اللون الأخير ..
قصة قصيرة
د.علي أحمد جديد
كلّ شيء أمامه كان واضحاً ، لكنه بدا غارقاً في التفكير ، وتساءل في سرّه مُتردّداً :
– هل أشتري أم لا؟
توجّه إلى البائع المُتمترس خلف المنضدة الزجاجية الطويلة والممتدة في وسط المحل الفخم . سأله وهو يشير إلى القمصان الملوَّنة الممدَّدة أمامه :
– هل كل الألوان باهتة على هذا النحو؟ أليس هناك لون ينبضُ بحيويةٍ أكثر؟
أجابه البائع الشاب بتودّدٍ ظاهرِ المبالغة :
– لا يا سيّدي ، وأعتقد أن هذه الألوان أمامك لا بأس بها ورائعة .. وإذا كانت إشراقاتها غير ذلك ، فأرجو أن تسمح لي سيادتك..
وتوقّف البائع عند هذه النقطة من حديثه معتمداً على حدّة ذكاء زبونه وعلى حضور بديهته وتوقُّدها . صمَتَ ، هو ، بدوره وتابع صمته متأمِّلاً خارطة ألوان القمصان فوق المنضدة الزجاجية الفارهة .. ولما طال صمته قليلاً ، تدخَّل البائع يقول :
– هل يتكرّم سيِّدي ويفيدُني باللون الذي يرغب فيه؟
ردّ عليه من فورِه ودونَ عناءِ تفكير :
– لا أرى في هذه الألوان أي جاذبية ، وليس فيها حياة تشدّ إليها .. أنا أتوق إلى قميص مميَّز بلَوْنِه .. أريد لوناً نابضاً وهادئاً مريحاً لا إثارة فيه ولا صخب .
“الجراد يقضي على المزروعات في أفريقيا وأسرابه تتّجه نحو الشمال الشرقي”
عادت إلى ذهنه أحداث ليلة الأمس بكلِّ تفاصيل أحداثها . كان التلفاز يبثُّ برنامجاً غربياً مُدبلجاً خاصّاً بربّات البيوت يشرح لهنّ كيفية العناية بنباتات الزينة في البيوت . تابعه قليلاً وهو يستغرب إصرار زوجته على مشاهدة هذا البرنامج دون غيره من البرامج التي تزدحم بها القنوات الفضائية المتعدّدة . كان ينتظر نشرة الأخبار الرئيسية كعادته كل مساء . ما لبث أن شعر بالمَلَل بعد أن أعياه الانتظار ، فانصرف بنظراته إلى حيث موقع أقدام زوجته فوق السجادة الملوّنة . كانت تتابع البرنامج المُدبلج باهتمام وهي منتصبة فوق ألوان السجادة . ثم التفتت إليه فجأة وهي تقول :
– لقد ابتلعتْ مصاريف الأولاد ميزانيّة هذا الشهر كلها . دفاترٌ وأقلامٌ وعلبُ التلوين وغيرها من متطلّبات المدارس ، وما يزال الأولاد بحاجةٍ للكثير حتى ينتهي الفصل الدراسي الأخير ونرتاح من طلباتهم اليومية المُتجدّدة . الطلبات كلها ضرورية كما أراها ولا يمكن الاستغناء عن شيءٍ منها أبداً ..
تشاغل عنها ، وضنَّ عليها بالإجابة التي يعرف مسبقاً أنها لن ترضيها أبداً.. بدورها كانت تنتظر منه ردّاً شافياً ، تنتظر تعليقاً على ما قالت أو احتجاجاً . كانت تنتظر منه أيّ شيءٍ حتى لو كان صراخاً . لكنه تحاشى النظر في عينيها وكأنه يخشى مواجهة نظراتها ووَقْعَ ردِّه في ما لو أجابها .. ثم تابع بنظراته موقع قدميها فوق السجادة الملوّنة من جديد ، بينما راحت تضيف بلهجةٍ أقلّ حدّة :
– لِمَ لا تحاول البحث عن عمل إضافي بعد الدوام ، فالشركات الخاصّة ملأت المدينة وكذلك المعامل ، لا بدّ أنك ستحصل على فرصة جيّدة لأنك تمتلك من الخبرة المحاسبية ومن شهادات دورات التخصّص ما يفتقر إليه الكثيرون ويحسدونك عليه . وأنا واثقة أنهم سيمنحونك راتباً جيداً وأفضل من راتبك الأساسي الذي تقبضه من الحكومة بكثير ..
ولما لمست عدم حماسته لما تقول ، تابعت بلهجةٍ فيها الكثير من الإشفاق والتوسّل :
– كلنا بحاجة للكثير .. أنظر إلى نفسك ، إنك بحاجةٍ إلى قميص جديد غير القميص الذي ملّ منك وتعب من الغسيل كل أسبوع .. ألم تتعب أنت منه؟!..
قال وهو لم يزل يتأمّل السجادة الملوّنة تحت قدميها :
– غداً سيصرفون لي مكافأة العمل الإضافي الذي قمت به أثناء إعداد ميزانية المصنع عن الربع السنوي الثالث ، وسأعطيك لتستكفي طلبات الأولاد . وإذا تبقّى منها شيء سأشتري قميصاً جديداً زاهيَ اللون ورائعاً يناسب الربيع الذي نحن فيه .
“أكثر أصناف الأدوية باتت مفقودة وهي في السوق السوداء بأضعاف قيمتها”
ببرود ، كان يتابع غزوات اللون على المنضدة الزجاجية الفارهة أمامه ، وبدا أنه تائهٌ في خضّم ذلك بلا حماسة منه ولا اندفاع . ما لبث أن عاد البائع الشاب إلى التدخّل محتفظاً بلهجته الودود :
– هل يفيدني سيّدي برأيه في لون هذا القميص؟
أشار بيده دون أن يكلّف نفسه عناء الالتفات نحو البائع ، أو النظر إلى لون القميص الذي يشير إليه ، وهو يقول :
– أحاول أن أكون مُتأنّياً بعض الشيء في الاختيار ..
وغدا يُمعِن النظر والتدقيق في القميص ويتلمّس القماش بين إصبعيه وكأنه يخشى وجود تشويه أو عنصر غير طبيعي في تركيبة القماش .
“العمال يجلسون باسترخاء في باحة المصنع وينتشرون بعيداً عن خطوط الإنتاج”
قدما زوجته فوق ألوان السجادة ما تزالان تستحوذان على جلِّ خواطره منذ مساء الأمس . للمرة الأولى ، منذ زواجهما ، يرى قدميها منتفختان وأن شيئاً فيهما من لون تربة الأرض . أو هكذا خُيِّل إليه . كانتا تشبهان قدميِّ أمّه تماماً . جاءه من الخلف تيارٌ شديد البرودة يلفح رأسه . لم يستطع تحمّل برودته رغم الدفء الربيعي الطاغي والقريب من حرارة الصيف قليلاً . ابتعد عن مسار التيار البارد والتفت يتحرّى مصدره وهو يفرك مؤخّرة رأسه بكفّه . ابتسم البائع وهو يقول :
– إنه جهاز تكييف الهواء يا سيّدي ..
ثم أردف مُفسّراً والابتسامة ذاتها تتّسع وتتمدّد فوق بشاشة وجهه :
– إنه من أفضل الصناعات الأمريكية وأرقاها ، وقد عملتُ على تشغيله منذ الآن لتجهيزه استعداداً لحرارة الصيف القادم الذي سيكون قاسياً. وجميلٌ يا سيّدي أن بعض شركاتنا الوطنية تحاول تصنيع أجهزة تكييف الهواء محلياً هذه الأيام ، لكنها لن تنجح ولن تكون بجودة الصناعات الأمريكية التي تراها ، والتي تغزو أسواق العالم كله ، ومن الأفضل لنا أن نستورد هذه الأجهزة ونضمن جودتها بدل أن نتكلَّف عناء محاولة تصنيعها محلياً ولا ننجح . نحن – أخوتي وأنا – كنا نعمل في الخليج لمدةٍ تزيد عن العشرين عاماً .. ولما كنا هناك لم نُمضِ لحظة من دون استخدام أجهزة تكييف الهواء . في البيت وفي العمل ، وحتى في السيارة كانت أجهزة التكييف لا تتوقّف عن العمل . لقد رحمهم الله بثروة النفط هناك يا سيّدي ، وأتمّ رحمته لهم بوجود دولةٍ صناعية مثل أمريكا ليستوردوا منها التكنولوجيا الأمريكية التي تساعدهم على مواصلة العيش في مثل تلك الأجواء من الحرِّ الحارق والشديد . ولولا نعمة البترول تلك ما استطاعوا العيش هناك ، لأن استيراد الأجهزة وحده يساعدهم على العيش . وكما تعلم يا سيّدي ، فإن التكنولوجيا باهظة التكاليف ، خاصة إذا استوردناها من الغرب .. الغرب البعيد .
“الولايات المتحدة تصدّر القمح إلى أكثر الدول الزراعية”
قال البائع والابتسام يتابع الصمود على وجهه :
– ما رأيك في هذا اللون يا سيّدي؟
وفرد أمامه قميصاً بلون الأفق . تأمّل القميص بتمعّن وهو يقلِّب الأمر في ذهنه لفترة كافية .. ثم ردّ عليه وهو يمسك بذقنه بين إبهامه وسبابته :
– إنه أزرق كفاية ، وزرقته هذه تذكِّرني بالبحر .. وأنا لا أحبّ اللون الأزرق عندما يلوِّن مدينةً ما على اليابسة . وكما قلت لك هو لون البحر ، وأنا أريد لوناً هادئاً ومُسالماً لا صخب فيه ولا ضجيج .
بدأت حماسة البائع الشاب تخبو شيئاً فشيئاً ، كأنها تذوب وفي طريقها إلى التلاشي نهائياً ، ليحلَّ اليأس من إقناع الزبون مكانها . لكن الابتسامة لم تبارح موقعها فوق مساحة وجهه وكأنها أساسٌ من ملامحه . كان يهزّ برأسه وهو يعاود طيّ القميص الذي فَرَدَه كي يعيده إلى الرفِّ تحت جهاز تكييف الهواء الأمريكي المستورَد . وبدوره خطر له أن يستوقفه بعد أن غمره الإحساس بالشفقة عليه ، لكنه أحجم عن ذلك وتركه يُعيد القميص إلى موضعه الذي كان فيه على الرفّ . قال له محاولاً تعويض صبر البائع الشاب بعض الشيء :
– أعطني من فضلك ذلك القميص الأبيض الذي في الأعلى إلى اليمين ..
تهلّل وجه البائع الشاب بوضوح وأسرع يفتح السلَّم المعدني الصغير ليتسلَّق درجاته ويُنزِل له القميص الأبيض الذي أشار إليه .
خطر له من جديد أن بياضه مثل غيمة صحراوية لا ماء فيها ولا برودة ولا حياة وتذكَّر حديث البائع عن عمله مع أخوته هناك في دول الخليج الصحراوية .. كما عادت ترتسم أمامه حماسة البائع وهو يشيد في حديثه بالتكنولوجيا الغربية وبالصناعات الأمريكية . فأسرع يردُّ إليه القميص دون أن تفحّصه مثل باقي القمصان التي عرضها البائع عليه .
لم يصدر عن البائع الشاب أيّ تعليق ولم يتذمَّر أبداً ، واكتفى بإعادة القميص إلى مكانه ونزل درجات السلَّم الصغير مبتسماً. استغرب من البائع طول صبره الأسطوري وفجاجة الابتسامة الملتصقة بوجهه التي لا تغادره أبداً . تذكّر مدير المصنع حيث يعمل ، فهو دائم الابتسام بملامح وجهه البليدة ، لكنه دفين اللؤم وظاهر الخبث والدهاء … والتملّق ، وصاحب تودّدٍ مُريب . قفزت إلى ذهنه صورة المدير يوم زار وزير الصناعة مصنعهم للاطمئنان على الإنتاج وتفقّد حال العمل والعاملين فيه . كان المدير يومها يبتسم بفجاجةٍ أيضاً وهو يتوجّه بحديثه إلى الوزير أمام لفيفٍ من العمال اختارهم المدير بنفسه واصطفاهم لحضور حفل استقبال الوزير والاحتفاء به في المصنع . كان يقول :
– ليسمح لي سيادة الوزير أن أتشرّف وأذكّره بخلوِّ مصنعنا من أية حادثة عمل منذ استلامي منصب المدير العام فيه .
صفّق العمال المختارون يومها وهم على يقين أن قول مديرهم العام مغايرٌ للواقع وللحقيقة ، وأن انعدام إصابات العمل بين العمال لأنهم لا يعملون . وشعر بالحَرَج من نفسه ومن زملائه أيضاً لأنه لم يشاركهم التصفيق ، وأتعبه انقباض معدته وهو يقاوم الغثيان الذي اعتراه من كذب المدير وريائه أمام الوزير .
هزّ الوزير رأسه مبدياً القليل من الحماسة في تصديق المدير العام الذي تابع يقول :
– لقد طلبتُ موافقة معاليكم على إنشاء خطّ إنتاج للمناديل الورقية ، لقد باتت الحاجة إليها اليوم ضروريةً ومُلِحّةً سيّدي الوزير .
ثم مال نحو الوزير يهمس له بفحيح مُتقطّع وهو يقول :
-أكثر من ثلثيّ إنتاج مصنعنا من أغذية الأطفال يتمّ تصريفها في السوق السوداء عبر الوسطاء الذين أوصيتم بهم معاليكم . لقد ارتفعت أثمانها جداً نتيجة قلّة العرض كما أوصيتم معاليكم . وإذا لم تفتحوا باب استيراد أغذية الأطفال حماية للصناعة الوطنية ، فأضمن لكم تضاعف أرباحكم عدّة مرّات .
وأشعل لفافةَ سيجارِهِ العريض بقدّاحته الذهبية المطابقةِ بنقوشها لساعته الذهبية التي على معصمه المغطّى بالشعر الكثيف . ثم تابع فحيحه في أذن الوزير :
– لقد تمّت دراسة كل شيء دراسةً مستفيضةً وبدقّة وعناية شديدتين ، وجاءتنا عروض أسعار مذهلة وخاصة لتجميع خط الإنتاج الجديد من شركات أمريكية معروفة وموثوقة ، وقد عرضوا علينا عمولات مجزيةً مقدَّماً وبشكل سرّي لا يثير الريبة ولا يتيح المجال لأيّ تساؤل كان .. وأرى يا سيّدي أن نقيم عنبراً خاصاً لخطّ الإنتاج الجديد هناك ..
وأشار بيده وهو يَفرِدُ راحتها السمينة المُكتنزة نحو واحةٍ خضراء إلى جانب باحة المصنع الرَحْبة والواسعة حيث تنتصب الأشجار سامقةً بين شجيرات الورد وأدغال الياسمين وفي سباقٍ مع مداخن المصنع نحو السماء .
قال للبائع الشاب :
– أعطني قميصاً من هذه النوعية لو سمحت .
قال البائع ووجهه يزهو بالانتصار :
– إن اختيارك ذكيّ وفي محلّه يا سيّدي .. إنه نوعيةٌ مميَّزةٌ ونادرة رغم أنَّ صناعته محلية . أي لون تختار يا سيّدي؟
قال بحماسة ملؤها الحسرة والأسى :
– أريده بلون الربيع الحقيقي .. أريده أخضرَ وزاهياً مثل حدائق بابل الأسطورية .. أريده ربيعاً غير مزيَّفٍ ، كما نَجمَتيّ رايتنا الخفّاقة المحاطتين بالأحمر وبالأسود . لقد رأيتُ الألوانَ المختلفة في متجرك هذا ، وأنا أصرُّ الآن على اللون الأخضر وأتمسّك به بقوّة ، لأن اخضرارَنا الحقيقي وحياتَنا ، اليوم ، يضيعان وينزلقان من أيدينا كالزئبق المراوغ ..
ثم أخرج محفظته من جيبه الخلفي ونقدَهُ ثمن القميص المحلّي الصنع هو يتعمّد الابتعاد عن جهاز تكييف الهواء الأمريكي قدر ما يستطيع . وحَمَلَ الكيس البلاستيكي الملَّون الذي يحوي قميصه الأخضر الجديد وغادر المخزن .
Discussion about this post