً مصدر السعادة بالبيت وبكل الليالى، كان يقلد الجميع..حتى.نفسه..بحركات تمثيلية رائعة، هو الآخر ما إن حصل على مؤهلة التعليمى المتوسط وأدى الخدمة العسكرية، إلا وقد نادته نداهة السفر للعراق ضمن موجة سادت وعلت الوطن، غالبية الشباب والرجال شدوا الرحال إليهاكان هذا قبيل الحرب العراقية الإيرانية بسنوات، إكتفى بإرسال حوالات مالية إلى أسرته، ثم إنقطعت أخباره تماما.هناك أقاويل كثيرة ترددت عن سبب غيابة، قالوا أنه إنضم لحزب البعث الحاكم، وأنه أصبح له شأن ومكانة به صعب ان يتخلى عنها ومكاسبها وواجهتها الإجتماعية، قالوا إنه قتل اثناء الحرب، وقالوا إنه تزوج إحدى بنات أصحاب القرار واشترطت عليه، أن ينسلخ عن ماضية ويمحو ذاكرته تماما، وكان صاحب شخصية تقبل الإنسلاخ، الأب زاد زهده بالحياة، إزداد ظهرة تقوسا وكأنه يرسل رسالة للارض، أنا قادم إليك قريبا، الأم تقرحت عيونها بكاءا،الأب توفى فجأة، جاءت الأم لتوقظة لصلاة الفجر قبل الذهاب للعمل، وجدته بلا حراك، وكأن طائر الموت قد أقام عشه بهذا البيت..لم تمر سنوات قليلة إلا ولحقه صديقى، أيضا سكته قلبية، وتلاه أخان آخران بذات طقوس الموت، عاد الأخ الاكبر بعد غياب أكثر من عشرين عاماً بصحبته زوجة وأولاد وبعض المال، لم يعلم بما حدث لأسرته، بكى كثيرا، ولكن علام ينفع البكاء.،لأم فقدت الرؤية لحد كبير، إلتحق الكبير بإحدى شركات القرية..حاول جاهدا أن يعيد البهجة إلى البيت، إستطاع ولكن بعد العودة بسنوات قليلة مات بنفس الطريقة، ومازالت الزوجة العراقية وأولادها يقومون لخدمة الأم التى لم يتبقى لها إلا إبنة وحيدة وبعض الأحفاد..تكتفى بما تبقى لها من بصر أن تضمهم لصدرها تشتم منهم رائحة من ذهبوا.
Discussion about this post