كتاب الشهر
(نيرفانا) للشاعرة سلوى القلعي
شاعرة منحها الحرف متعة السفر , ووهبها أجنحة حلقت بها عاليا في سماء الكتابة وأحدثت بالفعل زلزالا أسمته نيرفانا .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
فقط للتذكير “نيرفانا “هو مصطلح موجود في نصوص جميع الديانات الهندية الرئيسية , ومنها الهندوسية والجاينية والبوذية والسيخية.وفي المعتقد يشير هذا المصطلح إلى راحة البال العميقة التي يتم اكتسابها مع موكشا,أي الحرية والخلاص, وكذلك مع التحرر من سامسارا وتعني دورة الموت وإعادة الانبعاث. وبذلك يكون التحرر من حالة المعاناة, بعد ممارسة روحية منتظمة.
و”نيرفانا” تعني وصول الفرد إلى أعلى درجات الصفاء الروحاني بتطهير نفسه, والقضاء على جميع رغباته المادية, أو بعبارة أخرى فناء الأغراض الشخصية الباطلة التي تجعل الحياة بحكم الضرورة دنيئة, أو ذليلة مروِّعة, ويصبح القياس هو: كل من شاء منا أن ينقذ حياته عليه أن يخسرها.
و”نيرفانا” هو أيضا عنوان مجموعة نصوص شعرية للكاتبة التونسية سلوى القلعي , صادرة في بداية سنة 2023 عن دار وشمة للنشر الورقي والإلكتروني في 82 صفحة من الحجم المتوسط وفي في طبعة أنيقة جدا توشح غلافها لوحة للفنان محمد بكار,تتمثل في وجه إمرأة ترنو بعينيها إلى السماء وتمسك بيدها منديلا تضع طرفا منه بين فكيها .وتحتوي هذه المجموعة على 37 قصيدة مختلفة في طولها ,ومتنوعة في مواضيعها .
ولعل السؤال الذي يبادرنا منذ البداية ماذا خلف هذا العنوان الذي خصته الشاعرة لنصوصها ؟ وهل أن بمجرد كتابة الشعر والغوص في غور الكلمات تكون سلوى القلعي قد طهرت نفسها واحتلت أعلى درجات الصفاء الروحاني وحلقت بعيدا في سماء الحريات واللاقيود ؟
والحقيقة أن القارئ لن يذهب بعيدا ولن يتعب في البحث عن جواب مقنع للسؤال الذي طرحناه سابقا . بحيث من الإهداء تضعنا الشاعرة في مناخاتها الصوفية وفي بحثها الدائم عن السلام والمصالحة والسكينة الوجدانية والفكرية في آن .وقد جاء في الإهداء :
(… إلى فتوح الغيث …
إلى الثلج ,
والماء ,
والنار …).
وكما تلاحظون هذا الإهداء أرادته صاحبته في قسمين . في القسم الأول نقرأ إلى فتوح الغيث .
كتاب الشهر
(نيرفانا) للشاعرة سلوى القلعي
شاعرة منحها الحرف متعة السفر , ووهبها أجنحة حلقت بها عاليا في سماء الكتابة وأحدثت بالفعل زلزالا أسمته نيرفانا .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
فقط للتذكير “نيرفانا “هو مصطلح موجود في نصوص جميع الديانات الهندية الرئيسية , ومنها الهندوسية والجاينية والبوذية والسيخية.وفي المعتقد يشير هذا المصطلح إلى راحة البال العميقة التي يتم اكتسابها مع موكشا,أي الحرية والخلاص, وكذلك مع التحرر من سامسارا وتعني دورة الموت وإعادة الانبعاث. وبذلك يكون التحرر من حالة المعاناة, بعد ممارسة روحية منتظمة.
و”نيرفانا” تعني وصول الفرد إلى أعلى درجات الصفاء الروحاني بتطهير نفسه, والقضاء على جميع رغباته المادية, أو بعبارة أخرى فناء الأغراض الشخصية الباطلة التي تجعل الحياة بحكم الضرورة دنيئة, أو ذليلة مروِّعة, ويصبح القياس هو: كل من شاء منا أن ينقذ حياته عليه أن يخسرها.
و”نيرفانا” هو أيضا عنوان مجموعة نصوص شعرية للكاتبة التونسية سلوى القلعي , صادرة في بداية سنة 2023 عن دار وشمة للنشر الورقي والإلكتروني في 82 صفحة من الحجم المتوسط وفي في طبعة أنيقة جدا توشح غلافها لوحة للفنان محمد بكار,تتمثل في وجه إمرأة ترنو بعينيها إلى السماء وتمسك بيدها منديلا تضع طرفا منه بين فكيها .وتحتوي هذه المجموعة على 37 قصيدة مختلفة في طولها ,ومتنوعة في مواضيعها .
ولعل السؤال الذي يبادرنا منذ البداية ماذا خلف هذا العنوان الذي خصته الشاعرة لنصوصها ؟ وهل أن بمجرد كتابة الشعر والغوص في غور الكلمات تكون سلوى القلعي قد طهرت نفسها واحتلت أعلى درجات الصفاء الروحاني وحلقت بعيدا في سماء الحريات واللاقيود ؟
والحقيقة أن القارئ لن يذهب بعيدا ولن يتعب في البحث عن جواب مقنع للسؤال الذي طرحناه سابقا . بحيث من الإهداء تضعنا الشاعرة في مناخاتها الصوفية وفي بحثها الدائم عن السلام والمصالحة والسكينة الوجدانية والفكرية في آن .وقد جاء في الإهداء :
(… إلى فتوح الغيث …
إلى الثلج ,
والماء ,
والنار …).
وكما تلاحظون هذا الإهداء أرادته صاحبته في قسمين . في القسم الأول نقرأ إلى فتوح الغيث .
وفتوح الغيب هو أحد أبرز الكتب في التصوف للإمام عبد القادر الجيلاني, وقد جاء هذا الكتاب ضمن اثنين وستين مجلساً كان يعقدها عبد القادر الجيلاني في مدرسته. ويحتوي على مفاهيم العصر ومشكلاته الراهنة, وأزماته المعقدة, وصولا, من خلال المقارنة, إلى إيجاد حلول للمشكلات الإنسانيّة والاجتماعية والثقافية الراهنة.
وفي القسم الثاني نقرأ : إلى الثلج والماء والنار. ولا ننكر ما تتضمنه هذه الكلمات من دلالات و رمزية. فالماء قد يشكَّل العديد من الدلالات المختلفة والرموز المتعددة من خلال تجلياته الفضائية والمادية والثقافية, وهو في النهاية يرمز إلى الحياة بكل مكوناتها .والملاحظ أن الماء قد استُعمِل في الكثير من الأشعار العربية على مرِّ العصورالقديمة والحديثة استعمالاً مخالفاً للمعهود عليه والمألوف في الثقافة الإنسانية, وقد تمَّ استحضاره في التشبيه, وفي المقارنة, وفي المدح, والرثاء, والهجاء, والغزل, والحزن, والمعاناة, والغرق, والضياع, والتشرذم, والتقدم, والتخلف, والمأساة, والسخرية… وغيرها من القضايا التي كان الماء فيها ممثلاً لمشاعر وأحاسيس ومواقف وأفكار الشعراء .
أما “النار” فهي تُمثّل رمزا متعدد الأبعاد, يستمدّه الشاعر من الوعي الجمعي, ومن ذاته, ومن رؤاه الإبداعية, وقد حمَّله بدلالات مختلفة مرتبطة بالواقع الاجتماعي والسياسي, وبما يختلج في نفسه من صراع يشبه الاحتراق, ويتضح ذلك جليًّا في تجارب الشعراء المعاصرين, من خلال توظيف رموز تنتمي إلى “المعجم الناري” للتعبير عن عواطفهم ومواقفهم وآرائهم بأسلوب إيحائي متميز.
والأكيد أن الشاعرة بهذا الإهداء وضمن هذا العنوان أرادت أن تقول بأنها قد تكون وصلت إلى حالة انطفاء كامل بعد فترة طويلة من التأمل العميق والغوص في مياه المعنى من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات في مناخ صوفي بامتياز . فجاءت نصوصها نابشة في غور الكلمات , وناسجة أحاسيس مختلفة استلهمتها من عقول وقلوب الأهل والأحبة والمحيطين بها وحولتها من الفوضى والصراعات والمتناقضات إلى نصوص عميقة خالية من مشوبات الإعتبارات المجتمعية والإيديولوجية . وكشفت فيها طبائع وخصوصيات الإنسان وما يعترضه من مواقف وأفكار في محيطه بكل جزئياته التي قد يكون يجهلها تماما .والقارئ المتمكن يكتشف بسهولة هذه الرسائل النبيلة التي سربتها الشاعرة بذكاء عبر نصوصها المختلفة . وهذا ما لاحظناه في البداية , في قصيدة (ذاك الرجل العظيم) . وقد تحدثت فيها عن والدها الذي لم يكن رجلا عظيما, والمهم أنه كان والدها وأنها هي ابنته .وفي القصيدة تعرضت إلى تفاصيل عن حياة أبيها الطيب والمسالم والمكتفي بما وهبه له الله من رزق وعائلة وقناعة بالقضاء والقدر ,وهو الذي تمرس على كل المهن ليوفر لعائلته العيش الكريم .والشاعرة كتبت بكل فخر وبدون خجل معاناة والدها فقالت في صفحة 7 :
(… كان أبي نقالا على عربة وحصان …
وكان فلاحا …
وبحارا …
ومسؤولا عن مستودعات البلدية …
وجامعا للعسل …
كان كتيبة نمل ,
وكان كثيرا جدا وكبيرا …
…………………
وكم كان إنسانا ,
ذاك الرجل الذي لم يكن عظيما …).
وهكذا بهذا السفر الجميل في التفاصيل والجزئيات عبرت عن حبها الفريد الصادق والعاري من المجاملات لوالدها . وفي موقع آخر كتبت عنه (أبي المدرسة) ,وهو نص مؤثر جدا ,عادت فيه إلى سنوات الطفولة وحمق الصبا وكيف عاملها والدها بعدما تم رفتها من المعهد ولاحظ رعبها , بحيث قال لها وهو يبتسم : لاعليك ,اضحكي فهي عطلة لك وحدك . وقد قالت في صفحة 48 :
(… نادى أبي …
أين السلوى ؟
أريد أن تقرئين سلام الله …
لماذا أدخلتك المدارس ؟
ها … قرأت
وودعتْ روحهُ رطوبة الليل ,
وودعتُ أنا كل ما قرأت في المدارس
عن أبي
لأنه … المدرسة …).
ولا يمكن أن نستغرب من حبها الإستثنائي لوالدها ومن هذا السفر الجميل في الزمن و في الكلمات ,فهي إمرأة سيدة السفر, كما جاء في صفحة 11 .وهي التي تعودت على اقتناء تذاكرها من هول الكلام , ومن الكوابيس ,ومن لصوص الفرح ,ومن الفواتير, ومن أخبار البلد ,ومن المبتور, ومن فوضى الصباحات, ومن العادات والتقاليد ,ومن كائنات الفايسبوك ,ومن صراصير المقابر, ومن زمن البؤس والخراب . ولعلها تعني بالتذاكر, هذه النصوص المتفرقة هنا وهناك وقد تمرّ عبرها دون أن يفتشها درك الحدود, وهي تحمل في قلبها وفي عينيها فتاها الأخرق بعدما جففته كورقة ورد عربي . وهذا الساكن فيها بعد أبيها كتبت عنه في صفحة 21 قالت :
(…فأنا من زمن النفط العربي ,
ما ذقت طعم الحبّ …
وما تشمّمتْ شعري المجعد,
غير القطط المنزلية …
وما تأمل عروق يدي ,
وسمرتي , وتعبي , وغضبي , وشغفي ,
غير مرآة الحمام …
لهذا كله ,
أريدك الرجل الأقصى ,
لأنكّس لكَ لاءات البوح جميعها ,
وأشهر كل النعمات الممكنة …).
هكذا تبدو الشاعرة سلوى القلعي فريدة متفردة في حبها وفي علاقاتها بالآخرين وبالأشياء القريبة منها . وهي التي على بوابة الليل المتكبر كان ينتظرها حبيب ما وقد يكون اللقاء معه على غير موعد وغير ساعة .وكم كانت لا تشرب القهوة إلا في حيوات أخرى وفي مناخات لا تليق بسواها . ولأنه كان رجلا لا يبالي بالإتكيت وقد تعود أن يقدم لها فنجانا عن أخبار البلد فكانت تشربه دفعة واحدة وترسم على وجهها ملامح من شرب للتو حوامض , وتضحك كثيرا , ويضحك هو ويقول في صفحة 54 :
(…ما أحلى ربك يا امرأة …).
ولأنها بالفعل كانت تحبه على طريقتها وحسب ميزاجها ,وتعلم أنه يحب جميع النساء ,كانت تستفزه بكلام فيه من السخرية الشيء الكثير كما جاء في صفحة 14 :
(… كلبٌ إصبعُ ساقك هذا ,
يعضّ كل الجوارب ويخرج ,
وأحبه …
هل أدغدغه ؟
لا تكن حائرا جدا …إن هي ليست هنا ,
ربما أخطأت التوقيت ,
وأنت الرجل الذي يعدّ الوقت
على غروب الحبيبات ,
بظل وتد معوجّ …).
وكم يحلو لها استفزاز الحبيب وهي المرأة الشاعرة التي تسقي بدل النبيذ شعرا فاخرا , وتطوف بين الندمان بالقوافي , وينبت تحت قدميها السرخس والسيسبان فتقول له في صفحة 69 :
(…إذا كنت في حضرة سيدة تحب الشعر
والليل والبحر ,
فأنت في ورطة …
لن تعرف أبدا أي لحن سيروقها ,
أي لون تختار لقميص تضعه ,
لمقابلة أحدهم ,
في مقهى وسط البلد …).
وفي نص (حين مرّ الله من هنا) , ونادرا ما يمرّ الله على قصرها . وفي المرة الوحيدة التي ظلت تتذكرها كان الله محملا بالهدايا وكان نصيبها قصيدة ورجلا طاعنا في الصمت وضاجا ككتيبة نمل . وهي بذلك تريد أن تقول بأن الله وهبها الشعر والحبيب في آن . وهذا الحبيب له طقوس خاصة به ولا نجدها عند غيره . وقد قالت في صفحة 70 :
(…كل صباح كان يلف قصيدا من نصوصي
في ورق خاص ويدخنه ,
كان ذاك طقسه اليومي
للتقرب من الله …).
ولعلها تقصد التقرب منها من خلال قصائدها التي ينتشي بها حين يدخنها وقد يكون مدمنا في حب نصوصها أكثر من حبّها . ورغم ذلك ظلت وفية له ومخلصة لحبه وتعجب كيف تكون الشمس عروسا ليوم بلا غزل ولا ضحكات ولا قبل . وقد شبهت نفسها بالشمس وشبهته بيوم ميت بلا حياة وقد كتبت في صفحة 75 نصا عبرت فيه عن حيرتها وصبرها عليه ولكن للصبر حدود كما غنت أم كلثوم, حتى أنها قالت له بتحسر كبير ( كم سامحتك قبل هذا الصباح ) .وكانت النهاية أليمة بحيث بترت يدها ولم تبك وكسرت الصحون والكؤوس, وكسرت الضحكات ,وصار وجهها لطخة بشعة بين ماسكارا وأحمر شفاه وكحل عربي مخدوع , وكل ذلك رغم الوجع كان مريحا حتى أنها قالت في صفحة 77 :
(… كان ذلك مريحا
أخذت حقيبتي
ومضيت نحو مطعم فاخر
أكلت كمتشرد
وشربت سيجارتين نحيلتين
تبا لقد نسيت
كنت لففت لك فنجانا قديما
لتشربني كلما أعددت قهوة
كسرته …
وأعجب
كم سامحتك قبل هذا الصباح ؟ …).
ولأنها امرأة استثنائية في حبها وفي علاقاتها وفي رغباتها وحتى في لغتها مع من تحب , وهي القائلة في صفحة 33 :
(… كم أحبك أيها السافل البدائي …
وكم ساحرة آلة عصر القهوة خاصتك …
وكم يثيرني حذاؤك البني,
بجلده المعفر …
وكم أنتظر قصصك العجيبة …
وكم أشتهي أشرب بعدك ,
وألعق كأسك ,
وأتنفس نفاث سجائرك منك …).
وفي هذا النصّ,نلاحظ أنها تعترف بكونها سيدة غير أنيقة . وأن عاداتها الصحية مختلة , وعلى هذا الأساس تطلب منه أن يكون مغروارا كما هي تريد , وأن يكون مبتذلا أكثر من كيّس ,وأن تكون في قلبه وحدها لأنها لا تحب الإزدحام . وهنا تأكيد على أنها تريد امتلاكه وهو منتهى الأنانية .
كما لاحظنا في النص الذي يحمل عنوان هذه المجموعة (نيرفانا ), أنها اعترفت كذلك بأن بدايتها مع اللغة في فمها كانت صعبة جدا , وأنها بالكاد تنطق الحروف وخاصة حرف السين الذي يمثلها .وكان لزاما عليها أن تتخلص من التأتأة ,وأن تشرب قصائد السؤال , وأن تعبر مستنقعات الطين الوحشي حافية إلا من هذا الحرف الذي منحها متعة السفر , ووهبها أجنحة حلقت بها عاليا في سماء الكتابة وأحدثت بالفعل زلزالا أسمته نيرفانا .
ملاحظة :
سلوى القلعي : شاعرة تونسية من مواليد قليبية , متخرجة من مدرسة ترشيح المعلمين والمعلمات , تكتب القصة والشعر , وقد شاركت في العديد من الملتقيات الأدبية ,وهي تشرف على إدارة جمعية باروليتا للإبداع الأدبي …
وفي القسم الثاني نقرأ : إلى الثلج والماء والنار. ولا ننكر ما تتضمنه هذه الكلمات من دلالات و رمزية. فالماء قد يشكَّل العديد من الدلالات المختلفة والرموز المتعددة من خلال تجلياته الفضائية والمادية والثقافية, وهو في النهاية يرمز إلى الحياة بكل مكوناتها .والملاحظ أن الماء قد استُعمِل في الكثير من الأشعار العربية على مرِّ العصورالقديمة والحديثة استعمالاً مخالفاً للمعهود عليه والمألوف في الثقافة الإنسانية, وقد تمَّ استحضاره في التشبيه, وفي المقارنة, وفي المدح, والرثاء, والهجاء, والغزل, والحزن, والمعاناة, والغرق, والضياع, والتشرذم, والتقدم, والتخلف, والمأساة, والسخرية… وغيرها من القضايا التي كان الماء فيها ممثلاً لمشاعر وأحاسيس ومواقف وأفكار الشعراء .
أما “النار” فهي تُمثّل رمزا متعدد الأبعاد, يستمدّه الشاعر من الوعي الجمعي, ومن ذاته, ومن رؤاه الإبداعية, وقد حمَّله بدلالات مختلفة مرتبطة بالواقع الاجتماعي والسياسي, وبما يختلج في نفسه من صراع يشبه الاحتراق, ويتضح ذلك جليًّا في تجارب الشعراء المعاصرين, من خلال توظيف رموز تنتمي إلى “المعجم الناري” للتعبير عن عواطفهم ومواقفهم وآرائهم بأسلوب إيحائي متميز.
والأكيد أن الشاعرة بهذا الإهداء وضمن هذا العنوان أرادت أن تقول بأنها قد تكون وصلت إلى حالة انطفاء كامل بعد فترة طويلة من التأمل العميق والغوص في مياه المعنى من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات في مناخ صوفي بامتياز . فجاءت نصوصها نابشة في غور الكلمات , وناسجة أحاسيس مختلفة استلهمتها من عقول وقلوب الأهل والأحبة والمحيطين بها وحولتها من الفوضى والصراعات والمتناقضات إلى نصوص عميقة خالية من مشوبات الإعتبارات المجتمعية والإيديولوجية . وكشفت فيها طبائع وخصوصيات الإنسان وما يعترضه من مواقف وأفكار في محيطه بكل جزئياته التي قد يكون يجهلها تماما .والقارئ المتمكن يكتشف بسهولة هذه الرسائل النبيلة التي سربتها الشاعرة بذكاء عبر نصوصها المختلفة . وهذا ما لاحظناه في البداية , في قصيدة (ذاك الرجل العظيم) . وقد تحدثت فيها عن والدها الذي لم يكن رجلا عظيما, والمهم أنه كان والدها وأنها هي ابنته .وفي القصيدة تعرضت إلى تفاصيل عن حياة أبيها الطيب والمسالم والمكتفي بما وهبه له الله من رزق وعائلة وقناعة بالقضاء والقدر ,وهو الذي تمرس على كل المهن ليوفر لعائلته العيش الكريم .والشاعرة كتبت بكل فخر وبدون خجل معاناة والدها فقالت في صفحة 7 :
(… كان أبي نقالا على عربة وحصان …
وكان فلاحا …
وبحارا …
ومسؤولا عن مستودعات البلدية …
وجامعا للعسل …
كان كتيبة نمل ,
وكان كثيرا جدا وكبيرا …
…………………
وكم كان إنسانا ,
ذاك الرجل الذي لم يكن عظيما …).
وهكذا بهذا السفر الجميل في التفاصيل والجزئيات عبرت عن حبها الفريد الصادق والعاري من المجاملات لوالدها . وفي موقع آخر كتبت عنه (أبي المدرسة) ,وهو نص مؤثر جدا ,عادت فيه إلى سنوات الطفولة وحمق الصبا وكيف عاملها والدها بعدما تم رفتها من المعهد ولاحظ رعبها , بحيث قال لها وهو يبتسم : لاعليك ,اضحكي فهي عطلة لك وحدك . وقد قالت في صفحة 48 :
(… نادى أبي …
أين السلوى ؟
أريد أن تقرئين سلام الله …
لماذا أدخلتك المدارس ؟
ها … قرأت
وودعتْ روحهُ رطوبة الليل ,
وودعتُ أنا كل ما قرأت في المدارس
عن أبي
لأنه … المدرسة …).
ولا يمكن أن نستغرب من حبها الإستثنائي لوالدها ومن هذا السفر الجميل في الزمن و في الكلمات ,فهي إمرأة سيدة السفر, كما جاء في صفحة 11 .وهي التي تعودت على اقتناء تذاكرها من هول الكلام , ومن الكوابيس ,ومن لصوص الفرح ,ومن الفواتير, ومن أخبار البلد ,ومن المبتور, ومن فوضى الصباحات, ومن العادات والتقاليد ,ومن كائنات الفايسبوك ,ومن صراصير المقابر, ومن زمن البؤس والخراب . ولعلها تعني بالتذاكر, هذه النصوص المتفرقة هنا وهناك وقد تمرّ عبرها دون أن يفتشها درك الحدود, وهي تحمل في قلبها وفي عينيها فتاها الأخرق بعدما جففته كورقة ورد عربي . وهذا الساكن فيها بعد أبيها كتبت عنه في صفحة 21 قالت :
(…فأنا من زمن النفط العربي ,
ما ذقت طعم الحبّ …
وما تشمّمتْ شعري المجعد,
غير القطط المنزلية …
وما تأمل عروق يدي ,
وسمرتي , وتعبي , وغضبي , وشغفي ,
غير مرآة الحمام …
لهذا كله ,
أريدك الرجل الأقصى ,
لأنكّس لكَ لاءات البوح جميعها ,
وأشهر كل النعمات الممكنة …).
هكذا تبدو الشاعرة سلوى القلعي فريدة متفردة في حبها وفي علاقاتها بالآخرين وبالأشياء القريبة منها . وهي التي على بوابة الليل المتكبر كان ينتظرها حبيب ما وقد يكون اللقاء معه على غير موعد وغير ساعة .وكم كانت لا تشرب القهوة إلا في حيوات أخرى وفي مناخات لا تليق بسواها . ولأنه كان رجلا لا يبالي بالإتكيت وقد تعود أن يقدم لها فنجانا عن أخبار البلد فكانت تشربه دفعة واحدة وترسم على وجهها ملامح من شرب للتو حوامض , وتضحك كثيرا , ويضحك هو ويقول في صفحة 54 :
(…ما أحلى ربك يا امرأة …).
ولأنها بالفعل كانت تحبه على طريقتها وحسب ميزاجها ,وتعلم أنه يحب جميع النساء ,كانت تستفزه بكلام فيه من السخرية الشيء الكثير كما جاء في صفحة 14 :
(… كلبٌ إصبعُ ساقك هذا ,
يعضّ كل الجوارب ويخرج ,
وأحبه …
هل أدغدغه ؟
لا تكن حائرا جدا …إن هي ليست هنا ,
ربما أخطأت التوقيت ,
وأنت الرجل الذي يعدّ الوقت
على غروب الحبيبات ,
بظل وتد معوجّ …).
وكم يحلو لها استفزاز الحبيب وهي المرأة الشاعرة التي تسقي بدل النبيذ شعرا فاخرا , وتطوف بين الندمان بالقوافي , وينبت تحت قدميها السرخس والسيسبان فتقول له في صفحة 69 :
(…إذا كنت في حضرة سيدة تحب الشعر
والليل والبحر ,
فأنت في ورطة …
لن تعرف أبدا أي لحن سيروقها ,
أي لون تختار لقميص تضعه ,
لمقابلة أحدهم ,
في مقهى وسط البلد …).
وفي نص (حين مرّ الله من هنا) , ونادرا ما يمرّ الله على قصرها . وفي المرة الوحيدة التي ظلت تتذكرها كان الله محملا بالهدايا وكان نصيبها قصيدة ورجلا طاعنا في الصمت وضاجا ككتيبة نمل . وهي بذلك تريد أن تقول بأن الله وهبها الشعر والحبيب في آن . وهذا الحبيب له طقوس خاصة به ولا نجدها عند غيره . وقد قالت في صفحة 70 :
(…كل صباح كان يلف قصيدا من نصوصي
في ورق خاص ويدخنه ,
كان ذاك طقسه اليومي
للتقرب من الله …).
ولعلها تقصد التقرب منها من خلال قصائدها التي ينتشي بها حين يدخنها وقد يكون مدمنا في حب نصوصها أكثر من حبّها . ورغم ذلك ظلت وفية له ومخلصة لحبه وتعجب كيف تكون الشمس عروسا ليوم بلا غزل ولا ضحكات ولا قبل . وقد شبهت نفسها بالشمس وشبهته بيوم ميت بلا حياة وقد كتبت في صفحة 75 نصا عبرت فيه عن حيرتها وصبرها عليه ولكن للصبر حدود كما غنت أم كلثوم, حتى أنها قالت له بتحسر كبير ( كم سامحتك قبل هذا الصباح ) .وكانت النهاية أليمة بحيث بترت يدها ولم تبك وكسرت الصحون والكؤوس, وكسرت الضحكات ,وصار وجهها لطخة بشعة بين ماسكارا وأحمر شفاه وكحل عربي مخدوع , وكل ذلك رغم الوجع كان مريحا حتى أنها قالت في صفحة 77 :
(… كان ذلك مريحا
أخذت حقيبتي
ومضيت نحو مطعم فاخر
أكلت كمتشرد
وشربت سيجارتين نحيلتين
تبا لقد نسيت
كنت لففت لك فنجانا قديما
لتشربني كلما أعددت قهوة
كسرته …
وأعجب
كم سامحتك قبل هذا الصباح ؟ …).
ولأنها امرأة استثنائية في حبها وفي علاقاتها وفي رغباتها وحتى في لغتها مع من تحب , وهي القائلة في صفحة 33 :
(… كم أحبك أيها السافل البدائي …
وكم ساحرة آلة عصر القهوة خاصتك …
وكم يثيرني حذاؤك البني,
بجلده المعفر …
وكم أنتظر قصصك العجيبة …
وكم أشتهي أشرب بعدك ,
وألعق كأسك ,
وأتنفس نفاث سجائرك منك …).
وفي هذا النصّ,نلاحظ أنها تعترف بكونها سيدة غير أنيقة . وأن عاداتها الصحية مختلة , وعلى هذا الأساس تطلب منه أن يكون مغروارا كما هي تريد , وأن يكون مبتذلا أكثر من كيّس ,وأن تكون في قلبه وحدها لأنها لا تحب الإزدحام . وهنا تأكيد على أنها تريد امتلاكه وهو منتهى الأنانية .
كما لاحظنا في النص الذي يحمل عنوان هذه المجموعة (نيرفانا ), أنها اعترفت كذلك بأن بدايتها مع اللغة في فمها كانت صعبة جدا , وأنها بالكاد تنطق الحروف وخاصة حرف السين الذي يمثلها .وكان لزاما عليها أن تتخلص من التأتأة ,وأن تشرب قصائد السؤال , وأن تعبر مستنقعات الطين الوحشي حافية إلا من هذا الحرف الذي منحها متعة السفر , ووهبها أجنحة حلقت بها عاليا في سماء الكتابة وأحدثت بالفعل زلزالا أسمته نيرفانا .
ملاحظة :
سلوى القلعي : شاعرة تونسية من مواليد قليبية , متخرجة من مدرسة ترشيح المعلمين والمعلمات , تكتب القصة والشعر , وقد شاركت في العديد من الملتقيات الأدبية ,وهي تشرف على إدارة جمعية باروليتا للإبداع الأدبي …
Discussion about this post