إبحار عميق في مرام السرد
قراءة بقلم
الأديب السوري/ د. عبد المجيد أحمد المحمود
في نص * نشوز *
للأديب المصري / محمد البنا
تنظير منفصل بقلم
شيخ النقاد العرب / أحمد طنطاوي
……………….. ……………..
النص
نشوز
……..
كان الطريق طويلًا ووعراً، لكن استقامته الشديدة أعجزتني! عند أول منحنى، صبأت وحدي بينما باقي العربات يتطلعن لي في دهشة ” أيتها المجنونة ..ماذا فعلت بنفسك ؟
أجبتهم وأنا أتوارى تحت ظل غيمة
” أنا الآن .. حرة ”
ضحكن ساخرات بينما الغيمة تقترب في خبث من رأسي.
محمد البنا…القاهرة في ٢ مارس ٢٠٢٣
……………..
القراءة
ما دام للسرد مرمى
فما أجمل الإبحار فيه دون مرسى
______________________________
______________________________
لم أكن يوما من مشجعي النص منفتح التأويل حد التلغيز..
و لا كنت من المؤمنين بنظرية( موت الكاتب)، التي باتت للأسف حجة لكل من أراد أن يكتب فيُلغِزَ حتى يُشكِل، و يُغلِق الفهم على القارئ حتى يقول( إليكم عني بنظرية موت الكاتب، و لتفهموا النص كما تشاؤون)، و هنا يتهاطل الهدر و الهذر في إضاعة الوقت في قراءة نصوص مليئة بالنقص و العيب.
و ما كنت كذلك ممن يحبذون نظرية تعدد القراءات و التأويلات، لأنني أرى فيها غُبنًا لحق الكاتب، و إضاعة لرسالة النص و فكرته، التي لأجلها يكتب و يناضل.
بيد أن هذا النص الذي تأملته مليا أعاد لي توازن الأمور، و لفت انتباهي مجددا إلى مقدرة النص المتقن على توليد نصوص موازية تختلف باختلاف التأويل، و باختلاف زاوية النظر التي يقف منها القارئ ليستشرف ما يقرأ، و لعل الأمر هنا يعضده معرفة القارئ للكاتب و يقينه بأنّ كاتبا متمكنا لا يمكن أن يقدم على كتابة نص مستغلق مستشكل مستعص على الفهم، لذلك وجدت في هذا النص تعددا في القراءات تجعله يسمو و يرتقي خاصة على بلاغته و تكثيفه الحاضرين بقوة.
النص:
( نشوز
……..
كان الطريق طويلًا ووعراً، لكن استقامته الشديدة أعجزتني! عند أول منحنى، صبأت وحدي بينما باقي العربات يتطلعن لي في دهشة ” أيتها المجنونة ..ماذا فعلت بنفسك ؟
أجبتهم وأنا أتوارى تحت ظل غيمة
” أنا الآن .. حرة ”
ضحكن ساخرات بينما الغيمة تقترب في خبث من رأسي.).
__________________________________
لو أخذنا بمبدأ الانسجام الهرمينوطيقي في قراءة النص، و رحنا نبحث عن علاقة عبارات النص ببعضها البعض فإن هذا سيصل بنا إلى قراءة كلية تحافظ على وحدة المعنى و البناء، لكن هذا الانسجام لا يعني بالضرورة أن نصل إلى قصدية معينة بحد ذاتها يبتغيها الكاتب في نصه.
فقد تتعدد القراءات و تكون كلها صحيحة و لو أتت بقراءات مختلفة ما دامت تحافظ على وحدة الانسجام، و عدم انفلات الخط و الخيط السردي منها في مكان ما.
و هذا الأمر يعزى إلى اللغة العالية المعطاءة التي يستخدمها الكاتب في نصه، و هذا ما نجده حاضرا و بقوة في هذا النص الرائع.
و لعل استخدام النظرية اللغوية في قراءة النصوص قد يساعد في فهم ما يبدو بداية غريبا أو غير واضح.
و لا شك أننا سنبدأ من العنوان كعتبة نصية أولية نشرف من ذروتها على تراتبية السرد.
نشوز: و النشوز بتعدد معانيه اللغوية إنما يرمز إلى التمرد و الخروج عن سياق ما يسلكه جمع ما، و اختيار قد يخالف المألوف و يخرج عنه.
و النشوز لا يعني بالضرورة مفهوما سيئا كما هو شائع بالعموما، بقدر ما يمثل في بعض الأحيان خيارا مختلفا متمردا على الخيار الجمعي سواء كان ذاك الخيار صائبا أم خاطئا.
و من خلال هذا المعنى العام للعنوان يتشظى النص و تتعدد قراءاته، و سأعرض هنا ما يختلف من القراءات، لكنها مع ذلك تظل مستندة إلى قرائن استدلالية تأتي من قلب النص.
بداية سأعطي المفهوم العام للنص ثم ننطلق لإسقاط هذا المفهوم العام على حالات متعددة سياسية..اجتماعية..دينية..أدبية…..الخ.
يشير الكاتب إلى شخصية ما ضمن جمع من البشر، يسيرون في طريق وعرة طويلة، شديدة الاستقامة، يقرر هذا الشخص أن ينشز عن المجموع، و في أول فرصة تتاح له، يدخل في طريق منحن غير مستقيم، و يستخدم الكاتب هنا كلمة( صبأت) بكل ما فيها من قوة و تماه مع معنى النشوز و الخروج عن المتوارث، و هي مفهوم عام لا يتعلق فقط بالصبأ عن المعتقدات الدينية بل يتعداها إلى محاولة الخروج عن كل موروث و كلاسيكية يسير فيها الجمهور دون تدبر.
هذه الشخصية التي تختار منحنى لعله أقل وعورة من تلك الطريق المستقيمة، تتابعها نظرات و صيحات الدهشة من باقي الرفاق، باقي الجمع الذي ألف السير في ذات الطريق درجة الإدمان، كمن يقاد في سلسلة مرغما على خيار واحد، مما جعلهم يستهجنون خيار تلك السخصية، و يحذرونها ذاك الخيار، و يتهمونها بالجنون، و هذا حال كل من يخط مسارا جديدا في مجتمعه الذي يرفض التجديد و يحاول المحافظة الدائمة على طريقه الكلاسيكية مهما كانت وعرة و صعبة، فيما تجد هذه الشخصية أنها قد تحررت من تلك القيود التي رسفت فيها زمنا طويلا، حتى عافتها نفسها و باتت تتوق للحرية و التغيير، لكن هذه الشخصية تستعين بغيمة تختبئ تحتها، معتقدة أنها تؤمن لها حماية ما، حماية و إن كانت مؤقتة لكنها تساعدها حتى تستكشف كنه الطريق الذي اختارته، فيما يبدو أن هذه الغيمة بكل رمزيتها و بوصفها بالخبث من قبل السارد، يبدو أنها كانت مغرية ماكرة، و هذا ما يجعلنا نستشف أن خيار تلك الشخصية محفوف بالمخاطر، و كثيرا ما يحتمي الإنسان بأشياء خادعة( صديق غير صدوق، فكر ظاهره مغر و باطنه خبيث، جماعة أو حزب يحمل مبادىء عظيمة و عند التطبيق يكون من أسوأ ما يكون….الخ).
هذا هو المعنى العام للنص و لنسقط عليه إسقاطاتنا المختلفة الغنية سياسيا و دينيا و فكريا و اجتماعيا و أدبيا:
أدبيا: قد ترمز إلى شخصية تهوى التجريب و الخروج عن المألوف و الكلاسيكية، و تبحث عن الحداثة و اختيار السهل الذي يناسب العصر المعاش، و يجلب الراحة و القناعة لصاحبه، و مع ذلك يظل هذا الخيار محفوفا بمخاطر معينة، تتمثل في رمزية تلك الغيمة التي أشرنا لها سابقا، و ربما نحن بالفعل قد عشنا تلك الحرب و لا زلنا نعيشها بين القصيدة الكلاسيكية و ما تلاها من ظهور الشعر الحر و شعر التفعيلة ثم ما أطلق عليه قصيدة النثر، و كذلك الحال ما بين القصة الكلاسيكية و الحداثية و ما بعد الحداثية.
دينيا: تمثل باختصار و اختزال حالة الأنبياء الذين جاؤوا بمعتقداتهم التي كانت تعتبر نشازا و صابئة عن المعتقدات المألوفة المتوارثة، و كم من الأنبياء اتهموا بالجنون حين جاؤوا برسالاتهم المخالفة لما كان سائدا متوارثا لأجيال طويلة.
اجتماعيا: تتمثل في كل تقليد مجتمعي حديث، ينشز عن التقاليد المتوارثة المألوفة، و كيف يتهم متبعوه بالنشوز و إدخال الغريب على مجتمعاتهم، و يواجهون الحرب و الاتهامات.
و قد يعبر كذلك اجتماعيا عن المرأة التي تريد أن تتحرر من ربق سيطرة الرجل في مجتمع ذكوري، يرى الاستقامة في الطاعة العمياء، رغم وعورة الحياة و قسوتها على المرأة، لكن غيمة الرجل تأبى إلا أن تظل مهيمنة مسيطرة، في كل طريق و في كل خيار.
و على ما سبق من المعنى العام للنص، نقيس كل فكر مستحدث و كل سياسة مستحدثة.
يبقى أن أهمس لكاتبنا الرائع بأمر و له الخيار: أن يحذف من النص كلمتين ليتحقق للنص سموه و اكتماله: استقامته، خبث…لأن هاتين الكلمتين برأيي تحدّان قليلا من آفاق انطلاق النص إلى علاه.
فالأولى( استقامته) و هي استقامة الطريق، تترك لدى القارئ أن ما أقدم عليه بطل النص في اختيار السير في أول منحنى، خاصة في التضاد الواضح ما بين الاستقامة و الانحناء، هذا كله يترك لدى القارئ انطباعا بأن خيار بطل النص كان خاطئا، رغم أن الفكرة العامة للنص ترسخ لرفض الاتباع الأعمى، و السير دون تدبر في الخيارات الجمعية، التي ليست بالضرورة أن تكون صائبة و صحيحة.
و الكلمة الثانية( خبث) تؤكد على ذات الشيء، و ترسخ في ذهن المتلقي عدم صوابية خيار بطل النص.
و بالتالي فإن هذا سيجعلنا نقف أمام تأويل وحيد للنص، يكمن في شخصية خالفت الجماعة و كانت تظن أنها اختارت السهل اليسير الصحيح، فكان أن برزت الغيمة الخبيثة في انتظارها، و أنها زينت لها الطريق الخطأ و أغرتها بالحماية، و بالتالي ستظل شخصية البطل تدور في فلك الخيار الجمعي، و حسب معرفتي الشخصية بشخصية الكاتب أجد أن هذا التأويل لا يتماشى مع طريقة تفكيره و رغبته المتجددة في التحديث و كسر أنماط المألوف و رسم خط جديد متميز يواكب تبدلات العصر، و التبدلات النفسية و التركيبية لأفراده المختلفين.
من جهة أخرى لو اعتمدنا المفهوم العام للنشوز حسب المتعارف عليه بأنه أمر سيء و يدل على اختيار خاطئ، و تصرف مشين، فإننا سنحصر النص في التأويل الوحيد الذي أوردناه آنفا، و هذا لا يقلل من جمالية النص و تفرده، لكنه يحصره في فكرة واحدة بذاتها:
خيار جماعي صحيح و إن كانت الطريق طويلة و وعرة/ شخصية مراوغة لا تحبذ الاستقامة/ تختار الطريق الملتف/ تسخر باقي الشخصيات منها و تتأسى عليها/ لكن الشخصية على ما يبدو كانت قد اتخذت خيارها بناء على إغراءات من جماعة وعدتها بالحماية و تم الترميز لها هنا بالغيمة/ أخيرا تقترب تلك الجماعة الخبيثة من رأس تلك الشخصية للقضاء عليها بعد أن شقت الصف و أدت وظيفتها/.
بهذا التأويل النص جميل و متقن، لكن بحذف الكلمتين( استقامته، خبث) ينفتح النص على آفاق أبعد و أرقى برأيي الشخصي.
كل التحية و التقدير لأديبنا المجدد أ.محمد البنا.
د. عبد المجيد المحمود..سورية..في..٣ مارس ٢٠٢٣
…………………………
……………………
فى النصوص القصيرة جدًا الحداثية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يفترض هذا النوع _ الهاجس و الخفقة _ بما يحمله من عوالم تكمن داخل بؤريته بالغة الضآلة
الميكروسردية و التميز غلافًا من شـــــعرية النفاذ إلى واقع مغاير ، و يقتضى المشـاركة
و التأليف الثانى ، و لهذا فالنص فى هذه الحالة هو نص مفتـــوح غير مغلق ، و متعدد بعدد
القراءات و القرَّاء _ إصنع قصتك بنفسك، و ستكون كلها صحيحـــــــــة_ الكاتب نثر قطرات
العطر، و أعطاك حروف الأبجدية لتكوِّن أنت قصيدتك على هداها .
من الأمور المقلقة للغايــــة الاعتراض على الكاتب بنقاط عقلية حادة توجب عدم التناقض أو
التضاد أو غير ذلك … فلا أحد يســـــأل عن عدد قطرات المطر أو كمية هطوله أو مكانه …
فقط يســـــــتقبل الهطول ، ثم يُنشــــــــــــــــــــــــــــد قصيدته استلهامًا من روعة المشهد .
سأعيد ذكر مثال قلته قبل ذلك :
فى معرض للفن الحديث للمصور “عدلى رزق الله” كان المعروض كله عن الورد .. سأله
شاب ” ماذا تقول هذه اللوحة عن الوردة؟” أجابه :
” أجب أنت” … أنا رسمتها لتحسها فى دفقة و انطباع ،وما ســـتقوله سيكون صحيحًا ، فأنا
أريد أن خاطب وعيك الداخلى .
و على ضوء هذا يمكننا أن نفهم انطباع و تلقى الشـــــــاعر أحمد عبد المعطى حجازى عن
أســـــــــلوبه حين حضر معرضـــــــه فى باريس فتلى قصيدته “آيات من سورة اللون” :
“قطرتان من الصحو..
في قطرتين من الظل..
في قطرة من ندى..
قل هو اللون..
في البدء كان..
وسوف يكون غدًا”..
وجوديًا , و طبقًا لأصحاب هذه الفلسفة ، هو الاختيار الحر المسئول ، فى مقابل الانقياد الجمعى أو ما يعرف بنهج القطيع .
الأمر يتعقد تباعًا فى العواقب_ بعد ذلك التلألؤ القيمى الأول_ و يتم الحكم بقدر استطاعة الثبات و المثابرة إصرارًا_ على المواصلة رغم الصعاب و العراقيل التى قد تكون مهلكة .
البطلة فرحت بداية بتميزها المغاير لجحافل السائرات المستكينات ، لكن خطورة النص و روعته أنه _ ككل نص قصير جدًا فاره _ ترك النهايـــة مفتوحة للقارىء لينشىء تصوره الخاص , و لم يقل شيئًا عما آلت إليه … و عن المصير .
النص ملحمى إغريقـــــــــى ، و كأن البطلة هى هيلين فى إلياذة هوميروس التى
أحبت باريس الراعـــــى الفقير و رفضت كل طلبات الملوك للزواج منها و انتهى
الأمر بمأساة حرب طروادة الشهيرة بما فيها من مآسٍ عِظام .
احمد طنطاوي..القاهرة في ٢ مارس ٢٠٢٣
Ahmed Tantawy
Discussion about this post