الشعر في الطقوس الإبداعية لدى الشاعرة التونسية الكبيرة فائزة بنمسعود : وميضٌ من النبض الإنساني الجليل
الشعر وميضٌ من النبض الإنساني، مشترك بين الناس جميعًا،من مبدِعين أو دارسين أو نقَّاد، وعلى أيدي النُّقاد والدارسين تتألق جذوة الشعر،وتتضح خوافيه،وتتعطر مسيرته إلى جميع الناس..
والواقع أن الدراسة الأسلوبية تركِّز على دراسة الظواهر اللغوية،وبيانِ ما تؤديه من معانٍ بلاغية،ومقاصدَ أسلوبية؛وذلك من خلال المستويات الصوتية،والصرفية،والمعجمية،التي تهدف إلى إيضاح العلاقة بين اللفظة المفردة،وتأثيرها في الشعور النفسي للمتلقِّي،مع سماحها بالوقوف على دراسة التركيب من خلال دراسة الأساليب الإنشائية،وما يُعاونها من أساليبَ تكشف براعةَ التركيب ودقةَ الأسلوب،ومن خلالها نُدرك الصِّلة الوثيقة بين النظرية والتطبيق.
إن التطبيقات في المنهج الأسلوبي ليست بالأمر الهين؛حيث يتبين من خلالها قدرةُ الدارس، ومدى فَهمه للمنهج الأسلوبي وكيفية تطبيقه،وكيفية تحليل النصوص،والوقوف على بلاغتها، وإبراز محاسن صياغتها ونظمها.
اللغة هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين،غير أنها تتعدَّى وظيفتها الاجتماعية المحدودةَ هذه،فتشكِّل الأساس في عملية بناء القصيدة؛إذ تمثِّل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقِّي،فتؤدي بذلك وظيفةً أخرى،تتمثَّل في إيجاد روابطَ انفعالية بينهما،فتتَجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير،وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس،والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر،ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي.
تختارالشاعرة التونسية القديرة فائزة بنمسعود من اللغة وإيحاءاتها،وتولِّد منها ما قدر على التوليد،لا لتأتي بمعانٍ تربك القراء،ولكن لتصور صفوةَ معارفهم من زوايا متفردةٍ تدهشهم وتعيش إحساسات جماليةً لا تنتهي،وحجارة هذا البناء الموضوعيِّ الألفاظ،إلا أن الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني،فتُضيف إليها أبعادًا جديدة،وبذاك تتجدد وتحيا،وبغير ذلك تذبل وتموت؛إذ نجد ألفاظها تقدِّم صورة إنسانية وفنية بغرَض إماطة اللِّثام عن هذه الألفاظ.
وتسعى الشاعرة في بعض قصائدها إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعرة،لغة تنطلق من الواقع ومن وعي الشاعرة بأدواتها الفنيَّة،فالنظر في التجربة الشعوريَّة وفَهم الحالة الذهنية لقصيدةٍ ما يتطلَّب القدرة على الانغماس في العالم النفسي للشاعر واستحضار حالته النفسية من خلال كتابته لهذه القصيدة،وفَهمُ الحالة الذهنية تَعني القدرة على استعادة الجوِّ الشعوري ومُعايَشتِه من جديد،ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يُمعِن النظر في الظروف والوقائع التي أدَّت إلى ولادة القصيدة،بدون ذلك قد تُنزع القصيدة عن سياقها النفسيِّ وتَبقى تراكمًا لغويًّا وشكلاً دون معنى،وتفقد الحسَّ الشعري..
ففي قصيدة ، “حبنا بعث وحشر” تقول الشاعرة (فائزة بنمسعود) بلغة واضحة مؤثرة
“إذا كان حبّك لي
خطيئة وآثامَا
فاقرأْ على العشقِ السلامَا
وتنفل ْ في جوف الظلام
وصلِّ صلاة الغرامَا
وأعلمُ أنّكَ مورط في الحبّ
ويبقى الكلام كلامَا
وأعلمُ أن حبي غزاك
وأنك تحتسي الشوق هيامَا
وأعلمُ أن يومك طويـــل
وأنّ ليلك سهاد وقيامَا
وأعلمُ أن قلبكْ طفلـــي
وعنّي ما رام الفطامَا
لا تدعْ الحزن يجرّ حزنا
والحزن في العشقِ حرامَا
الحبّ قدر جميل
وللروح بلسم وانسجامَا
وقصص العشقِ لا تنتهي
دوما بلقاء وأحمر ورد
وأسراب حمامَا
وحبنا ولد كبيرا
وأكبر من كل ملامَا
وحبّنا فوق الموت
ورمز شجاعة وإقدامَا
حبنا تناقلته قوافي القصيد
ودوّنته أقلاما وأقلامَا
والحبّ في شرع الهوى مباح
وما كان يوما إجرامَا
الحبّ خلود سرمديّ
لمن أخلص واستقامَا
وحبّنا بعث وحشر
وعبور صراط
يوم تقوم القيامَا..”
هذه القصيدة وجدت فيها سطوعاً وبريقاً،تتراقص حروفها تعبيراً عن اشتعالها من دون اشتعال،والتهاب من دون نار وحرارة دائمة.تعتمد الشاعرة مخايل نصّور في بناء قصيدتها على الترداد والتكرار،كما تعتمد على البناء المتوازن الذي يظهر وكأنه انسياب نهرٍ وإيقاعات عصافير..
وما من شك أن الشاعرة التونسية الكبيرة فائزة بنمسعود كغيرها من شعراء جيلها لا في تونس فحسب،وإنما على امتداد الوطن العربي،تعيش حالة من القلق النفسي،والغربة والإغتراب الذي يفجر في دواخلها هذه ثورةعمياء وتمردا أخرس،تمرد على كل شيء،حتى على قلمها الذي هو الوسيلة التي تحفر بها ما تنبجس عنه أحاسيسها ومشاعرها،وإني أسمعها تصرخ عاليا بأن قلمها لم يعد يسعفها في رسم هواجسها وهمومها وترجمة مداركه وعواطفه،لأن هذا القلم ما عاد هو السلاح الذي لا يحسن استعماله إلا ذوو المشاعر والخواطر التي تصدر عن رؤى صادقة،وإنما أصبح مطية طيعة يعتليها كل متسلق باليد ..
إن الغربة التي تعاني منها الشاعرة،رغم أنها تعيش بين ظهراني أهلها وصحبها (وأزعم أني واحد منهم)،ونتمتع بصحبتهم في ربوع بلادها (تونس)،ما هي الا حتمية من حتميات الغربة النفسية التي أفرزتها جراحات ومواجع متواترة أرهقتها ولم تكسرها،إذ ظلت شامخة شموخ الرواسي أمام العواصف..(وهذا موضوع آحر يستدعي الحبرَ الغزير )
لقد وصف النقاد الخيال الشعري بأنه قوة سحرية وتركيبية تعمل مع الإرادة الواعية،فهو مصحوب دائما بالوعي،وفي داخله يتم التوحد بين الفنان وبين المعطيات الخارجية،وعن طريق تجمع هذه المستوعبات والمشاعر يعمل الخيال على خلق بناء خيالي متكامل ..
ومن المنطلق السابق نجد شاعرتنا (الأستاذة فائزة بنمسعود) تثور أحيانا على الصور البلاغية التقليدية والعبارات العاطفية،وتحاول استبدالها بالصور الشعرية المهموسة..
إشراقات اللغة الشعرية :
ونعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية،وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمة،ولا يعنينا في هذا المقام ما قال به بعض النقاد من مفهوم للغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة ، والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقا ومواقف بشرية .
وعليه،فقد تميزت لغة شاعرتنا (فائزة بنمسعود) بالشفافية والوضوح،فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي،تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة ، فلغتها ناصعة واضحة لا غموض فيها،وتعبر عن مضامينها بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح،هذا يعني أن الشاعرة ذات مهج تعبيري سلس،وقاموسها الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة،وأنا إذ أصرح بهذا إنما أغبط شاعرتنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها .
ختاما أقول :
الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود تعرف من أين يورد الشعر..تمتطي صهوة الحرف وتحلق بالقصيد بأجنحةٍ من تميز ..
-فائزة بنمسعود-أراها وأؤمن بأنها علامة فارقة في عالم الشعر بمختلف تجلياته الخلاقة على صعيد الشعراء العرب بشكل عام،وعلى صعيد الشعراء المبدعين ببلدي-تونس التحرير-بشكل خاص..
قاصرٌ هو الحرف عن الإمساك بكل خيوط إبداعك أيتها الشاعرة السامقة (فائزة بنمسعود)..
وأتمنى أن أكون قد طرقت بعضاً من ملامح الجمال بين ربوع قصيدتك الخلابة “حبنا بعث وحشر”
هل لدي ما أضيف..؟
أترك الباقي لإختمار عشب الكلام..
محمد المحسن
Discussion about this post