(حين غنى المحار) للشاعرة لين هاجر الأشعل .
عندما تتحول القصيدة إلى محارة نصغي إليها فيطربنا صوتها .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
من الأبيات الشعرية التي انتشرت على نطاق واسع ورددها الكثيرون في الداخل و في الخارج . وأظنها كانت تطبق على مناهج اللغة العربية في المدارس بمختلف المراحل التعليمية , بيت : (أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي ). والمعروف أن قائل هذا البيت هو الشاعر حافظ ابراهيم , وهو أحد قادة مدرسة الإحياء التي أحيت الشعر العربي القديم. وهذا البيت يعتبر أحد أبيات قصيدة اللغة العربية التي تنعي حظها وقد شبهها الشاعر بالبحر الممتلئ باللؤلؤ ، والمتجدد بالعطاء والخير المستمر, وقد طلب من القارئ أن يسأل كل باحث خبير في اللغة العربية عن عزة الأقوام التي تأتي من عزة لغتهم وقوتها الكامنة في قوة هذه اللغة. وإذا كان الشاعر تحدث عن الصدفات فهناك من الشعراء من أخرج من الصدفات محارها ,واستمع إلى صوتها وهي تغني .وكم حدثته عن أعماق البحر وأسرار الرمل .
(حين يغني المحار ) مجموعة شعرية للشاعرة هاجر لشعل صدرت عن دار البياتي للنشر و التوزيع في بداية سنة 2023 في 120 صفحة من الحجم المتوسط و في طبعة أنيقة تزين الغلاف لوحة الفنان سمير مجيد البياتي وتظهر فيها امرأة تنصت إلى صوت صدفة وهي تبتسم .
فماذا عن هذا المحار النادر؟ وهل أصبحت القصيدة بالفعل لؤلؤة أو درة خارجة من أعماق الشاعرة ؟
وهاجر الأشعل سباحة ماهرة تحسن الغطس في مياه الشعر العميقة . وتتفن في عرض كلماتها على شاكلة الدرر وااللآلي لتشد بسحرها القارئ وتدخله إلى عالمها الشفاف ومناخاتها المختلفة والمتنوعة . حتى أنها منذ البدء ذكرته بأنه محار آخر يصغي إليها .وأنها تملك قلبا أخضر ضاحكا و حزينا في آن . وأن هذا القلب يشبه سفرجلة يانعة ومضيئة . وقد قالت في صفحة 12 :
(…أنا السفرجلة , عروس المرح , تسقيني غيمات الأمل , لا تحزن يا قلبي إن كان جرحك مبتسما , سيلتئم الجرح حين ترى من تحب ضاحكة , مبتهجة …).
وبهذه الروح المبتسمة وبهذه المعنويات المرتفعة توزع الشاعرة قصائدها على ثلاثة أقسام بداية بأغاني الحب , مرورا بأغاني الوطن , وصولا إلى أغاني المحار .
في الجزء الأول خمسة عشر نثرية كما تروق لها تسميتها وكلها نثريات لأنثى عاشقة أبحرت كثيرا في أشعار نزار قباني واستلهمت من كلماته العاشقة أجمل أغاني الحب والهيام وهي تعترف بأن قصائده بمثابة تميمتها في الحب وقد كتبت في صفحة 13 :
(… لست “بلقيس” لكني أهدي أغاني الحب إلى نزار قباني , لأنني أعتبر قصائده , وإن اختلف المسار بيني و بينه , تميمتي في الحب …).
وحتى تِؤكد على أنها بالفعل تعشق أشعار نزار قباني حاولت مجاراته وبالأصح مشاكسته في ردها على قصيدته المشهورة على تونس (يا تونس الخضراء جئتك عاشقا و على جبيني وردة وكتاب ) كتبت تقول:
(… أنا متعبة من دمي
الممتد من المحيط إلى الخليج .
يا دمشق الفيحاء
جئتك عاشقة مثل نزار
وبكفي ياسمين وأشعار…).
وتذكره بأنها تونسية احترفت رمي الغزاة بالسهام , وقرطاجية اكتوت أضلعها بلظى الغرباء وأكواب المدام .ورغم ذلك فقد جعلت من جسدها وطنا كبيرا دمعه يتدفق من أكبر الأنهار العربية , مجردة والنيل والفرات . وبساتينه مغروسة كرزا و تفاحا و زيتونا وكل أملها أن تحمر خدود الجميلات في القصائد العربية الساطعة . وأن تحلق المرأة بأجنحة الحرية في السماء الواسعة .
وفي اعترافها في صفحة 20 تقول رغم نيران العتب التي أوقدوها في طريقها فستظل شاعرة الوجد تنهل من نهر الهوى وتنطق بمائه العذب وتدعو الحبيب كي يفتح معها أهداب الليل للحكايا والذكريات وينثر على صدرها أحرف الحب , ومعا يغنيان “شفاهنا الشهد وريقنا العسل “.
ولأنها مجبولة بحب قصائد نزار قباني فهي تكاد تعارضه في كل أشعاره . وها هي في صفحة 32 ترد على قصيدة الشاعر “أحبك جدا و أعرف أني تورطت جدا ” فتقول :
(… صرت أغنية
تهدهدني في فراش الحرير.
يا سيد العشق و الشعر ,
إن خفت التورط فيّ
تورّط دون تردد
فالشعر يحتاج إلى أحرف الضوء
دون محو أو خجل …).
وهكذا بدت الشاعرة جريئة في البوح بحبها , وصادقة في عواطفها الجياشة , حتى أنها اعتلت عرش الجنون ووهبت روحها للحبيب وقالت له في صفحة 25 :
(… يا من أحياني همسا و تقبيلا ..
بارك روحا صارت مملوكة
وأنت مالكها …
وبارك لسانا
صار يهذي باسمك
حتى تنقطع الأنفاس…).
وفي موقع آخر نجدها تطلب من الحبيب أن لا يصحو من خمرة القصائد و أن لا يبتعد عنها , وأن يناولها دواة وريشة لتصنع منه ألوان لوحتها الشعرية .ويحملها جنونها إلى حد ترى فيه جسد الحبيب وقد تحول إلى كل أماكنها المفضلة , وأن عينيه صارتا ساعتين تضيئان سواد العمر وأنها لاتحتاج في ترحالها إلا إلى عينيه وإلى عطره , فتقول في صفحة 41 :
(… حيث سأذهب
لا أحتاج سوى
لعطر جسدك
وجوهرتين من زمرد الأحداق,
فهل تتبعني حبيبي
إلى قمر في فضاء القصيدة …).
وفي الجزء الثاني و قد خصته للأغاني الوطنية وفيه طغت نرجسية الشاعرة على كل القصائد . وإن كان الشاعر في العموم متهما بتمجيد ذاته, فهو في الواقع يتقصّاها ويتقرّاها. وما دامت الكتابة وخاصة الشعر لا تُحقق إلا باستقبال القارئ لها فإن عدوى هذه النرجسية ستصيب المتلقي أيضا .والثابت أن الشاعرة استطاعت أن تنقل نرجسيتها كمبدعة لهذه القصائد إلى المبدع إليه .ألا وهو القارئ الذي وجد أنا ه -هو- في الكلمات وحقق البعض من نرجسيته , وبالتالي حدث التواصل وتحقق التماثل أثناء قراءة الأشعار .
ومن البداية وتحديدا في صفحة 43 تغرقنا الشاعرة في بحر من النرجسية فتقول :
كل روح تجانب روحي هي سكني …
وكل رقعة على الخريطة تشبه نقاء ذاتي هي وطني …).
والشاعرة في اعتقادي تكاد لا تغادر مناخات وطقوس ونرجسية الشاعر نزار قباني .فكانت مثله تماما تهتم باللغة الشعرية , والثابت أنها اختارت لغة وسطا بين لغة الفصاحة المتقنة ولغة المشافهة اليومية الجارية على الألسن, فجاءت قصائدها بلغة بسيطة سلسة تحاكي لغة الشارع العربي, واستمدّت مفرداتها من الحياة اليومية, وامتازت ألفاظها بالبعد عن التعقيد والغرابة, حتى أن القارئ لا يحتاج إلى شرح لفهم ما ترمي إليه من معاني. وفي جولة بانورامية في هذا الجزء من أغاني الوطن تأكد لنا انتماءها لوطنها الصغير وكذلك وطنها الكبير بكل مكوناتها وحضرت المهدية وتونس وبيروت والقدس وفلسطين والشام .
وعن مدينة المهدية مسقط رأسها قالت في صفحة 55 :
(… ما أبهى الإسم الذي سموك :
المدينة “ذات الهلالين”
تطلين على الحوض بشرفتين
زرقتك ترسل بدل الواحدة
لؤلؤتين
على الأبيض ذي الضفتين …).
وعن تونس غنت في صفحة 46 :
(…أنا ابنة الضوء
أشرق على الضفتين …).
وفي أغنيات صيفية تحدثت هاجر الأشعل عن صبح تونس وزرقة البحر وهمس الموجات . كما اسعرضت عشية تونس والرفقة فوق بساط أخضر وتحت الظلال في صيف ترطب حره النسمات . كما تغنت في مساء تونس عن فوح الياسمين من سيدي بوسعيد إلى مرفإ الحمامات .
والشاعرة لم تنس وطنها الكبير فكانت فلسطين في الصدارة وكانت الطفلة الفلسطينية المولودة الجديد وقد طلبت منها أن تصرخ صرختها الأولى حتى تسمعها الحرية فكتبت في صفحة 76 :
(… لا تتعلمي الحبو يا حبيبتي
فالفلسطيني يولد واقفا
بقدمين في الأرض ورأس في السماء
مثل الخرافات القديمة …).
وعن بيروت عروس لبنان قالت الشاعرة في صفحة 77 :
(… يا أخت قرطاج
يا جدتي ..بيروت
دسّوا جمرا في لسانك
ليصرخ العاشقون :
“لن نتوب عن هواك”…).
وكما قلت سابقا لا تخلو قصائدها من النرجسية وهي التي قدمت اسمها بكلمة (لين) وقد سبق أن ذكرت في الإهداء : إلى اللين .نخيل شامخ , ومذاق حلو …علني بهذا الإسم أحمل المعنى …وهي بالفعل تفضل هذا الإسم وتقدمه في قصيد (هوية) فتقول :
(… أنا لين
أنا الجمع
نخيلات يتقنإلى السماء..
وخمرتي من نسغ الشعر
قصائدي من تمر
وقلبي لفظه البحر نواة في أرض العاشقين …).
أما الجزء الثالث فقد خصته الشاعرة لأغاني المحار وضمنته مجموعة من القصائد محورها المحار والصدفات ومكانها البحر والرمل و الماء والموجات . وهي التي سكنت في قوقعة المحار و لها أجنحة من ضوء في الليل وفي النهار .تصارع الموج بحثا عن الحرية وتحلم أن تكون اللؤلؤة و الحكاية في آن . وهي البارعة في الكتابة والماهرة في الرسم تستمع أحيانا إلى حديث الأصداف وتناجي البحر وتسافر على متن القصيدة إلى الهناك مقتفية أثر قوس قزح . وأحيانا أخرى تنتظر كطفلة على حافة الشاطئ المدّ حتى يعيد لها لعبتها التي عبث بها الموج وأخفاها الجزر .
وقد تكون الشاعرة اختزلت علاقتها بالمحار في قصيدة وردت في صفحة 106 تحت عنوان (حوار) جاء فيها :
(… يا آخر إمرأة
قاطنة بيني و بيني …
أمكثي في الصدفة
على سبيل التمني …
-أمرك لن يجدي
أنا المحارة
أقطن أعماق البحر
وشطآنه …
وليلا أصير نجمة
أو صوت ناي …).
وخلاصة القول لين هاجر الأشعل الشاعرة هي في النهاية القصيدة والمحارة والحكاية والفكرة ونحن القراء علينا أن نتبعها إلى سابع البحار وقد نكون محارا آخر يصغي إليها . وهي بالفعل تؤكد من خلال أشعارها على أن اللغة أو بالأحرى القصيدة هي خير عميم حتى أنها ختمت هذه المجموعة بنص جميل صرحت فيه بأنها إمرأة حرة وطلبت من الجميع أن يأكلوا من قمح قصائد زرعتها في حقل كفها وجففتها بأكمام أصابعها بعيدا عن قحط البيادر في هذا الزمن الغريب .
Discussion about this post