المازوخية في نص
( أللحرية مذاق آخر ؟ ) ..
للكاتبة المصرية ( سماح رشاد )
قراءة في القصة القصيرة
( أللحرية مذاق آخر )
للكاتبة المصرية ( سماح رشاد )
العنوان بداية ؛ هو وصف للحرية كمذاق له طعم خاص، وبصيغة السؤال أللحرية مذاق آخر؟ .. ولأنّ تذوق الطعام لايحتاج مسايرةً للآخرين، أو مجاملةً لهم .. فإنّ طعمه وتذوقه خاصٌ جداً لمن يأكله، ولذلك قيل: كُل على ذوقكَ والبس على ذوق الآخرين ..
وبسرديةٍ نهمة تبدأ الكاتبة ” سماح رشاد” قصتها ” أكلتُ كتابين ليلاً “، إنها نهمة للقراءة والمعرفة، ومتى ؟ في الليل حيث الهدوء والسكينة والانعزال عن الآخرين . فعٔلُ القراءة كما يبدو قد يكون مستهجناً وغير مرغوب به لدى المقربين منها، لذلك تقوم به ليلاً، ثم الحديث مع الغرباء نهاراً، والغرباء أيضا منبوذون، وهي تصرّ على التواصل الاجتماعي وتواجه هذا القيد بالحديث معهم، ومن ثم توزيع بسمات على المارة، الابتسامة لفتاة في مجتمع متشدد قد يكون جُرماً، لكنها لاتأبه لذلك وتوزع ابتساماتها على المارين .
ومن ثم تأتي بلغة صادمة، عندما تتوقف عن الحديث معه، ربما مع زوجها، ثم تمحوه، وكأنّه كتابة عابرة بقلم رصاص باهت .. تفعل مايحلو لها حتى لو كان غير مألوف، تشرب شاياً من غير سكر، ترتدي الأسود فتخالف العادات والتقاليد التي تفرض ارتداء الأسود على الراحلين الموتى .
ولا تستثني الكاتبة الأفعال الطفولية البريئة من حياتها، فتقوم بلعق النوتيلا من أصابعها كالأطفال تعبيراً عن حبها لها، ثم تنزوي في زاوية معتمة، فتحرق كل ما يصلها من رسائل ممن تحب .
تقوم بما يفرضه عليها وعيها وقلبها، حيث يرتفع صوتها، تنادي، تصرخ، تصمت، تثرثر، تقوم بكل درجات الكلام، كحاجة عن التعبير والفضفضة، وكل ماتقوم به لاحاجة له للتبرير، ولاتطلب من أحد أن يبرر ما يفعله . إنها الحرية التي تنشدها وتريدها ..لا تبرير على شيء ..
تصف معاناتها بدقةٍ بالغة، عدم النوم ليلاً، تعذّب نفسها بالسهر، تنظر للسقف الذي يكاد يُطبق على صدرها، فهل ضاق المكان بها ؟؟ حتى الساعة لاتريد سماع صوتها، فتنزع بطارياتها، والنسيم تقيد حركته بإغلاق النافذة لتمنع مروره، تغلق كل الأبواب في وجه الأفكار حتى لاتعبر خلالها ..تعذيب نفسي واضح ” أغلقتُ كلّ الأبواب في وجه الأفكار حتى لاتعبر خلالها ” .
تحاول الرسم رغم عدم معرفتها به، فتلطخ جدرانها بألوان رمادية غائمة و غير صافية، تترك صنبور الماء ينقط لتسمع سيمفونية الليل والفراغ، تطلب من وسادتها أن تتحملها، تكسر عدة أطباق قصداً، تستمتع بكومة الحطام التي شكلتها من تكسير الأكواب .. تروق لها سرياليتها وفوضاها، ماهذا الاستمتاع في تعذيب الذات وجلدها ؟؟ هل تنتقم الكاتبة من حريتها المفقودة بهذه الفوضى وبهذا التعذيب المؤلم ؟؟!! هل تفجّر غضبها وقيودها من خلال ماتقوم به من تكسيرٍ وحرمان وتعذيب للذات ؟؟؟
تصرخ صمتاً وجهراً .. إنه الشعور بالقهر الموجع .. تعود إلى معتقدات بيئتها الدينية، المرأة ضلع آدم، وهي ضلع أبيها المعوج، لاتستطيع المرأة الخروج من عباءة الرجل سواء أكان أبا أم زوجا أم أخا .. كيف وهي ضلعٌ من أضلاعه، لا بل والمعوّج منها ؟؟؟ !!!
تحاول الانتحار، أقسى درجات معاقبة الذات ” لن أفسّر سبب تساقط الدماء من يدي ومن ابتسامتي ” ، لم تستطع أن تمتلك الحياة كما تشاء، فهاهي تحقق الموت كما تريد وكما تستطيع فعله ..
أفكارها، أفعالها، هي ملء إرادتها فقط، موتها وحياتها، هما قرارها فقط، ولن تبرره لأيّ كان .
سردية جميلة معبرة عن أعماق الذات المقهورة، استطاعت الكاتبة ” سماح رشاد” حفرها في أعماقنا من خلال جملها السريعة المتواترة، ومن خلال صورها الفنية الموحية، ومن خلال لغتها الشفيفة التي تبدّت في مفرداتها من مثل :” وشوشتُ دفتراً بكلمتين في أذنه ” و ” قلتُ لوسادتي تحمّليني ” ، إنها تؤنسن الأشياء بما تضفيه عليها من صفات إنسانية، فللدفتر أذنان، وللوسادة شعور…
ما أجملها من لغة ومن أسلوب استطاعت الكاتبة من خلالهما أن تحلّق بنا وتأخذنا معها إلى السماء .
رولا علي سلوم
********
نص قصة (ألِلحريّةِ مذاقٌ آخَرَ ؟!)
للكاتبة ( سماح رشاد )
أكَلتُ كِتابينِ ليلاً، حدّثتُ غريبًا نهارًا، وزّعتُ بَسماتٍ على المارّةِ، توَقَفتُ عن الحَديثِ معَكَ، مَحَوتُكَ، شرِبتُ الشاي دونَ سكّرٍ، ارتدَيتُ الأسودَ دونَ مَوتِ أحَدِهِم، لَعَقتُ النوتيلا مِن أصابِعي، جلَستُ بزَوايةِ الظِلِّ، حرَقتُ الرَسائلَ، علا صَوتي؛ ناديتُ، صرَختُ، صَمَتُّ، ثَرثَرتُ..
لن أبَرِرَ لأحَدٍ، ولا تُبرِروا،
لم أنَمْ ليلاً، نظَرتُ للسَقفِ، نزَعتُ بَطارياتِ الساعَةِ، أغلَقتُ النافِذَةَ حينَ حاوَلَ النَسيمُ أنْ يمُرّ، لن يذهَبَ الياسمينَ لمَكانٍ، أغلَقتُ كُلَّ الأبوابِ في وَجه الأفكارِ؛ حتّى لا تعبُرَ خِلالي..
لا أعرِفُ الرَسمَ، ولكِن لَطّختُ جُدراني بألوانٍ رَماديةٍ، أدَعُ الصُنبورَ ينَقِط؛ لا أغلِقَه لأسمَعَ سيمفونيةَ اللّيلِ والفَراغِ، أرَبِتُ على كَتِفِ وِسادَتي: “فلتَتَحَمّليني”..
كَسَرتُ عِدّةَ أطباقٍ قَصدًا؛ لأشْعرَ نَشوةً لا تُضاهَى، ثمّ وَشوَشتُ دَفترًا بكَلِمَتينِ في أُذُنِه، ودَسَستُه تحتَ سِجادَةَ الغُرفَةِ، وصَمَتُّ بُرهَةً، وعدتُ لتَكسيرَ الأكوابِ؛ لأصنَع كَومةً من الحُطامِ راقَت لي سِرياليتَها،
ثمّ عاودتُ الصُراخَ، صَمتًا وجَهرًا..
تذَكّرتُ أني ضِلع أبي المُعوَج؛ هو يشتَكي أعوِجاجي، وأنا أشتَكي ألَمَ استِقامَةِ أضلُعِه؛ فنَزَعتُ ألَمي ونُشوزَ أبي، تسَلّلتُ، إلى الدَرَجِ بالخارِجِ، نظَرتُ لأعلَى وأسفَلِ؛ رأيتُهُم ينتَظِرونَ خبَرًا، لكن لَم يدُقُّ أحَدُهُم بابي ليَسألَ، فَلَن أشفي انتِظارَهُم، ولَن أفَسِرَ سببَ تساقُطَ الدِماءُ؛ مِن يدي، ومِن ابتِسامَتي..
أملُكُ جَسَدي وأفكاري وأفعالي، ولَن أبَرِرَ قَراري بالمَوتِ، والحَياةُ بالحَياةِ..
#سماح_رشاد
Discussion about this post