قصّة قصيرة
الرجوع
تأخرت ضيفتي عن موعدها بساعات، اتصلت تعتذر عن التأخير ، سألتها ما السبب، فتلعثمت في الرد ،
ثم أكّدت أنها ستزورني بعد قليل . . قالت وهي تغلق الخط
– ستذهلك المفاجأة لن أتأخر .
كان لقفلتها وقع غريب و تذكرتُ أن ضيفتي تهوى المقالب فهي غريبة الأطوار تخيفني أحيانا لخبثها المتلبس بالحياء ، و تصنعها العفوية ، ربما تحمل معها فيلما أو كتابا أو صديقا أو جزءا من الذاكرة المنسية بعد طول غياب .
ازددت تشوقا وعادت بي الذاكرة إلى عهد الطفولة والمرح وانعكس الحبور على وجنتي فازداد نشاطي متحمسة لقضاء أمسية ماتعة معها . رتبت بأناقة و تناسق القاعة و أعدت تدفئة إبريق الشاي المغربي و بعض المرطبات الشرقية التي كنا نعشق سحرها و أصالتها.
انتبهت من غفوتي إلى الجرس يرن رنينا موقعا مسترسلا لا ينقطع بعبثية أطفال الحي ،
تعسا لهؤلاء الأولاد ؛ لم يكفّوا عن الاستهتار بأي جهاز ، ما أصعب العيش بين أجوار غير مؤدبين!
سارعت إلى الباب متمتمة حانقة لاكتشاف الزائر العابث بالجرس ، فوجئت بلفيف من البنات والأولاد صحبة ضيفتي. قالت معانقة أنهم متشوقون لاكتشاف صديقة أمهم زمن الصبا، قبلتهم بحرارة الغياب، حدقت فيهم مليا معبرة عن انبهاري بسحر عيونهم العسلية وقد كانوا محملين بأكياس الهدايا و الأشواق، اشرأبت أعناقهم إلى كل زاوية، محملقين بكل الأطر و المخطوطات المعلقة و ال زخارف و الأواني ..
الحقيقة أن مرأهم غمر قلبي غبطة لكنني لم أستوعب شيئا، فصديقتي لم تحدثني أبدا عن خبر حمل أو ولادة منذ أن غادرت البلاد وانقطعت أخبارها لسنوات، أتكون تكتم سرا؟
لم أشأ أن أفاتحها في الموضوع و استمرت الزيارة على وتيرة هادئة بين ترحيب و حسن ضيافة وملح و استطرادات حتى بادرتني مداعبة يدي:
_ انتظر السؤال المكتوم هيا، قرأته بين ناظريك.
لم أجد ما أقول رغم الوساوس ، تظاهرت بالاتزان مبتسمة، إذ من العيب أن أتدخل في شؤون الآخرين كما تردد ها دائما عندما كنا نسألها عن سبب رفض كل من يتقدم لخطبتها سابقا حتى انقطع الأمل ، قطع صمتنا شجار بسيط بين الأطفال ، فنهرتهم صديقتي متضايقة بعض الشيء وطلبت مني الخروج إلى حديقة البيت هامسة ” لنتحدث على انفراد “.
حالمنا ابتعدنا عن مسامع الصغار، لم تتمالك نفسها،
انهارت باكية ” أتذكرين جارتنا الشامية ذات العيون الساحرة ” شام “، لقد كانت زميلتنا بالفصل السادس ، تلك التي كانت تنافسنا حب جارنا” التركي” فتتلاسنان و تتنمران حد الحنق و العراك ألازلت تذكرين تلك الأيام ؟
_ لقد عدت بي بعيدا بعيدا، بعض ملامحها غابت عن وجهي لكن في الواقع هؤلاء الأطفال يحملون شبها كبيرا منهما، لا تقولي أنهما أبناء هما؟!
_ أرأيت أغرب من هذه الصدفة يا عزيزتي ؟! لا زال الكثير سأخبرك به .
بقيت مشدوهة مما سمعت، واصلت حديثها متأثرة متلبكة _ كم كانت الحياة قاسية و مريبة ! ترتب أقدارنا كما تشتهي،
لقد شدها الحنين لزيارة أهلها بالشام بعد عشر سنوات غياب لتدفن هناك تحت أنقاض بيتهم القديم حالما وصلت ، صحبة كل أهلها وأحبابها، تجمعهم مناسبة اللقاء ليكون حفل وداع أخير.
انهرنا بكاء كادت العبرة تخنقني لولا لحاق الصغار بنا طالبين بعض الشراب. لبّيت حاجتهم وعاودت تقبيلهم ومعانقتهم حزنا و إشفاقا.
طلبت مني أن لا أخبر الأطفال ، فهم جهلون الخبر لازالوا ينتظرون عودتها بفارغ الصبر ، ثم التمعت عيناها مخفيتين جديدا متلبسا بالفرح المكتوم،
_ ماذا هناك صديقتي؟! ماذا تخفين؟!
_ ما رأيك بالموضوع، هل أقبل أن أكون أما لهم و زوجة له؟ إنه ترجاني أن أقبل رغم حزنه الشديد لافتقادها ، فمسؤولية تربية الأطفال صعبة للغاية دون أمّ وزوجة؟
_ تتالت المصائب ، ولم أعرف كيف أتصرف أ أحزن لموت شام أم أفرح لفرح صديقتي أم ابتئس لخيانة الزوج للعشرة و إسراعه بالبحث عن بديل ؟!
لم يكفكف دموعه بعد لغيابها، ولم يعرف لها قبرا يؤمها.
اكتفيت بطأطأة رأسي في صمت و أخذت الأفكار تجول في خاطري و الاستفهامات تتهاطل و التفسيرات و التبريرات تتضارب وجدتني أقبل الأطفال و أداعبهم و دون عميق تفكيرخاطبتهم :
_أسمعتم بالزلزال العظيم الذي ضرب الأرض ؟ أرأيتم ماذا فعل؟!
لقد قسم الأرض نصفين، لم يعد بالإمكان أن تعود أمكم لأنها بالعالم الجميل النقي، لذلك منذ اليوم ستشترون أما جديدة، ما رأيكم ؟!
لم يستوعب أحد ما سمع، لكن صغيرهم رحب بالفكرة، و قفز في حضن صديقتي يقبلها بينما التف حولها البقية في ذهول،
تحاملت صديقتي على نفسها جمعت الأطفال، أركبتهم السيارة وغادرت دون أن تنبس ببنت شفة، لم أودعها ولم أغلق خلفها الباب، وانهرت باكية ألعن الصدف الغريبة ووجه الغدر القميء، وددت أن اتصل بضيفتي أشتمها و أصب فيها جام غضبي لمكرها و سوء تقديرها للأمور لكنني تمالكت نفسي و التمست لها ألف عذر . قضيت وقتا استرجع ذكريات انقضت حتى وجدته واقفا أمامي يعاتبني على ما فعلت مع الصغار و لكنه ختم قوله ببعض التبريرات الاعتباطية .
لم أعرف كيف سأتصرف لحظتها، هل أعزيه لمصابه الجلل أم أبارك خطبته لصديقتي، كل ما رسخ في البال أنه كان يتعلل بضرورة لم شمل أبنائه و حمايتهم من الشتات ففرات والحسين و إسلام و سلام يحتاجون إلى من يرعاهم بحب حتى يشتد عودهم .
_ أصبحت متناسيا أن الرعاية تحتاج إلى صبر و تضحيات و مبادئ وإخلاص، أما اقتناص الفرص لجبر الضرر فمن شيم الجبناء، ستمكنك صديقتي وبسرعة من كل الوثائق اللازمة للالتحاق بها بين أحضان أمريكا، ستمسح دموعك بسرعة كغيرك و تنسى تضحياتها من أجلك منذ زمن، غادر غير مأسوف على حالك و راع الله في كل أبنائك لعلنا في يوم نغفر زلتك، ستحاول إقناعي ببراءتك وحسن نواياك . ألم تجد غيرها كلنا يعلم أنها ترفض الاستقرار، أنها تعشق الرحيل و….
زلزلت الأرض تحت أقدامه حالما غادر الشقة و صدحت صافرات الإنذار مدوية، تشبثت بمكاني الأثير منتظرة سقوط المبنى على هامتي المضرخة، لكن رن جرس المنبه كعادته فاستيقظت مذعورة.
Discussion about this post