رحمـــة
صيف القاهرة هذا العام قائظاً شديد الحرارة والسفر إلى الإسكندرية هو المتعة الوحيدة و الأمل الذي يراود أفراد الأسرة .. انحنيت أرتب حاجاتي في عدة حقائب وذهبنا إلى البحر نتنسم هواءه في الصيف استأجر أبي منزلاً قريباً من البحر حتى يُدخل إلى صدورنا أكبر قدر من الهواء النقي بعد عام دراسي شاق لأنه قليل ما نفكر في الخروج فالأيام متشابهه .. خاصة بعد مرور أربع سنوات على وفاة والدتي ولكوني الأخت الكبرى بدأت أرتب كعادتي ملابس أخوتي الصغار ومستلزماتهم في عجل وارتدوا ملابس البحر .. والحقيبة الأخرى مكدسة بالأطباق المملوءة بالطعام الشهي آملة أن يساعد هواء البحر و الطبيعة الخلابة على زيادة شهيتهم للطعام خاصة وأنهم يعيشون على التهام الأكياس الملونة التي تمتلئ بها إعلانات التليفزيون في شكل مغرى .. وبدأت أجهز مائدة الطعام في نفس الوقت ألاحظ أخوتي الصغار وهم يمرحون في الماء مع والدي . أفرغ ما في الحقيبة طبق ” محاشى التي أعددتها هذا الصباح وطبق من اللحم المفروم وطبق من السمك المشوي وآخر من الطرشى وكولمان ماء بارد وصينية بسبوسة” .. وفجأة انغرست أمامى .. قدمان صغيرتان حافيتان لطفلة زائغة البصر ذات جبهة صغيرة وعينين ضيقتين وأنف صغير .. ممزقة الثياب شعرها منكوش وملامح وجهها تعبر عن الحزن والأسى .. سمراء داكنة بإصفرار وهى تلاحظ بخوف بالغ خطوات الجرسونات يطاردونها بعيدا .. كانت الطفلة جائعة وخائرة القوى تنظر في لهفة وشوق إلى الطعام المعد على المائدة لم تعد تستطيع مقاومة رائحة الطعام الشهي وظلت عيناها مثبتتان على الطعام كانت تحمل فى يدها مجموعة من المناديل الورقية ..
– منديل يا “ست” … الواحد بربع جنية ..
لم يكن ما تحمله من المناديل غير خمسة أو ستة مناديل وعندما اطمأنت أن العيون لا تراقبها اقتربت أكثر وعيناها مثبتتان فوق أطباق المائدة الشهية. أخذني منظرها الضئيل ولم أتحمل نظرة الحرمان في عينيها .
– اسمك اية يا شاطرة ؟
“رحمه” … يا “ست” .. اشترى منى والنبي يا ست أصل أمي هتضربني لو روحت ليها من غير ما أبيع المناديل.
انت عمرك كام يا “رحمه” ؟
صمتت – فهي لا تدري ماذا تعني السنوات لم يكن عمرها يتجاوز ثمانية سنوات على الأكثر .
عندك أخوات يا “رحمه” ؟
أيوة عندي سبعة أخوات …
انتي دخلتى مدرسة يا “رحمه” ؟
لا .. أصل أمي قالت لي إن التعليم عايز فلوس كثيرة وهي ما تقدرشي عليها ..
العيون الجائعة البريئة يكاد صبرها ينفد
ادينى حته يا “ست” …… انا عمري ما دقت الحاجات دي !!
قدمت اليها طبق به قطعة من اللحم اختطفتها بيدها المتسخة وانطلقت من أمامي ولم تمضي غير ثوان قليلة حتي رأيت كتلة من الأطفال … ممزقي الثياب تتوسطهم “رحمة” .. وهي تلوك من أسنانها قطعة اللحم وهم ينظرون إليها بعيونهم الجائعة الخائفة …. وقدمت إلى أحدهم أحد الأطباق فإخططف ما فيه بيديه في لهفة ووضعه فى فمه …. لم أعد أري المائدة فلقد هجمت عليها مجموعة من الأطفال وراحوا يتصارعون في صخب على اختطاف الطعام .. وراو رجال أمن القرية من بعيد فهرولوا مسرعين ولم يتبق أمامي غير “رحمه” تأكل أخر قطعة من اللحم وتنظر إلى بعينين آسفتين تتساقط منهما الأسرار ليخبرانك بالحزن المخبأ علي هيئة دموع فيهما .. فوضعت عليها يدي منعت عنها عصا الجرسون … ورأيت “والدى” قادما من بعيد ! هو وأخوتى ونظر إلى المائدة فلم يحدثني وكأنه استرعي نظره ظاهرة الأطفال المتسولين من بعيد .
_ وسألني مندهشاً أين الطعام ؟
الطعام التهمته “رحمه” ورفيقاتها.
د. وجيه جرجس -مصر
Discussion about this post