قراءة في نص ( نشوز)
للكاتب المصري ( محمد البنا )
للنصوص مفاتيحها في قصة ” نشوز”
للبيوت أبوابها.. وللنصوص الأدبيّة مفاتيحها.. والمفاتيح آفاقٌ ..
وفي نص ” نشوز” للكاتب ” محمد البنا ” مفتاحه الرمز هو كلمة ” صبأتُ “، وإذا عدنا إلى دلالة الكلمة نجد أنّ : صبأ بمعنى انتقل، وصبأ الرجل : ترك دينه ودان بدين آخر . والصابئون : ” قوم كانوا يعبدون الكواكب أو الملائكة أو النجوم، ويزعمون أنهم على ملّة نوح وقبلتهم مهبّ ريح الشمال عند منتصف النهار ” . وكأنّ الكاتب أوحى لنا بمفتاحه ” صبأتُ ” إلى زمن القصة ” منتصف النهار” حيث ريح الشمال .
يوحي العنوان ” نشوز ” إلى شيء مختلف عن الآخرين، فما هو هذا الشيء ؟ هل هو طريق ؟ عقيدة ؟ تفكير ؟ عمل ؟ ربما يتبيّن بوضوح في نهاية القصة ..
يبدأ الكاتب قصته القصيرة بسرد دالّ على الزمن الماضي البعيد ” كان الطريق طويلاً ووعراً “، والطريق ربما إيحاء للحياة التي عاشها الكاتب فيما مضى، فقد كانت طويلةً وقاسية، والطول والوعورة يأتيان من انعدام الراحة والسعادة، فالإنسان يشعر بقصر الحياة ومرورها سريعاً عندما يعيشها بفرحٍ وسعادةٍ وراحة بالٍ، على النقيض من كونها طويلة و وعرة، رغم أنّها كانت مستقيمةً، ويُفترض بالاستقامة أن تكون مريحة سهلةً ليّنةً، لكنّه يرى العكس، ” لكنّ استقامته الشديدة أعجزتني ” ، فكيف اجتمع الضدان ” الاستقامة والعجز ” ، هاتان المفردتان متناقضتان تماماً، ويُفترض ألا تلتقيا، فالطريق المستقيمة سهلة واضحة قصيرة، لاعجز فيها ولا صعوبة، فكيف اجتمع عند الكاتب هذا الأمر وضدّه ” الاستقامة والعجز ” ؟؟
وربما لم تكن الاستقامة ملء قناعة الكاتب، أو ربما كانت أمراً مفروضاً عليه فرضاً، فكان الصراع أن يكون مستقيماً .. لذلك شعر بالعجز والضعف عند أول انعطافةٍ ومنحنى، فاتخذ قراره الحاسم ” صبأتُ وحدي ” . وكلمة ” صبأتُ ” المنتهية بضمير تاء الفاعل المتكلم كما ذكرتُ سابقاً هي مفتاح النص، تُضاف إليها كلمة ” وحدي ” دلالة على تفردّه بالقرار .
لقد قرّر تغيير طريقه أو تغيير نهجه، وسط مجموعة من السيارات التي أخذت ترمقه بنظرة غريبة ملؤها الدهشة.. ولسان حالها يقول : أيتها المجنونة.. ماذا فعلتِ بنفسكِ ؟ .. تومئ العبارة إلى ماهية الشخصية في القصة، إنها امرأة، وقد قررت تغيير طريقها فلا تتبع طريق العربات الأخرى، لتجيب عبارتها الصادمة : ” أنا الآن .. حرة “، اتخاذ القرار بألا نكون ببغاوات في الحياة، أو معصوبي الأعين، أو أعمياء البصيرة.. هذا ما فعلته المرأة، توقفت واتخذت طريقاً أخرى، فكانت حرّة فكرها .
طبعاً ردة الفعل من الأخريات كانت شديدة، تمثلت بالسخرية والضحك باستهزاء، وهذا حال الإنسان الذي يشذّ عن الآخرين ويختلف معهم، فيكون نشازاً في نظرهم، وربما مجنوناً، إلا أنه في النهاية يكون سيّد نفسه، حرّاً ، خلاقاً .
وربما يتساءل القارئ لماذا اختار الكاتب في قصته شخصية المرأة ولم يختر شخصية الرجل لتقوم بمهمة التغيير واتخاذ القرار؟؟ فهل أراد الكاتب التركيز على أهمية دور المرأة في الحياة ؟؟ هل المرأة هي الأساس في تربية الأولاد وعلى عاتقها أمر تطور المجتمع وتقدمه ؟؟. . هل هي رغبة في العودة إلى العصر الأمومي الأول حيث كانت المرأة قائدة المجتمعات ؟؟؟ ربما .. وربما. .
ثم ينهي الكاتب قصته بعبارة ” بينما الغيمة تقترب في خبث من رأسي “، الغيمة رمز المطر والخير والعطاء، تقترب في ” خبث ” من رأس المرأة، ولماذا كلمة ” خبث ” ؟ هل لأنّ الغيمة أدركت ذكاء المرأة وأرادت أن تعزز من موقفها الجريء ؟؟ هل الغيمة نشاز كالمرأة لا تريد أن تسقط في أي مكان ؟؟ بل؛ تريد أن تختار مكاناً آسراً تحبّ الهطول فوقه ؟؟ أو هل لأنّ المرأة والغيمة كلتاهما رمزان لهطولاتٍ جميلة في الحياة ؟؟
نصٌ جميل جدا.. وبأسلوب الرمز غير المألوف يستدعينا الكاتب ” محمد البنا ” إلى التقصيّ والبحث والتحليل، وربما هي دعوة إلى الحرية واختيارما نحب في الحياة، أوهي دعوة للفرح والسعادة مع الطبيعة بأبهى صورها وأشكالها .
إنّ الكاتب الذي يبدع نصاً، تاركاً بين طياته عدداً كبيراً من الاحتمالات القابلة للتأويل والتحليل، هو دليل حنكة وذكاء، لأنه عمل على تفتيق الخيال لدى القارئ، وجعله يأتي برؤى هطلية جميلة ومعبرة .
شكرا أستاذ ” محمد البنا ” على هذا الإبداع الجميل، وننتظر المزيد.
رولا علي سلوم …
************************
نص قصة ( نشوز )
للكاتب ( محمد البنا )
كان الطريق طويلًا ووعراً، لكن استقامته الشديدة أعجزتني! عند أول منحنى، صبأت وحدي بينما باقي العربات يتطلعن لي في دهشة ” أيتها المجنونة ..ماذا فعلت بنفسك ؟
أجبتهم وأنا أتوارى تحت ظل غيمة
” أنا الآن .. حرة ”
ضحكن ساخرات بينما الغيمة تقترب في خبث من رأسي.
محمد البنا …
Discussion about this post