“بلد الشموع ”
في معمعة هذا العالم و،تلك الفوضى وددت أن أفتح لكم نافذة من نوافذ بلدي؛ حين استوقفني
ذلك المشهد ، وأنا أسير في أزقة مدينتي عروس
الجزيرة السورية(القامشلي) مدينة الحب، ذات الطابع الفسيفسائي، المتنوع بالأديان، و الأنسجة الاجتماعية.
نعم أنسجة اجتماعية متماسكة بقدرة الله ، في
ظلِّ النوائب ، والمحن التي تخيّم على هذا
الوطن الجريج .
شوارع فارغة ، بيوت مهجورة ، لم يبق فيها
سوى شمعتان مضاءتان ، تذوبان حرقة ولوعة
قاتلتين .
فلذات الأكباد رحلوا وأبحروا بعيداً، ساقتهم
الشواطئ إلى عالم جديد ، عالم مجهول الملامح ، والهيئة ما من قاعدة له ، ولا أساس
ولا انتماء .
وفي وسط هذا الجو الباهت الشاحب ، وجدت
شمعة ترنو إليّ، تسرح في عالم ضبابي مجهول
ملّت الانتظار في محطاته ، محطات اليأس، والحنين، تعيش على أمل اللقاء من جديد ، ذلك اللقاء الحار الذي لا يضاهيه لقاء ، لقاء مغموس بالحسرة ، والألم ، والحسرة، والحب.
لم أنسَ تلك السنة عندما استقليت سيارة الركاب (سرفيس) ، وأنا في طريقي للقاء صديقاتي في مطعم يتوسط المدينة ؛ ركبت
سيدة – لا بل شمعة والصليب يزين جيدها- السيارة ببطء شديد
فحاولت المساعدة ،فالتفتت إليّ وخاطبتني
بكلام ٍ مفعم ٍ بالرقة، وأنا مزينة بحجاب أبيض، وقالت :
شكراً لك يا ابنتي ، لو تدرين كم كنت كالغزال
خفّة ،ورشاقة ، أمّا الآن ولّى زماننا ، وبدأ زمان
التعب ، وفي تلك الأثناء حاولت النزول ، وهمّت
هي أيضاً للنزول ، فامسكت بيدها، تلك اليد المعطاءة الكريمة المزينة بزخارف تعب السنين،
وفي لحظة توقف فيها العالم لبرهة ؛ لأجدها تعانقني وكأنّما تعانق الصليب والهلال بكل حرقة، مجهشة بالبكاء .
بكاء الأكباد المهاجرين، الأحياء منهم والأموات ، فكم أبكتني ، ثم قالت لي :
كم أحببتك يا ابنتي ، أرجو أن يكون لنا لقاء
في يوم ٍ ما ؛ أنتظر زيارتك ، وهذا عنواني
ما اسمك؟ يا ابنتي فأنا ذاهبة إلى الكنيسة
سأشعل لك فيها شمعة حتّى تتحقق كل أمنياتك.
ثمّ رحلت ، وقبل أن تختفي عن ناظري ، لوّحت ملتفتة إليّ مرة أخرى ، هل تعدينني بذلك ، فما
كان مني إلّا أن أومئ لها بنعم .
شعرت حينها بسهم رماني وأدمى قلبي على
حين غرّة .
والملفت المبكي في هذا المشهد ؛ دعوتها لي دون معرفة سابقة بي ، وأدركت حينها في قرارة نفسي ، أنّها تبحث عن أكبادها وكنت أنا
البديل الخيالي الذي ملأ ذلك الفؤاد الفارغ ،
لتطفئ به نيران الشوق والحنين .
فكم يا ترى من شمعة أصبح فؤادها فارغا تحترق وتذوب هنا وهناك .
هذا هو بلدي بلد التسامح والإنسانية
فبرداً وسلاماً يا بلدي .
يا بلد الشموع .
بقلم ” أمل السودي ” سورية “
Discussion about this post