رؤى حوارية
حوار أجراه
مصر..أحمد طايل.
* إذا أردنا أن تصفح الهوية الإنسانية والإبداعية لك..ماذا لديك بشأنها ؟
* المناخ الأسرى والبيئة والمجتمع الصغير التى كانت بداياتك الحياتية بها، مدى تأثيراتها؟ وانت تحديدا مدى إساهمتها بتكوينك الفكرى ؟
* متى بدأت الكتابة؟ ومتى أيقنت أن بك ما يشير إلى أن لك طريقا إبداعيا؟
* العتبة الأولى بالكتابة، إما هى حافز وإما هى دعوة للتراجع، احكى لنا كيف كانت عتبتك الأولى ؟
* مؤكد أن الرحلة الإبداعية بها العديد من المراحل والخطوات، ما أهمها لديك، وماهى المرحلة أو الخطوة التى تمنيت تخطيها ونسيانها؟
* مولودك الإبداعى الأول، كيف كان مردودة عليك وعلى عائلتك الصغيرة وعلى محيط الثقافة؟
* ما الكتاب الأول بقراءاتك الذى جعلك بحالة شغف للقراءة وبعدها للكتابة ؟
* من اول من وقف بجانبك كاتبة وأمن بكتاباتك؟
* ما الذى يستفزك للكتابة؟
* ما طقوس الكتابة لديك ؟
* لمن تكتبين ولماذا؟ وهل تكتبين للآخر ام عن الآخر ؟
* كتبت بغالبية الأجناس الأدبية، أيهم الأقرب إليك؟
* النص خدعة بين الكاتب والقارئ، هذه مقولة لك، هل استطعت من خلال كتاباتك تحقيق هذا التوازن بين الكاتب والقارئ ؟
* تدافعين عن قضايا المرأة، كيف ترين وضعية المرأة بعالمنا العربى، وهل هناك بون شاسع بين المرأة عربيا وعالميا، وكيف نسد هذه الفجوات؟
* هل انت مع تصنيف الكتابة إلى كتابة ذكورية ونسائية؟
*
روايتك، بغداد وقد انتصف الليل فيها، هى سيرة ذاتية لك، ماذا أردت من كتاباتها؟ أليست كل كتابات الكاتب تحتوى بالضرورة على مقتطفات من سيرته ومشاهداته وسمعياته؟
* تهتمين بالنقد، كيف ترين حال النقد الراهن، وما تطلبين انت من النقاد؟
* هل غياب لجان القراءة لدور النشر أثر على المنتج الإبداعى؟
* هل نجح الغرب بما يرسله من عواصف وأنواء المتغيرات أن يؤثر على التاريخ والثقافة العربية؟
* التاريخ والزمان والمكان، مدى تأثيراتهم على كتابات؟
* لو عاد بك الزمن، ما الجيل الذى كنت تودين التواجد به ؟ ولماذا؟
* كتاب وكاتبات دوماً انت بحالة بحث عن كتاباتهم؟
* هل نحن بحاجة ماسة لانتفاضة ثقافية تعيدنا إلى جادة الصواب الفكرى؟
* من يقود الآخر بالوقت الراهن، السياسية أم الثقافة وأيهم الأصح من وجهه نظرك ؟
* إذا طلبنا منك عنوانا لحياة الرايس؟
الأجوبة
* المناخ الأسرى والبيئة والمجتمع الصغير التى كانت بداياتك الحياتية بها، مدى تأثيراتها؟ وانت تحديدا مدى إساهمتها بتكوينك الفكرى ؟
* متى بدأت الكتابة؟ ومتى أيقنت أن بك ما يشير إلى أن لك طريقا إبداعيا؟
* العتبة الأولى بالكتابة، إما هى حافز وإما هى دعوة للتراجع، احكى لنا كيف كانت عتبتك الأولى ؟
نشات في بيت ليس به أي كتاب. الا نسخة من مصحف القرآن الكريم لا يستطيع ان يقراها احد. هي موجودة للبركة فقط. ابي كان يذهب الى الجامع ليحفظ القرآن و يحقد على فرنسا الاستعمارية التي علمته الفرنسية دون العربية.
وتشفّيا منها ، فقد أدخلني “الكتّاب” منذ صغري. لكي أتعلم القرآن والعربية وأصول ديني قبل أن أدخل المدرسة.
من “الكُتّاب” تعلمت القرآن والنطق الصحيح للغة القرآن التي علمتني الفصاحة ونمّت عندي ملكة الحفظ من تكرار السور. وأحببت الحرف من التخطيط الجميل بالصمغ و الريشة المبدعة الانيقة للحروف و للآيات ولقصار السور بخط سيدنا المدّب على الالواح الملساء التي نعانقها بأيدينا الصغيرة كل يوم. علقت عيني بالحرف في تعريجاته واستداراته وتقويساته ونقاطه وفواصله وتشكيله…
أحببت الحرف العربي وأحببت العربية من إيقاع القرآن و السجع الذي يدخل بنا في حالة ما يشبه الجذب. و نحن نردّد و نقول و نعيد بصوت عال حتى لو لم نكن نفهم ما نقول. و لكنا مأخوذين بالتكرار الذي كانت تتناغم معه اجسادنا الصغيرة التي تتمايل ذات اليمين و ذات الشمال و من الخلف الى الامام في حركات تلقائية متربعين على حصير المسجد . يهزنا الإيقاع و يطربنا الترتيل الذي دخلت معه في علاقة عشق للغة العربية. كانّها الصلاة.
بعد ذلك دخلت مدرسة تونسية ” مدرسة الحبيب ثامر” على اسم مناضل تونسي من الحركة الوطنية. واصلت تعليمي الثانوي بمعهد نهج الباشا العريق. وسافرت في بعثة حكومية رسمية الى العراق لمواصلة تعليمي.
البدايات
يقول قدماء المصريين:” كل شيء منذور للموت الا ما كتب.”
من صغري كنت اخشى الاندثار. لم اكن اخشى الموت لكن اخشى الاندثار، ان يأتي الانسان الى هذه الدنيا و يغادر و يكون هباء منثورا. و يمرّ مرور الكرام دون ان يترك اثرا: ذلك ما كان يرعبني فعلا اكثر من الموت. و انا لا ادري من الذي زرع فيّ وهم الخلود و من الذي اثقل ظهر الطفلة فيَّ بأكثر مما تحتمل ؟ من صغري كنت اؤسس للخلود بمشروع ادبي كبير يخلدني او يبقى كأثر يدل عليّ بعد الخروج من هذه الدنيا، ليقول انّني كنت هنا و لم اكن نكره. يعزّعليّ ان اغادر نكرة . و لا اترك للأجيال شيئا او اثرا…
مثل جدّي جلجامش كنت معنية او مهوسة بالبحث عن عشبة الخلود و مثله لم يقنعني ما قالت صاحبة الحانة ” سدروي” له مشفقة عليه بعدما أنهكته رحلة البحث عن عشبة الخلود:
“تمتّع بهناءاتك وما يولد لك من أطفال.
الآلهة أعطت الموت للإنسان واحتفظت هي بالخلود.
وهوما نحن عليه ولا محيد لنا عنه”
ولكن هل عمل ” جلجامش ” بنصيحتها؟ وهل هناك كاتب يستطيع أن يتمتّع بهناءاته وما يولد له من أطفال. دون أن يرمي بنفسه في متاهة مغامرة البحث عن عشبة الخلود؟
و كيف لم اقتنع انا بالولد؟ وكيف استبدلت فعل الولادة بفعل الكتابة؟ كيف استبدلت الرحم بالكلمة؟من الذي أوهمني أنّ الخلود مع القلم وليس مع الولد؟ومن أطول عمرا، الكتاب أم الولد؟ ولماذا يموت كلّ أبنائنا ويبقى المتنبّي حيّا لا يموت والمعرّي وابن خلدون؟
متى بدأت الكتابة؟ ومتى أيقنت أن بك ما يشير إلى أن لك طريقا إبداعيا؟
* العتبة الأولى بالكتابة، إما هى حافز وإما هى دعوة للتراجع، احكى لنا كيف كانت عتبتك الأولى ؟
الطريق الإبداعية كيف دخلتها ؟
لم تكن طريقا كانت بحرا من بحور القراءة .غرقت في مدونات اجدادي المتنبي و الجاحظ و المعرّي و التوحيدي و الحصري و ابن خلدون ….
و درست الفلسفة كاختصاص لاثري نصي الادبي بعمق السؤال. لان نصّا بدون أسئلة، بدون حيرة، بدون قلق وجودي، لا يساوي شيئا. ككاتب بدون قضية . في الفلسفة اكتشفت انا لي اجدادا اخرين مثل سقراط و افلاطون و ارسطو و ديكارت و هيجل و كانط…
ثم وجدت انني انتمي الى حضارات أخرى بفعل القرابة الكونية و ارث الإنسانية جمعاء مثل كلاسيكيي الادب الفرنسي و الروسي و الإنجليزي و الامريكي …
بالإضافة الى القراءة هناك التجارب . التجربة الحياتية كاكبر منهل و من تجارب الاخرين التي اكتب عنها و اتمثلها في شخصياتي القصصية و الروائية …
العتبة الأولى
لقد بدأت الحكاية من بغداد ، على شاطئ دجلة بالذات .عند نصب شهرزاد و شهريار الناهض كشاهد ابدي على شهوة الفن للحياة و شهوة الحكاية للتجدد ….حيث تقف شهرزاد قبالة شهريار:شامخة كنخلة بغدادية،ملكة تمسك صولجان الكلمة بيدها و تقبض على سرّ الحرف الوهّاج و تعلّمنا أسرار الليالي في مقاومة شهوة الموت عند مليكها شهريار. وتُبعث كل يوم جديدة كما أرادها الفنان النّحات محمد غنيّ حكمت ( الذي أقام النصب في منتصف السبعينات): واقفة غير راكعة أمام شهريارالحاكم بأمره، المتكئ على أريكته،ظهره إلى النهر و عيناه إلى شهرزاد و شهرزاد عيناها إلى النهر يركض الموج بخيالها من دهشة إلى دهشة لا تنتهي ….
شهرزاد التي ملأت الدنيا حكايات و أثّثت ذاكرتنا ووجداننا بقصصعالم عجائبي تفرّدت وحدها دون نساء الأرض بابتكاره: عن التاريخ القديم وأخبار الملوك و السلاطين و الإنس والجن والإنسان والحيوان والّلصوص و الشّطار و الحكماء والأطباء و الأبطال ورجال الدين والدنيا و الخير و الشّر….
لأجل عيون ” شهرزاد”ملأت جدّتي طفولتي حكايات و وعدتها منذ صغري أن أملأ بدوري الدّنيا حكايا . خاصّة بعد تلك الليلة التي وضعت رأسي على ركبتها و هي تهدهدني لأنام و تحكي لي حكاية فاطمة و محمد بن السلطان… فأخذها النوم و هي في عزّ الحكاية و لم تفق بعدها أبدا … إليها سأواصل بقية الحكاية التي لن تنتهي لأني سأنام مثلها في عزّ الحكاية …. و قد كتبت لها هذا الإهداء في روايتي ” عشتار” فيما بعد ،لأن عشتار أكثر الآلهة انتشارا هي أسطورة متجددة عبر الزمان أيضا …
كانت جدتي تهدهدني لأنام و هي تردّد ” لن تفنى الكلمات …لن تفنى الكلمات…” هي تعرف ان شهرزاد خبأت كل الحكايات في جرابها الذي لم يدفن معها و ما على جداتنا غير النبش قليلا لدغدغة عظام الموت لتنفجر الحكايات بكل قوة الحياة.
هناك في ليالي بغداد ومن نصب تمثال شهرزاد عرف القلم طريقه إلى النشر .
كنت أحرّرالنصوص والمقالات والحوارات باللّيل وآخذها إلى الجريدة بالنّهار إلى ” دارالجماهير للصّحافة ” حيث مجلة ” ألف باء ” وجريدة “الجمهورية” اللتين احتضنتا بداياتي ثم ” أفاق عربية” و مجلة ” فنون ” فيما بعد…. ربّما تشجيعا لطالبة مهووسة بالكتابة والأدب و الصحافة تنتمي إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد .في تلك السنوات مابين 78الى 1982
* مولودك الإبداعى الأول، كيف كان مردودة عليك وعلى عائلتك الصغيرة وعلى محيط الثقافة؟
مؤكد أن الرحلة الإبداعية بها العديد من المراحل والخطوات، ما أهمها لديك، وماهى
المرحلة أو الخطوة التى تمنيت تخطيها ونسيانها؟
في الكتابة ليس لي مرحلة اريد نسيانها. كل ما في الامر اني لم اكن استعجل النشر ابدا. كنت اكتب القصة منذ الثمانينيات و انشر في المجلات و الجرائد العربية دون ان افكر في جمعها في كتاب طيلة عشرية كاملة.
بداية التسعينيات ( 1991)عندما احسست بنضج ابداعي معين، أصدرت مجموعتي القصصية الأولى :” ليت هندا ..” كتبتها كلها في بضعة اشهر . و كلها قصص جديدة، عندما تأكدت من الإضافة و التميز و الاختلاف. و تنكرت لكل قصص عشرية الثمانينيات. ( و التي ساعود اليها الان كمرحلة من تاريخي الإبداعي )
تنكرت لها حينها لايماني ان العمل الأول هو الذي سيحدد هويتك الأدبية. اذ لا معنى ان يرمي الواحد منا كتابا في السوق دون ان يلفت انتباه احد. و دون ان يضيف شيئا. اذا كان الكتاب الأول رديئا فان20 كتابا آخر لن يمحووا ذلك الانطباع الأول الذي رسم هويتك عند الناس.
” ليت هندا …” مجموعة قصص:آخر قصة بها كانت قصة طويلة بعنوان : اعلان زواج ” حينها قال النقاد ان حياة الرايس تتهيّأ لكتابة الرواية و هناك من اعتبرها رواية قصيرة و توقعوا ان الكتاب القادم سيكون رواية و لكن الكتابة انحرفت بي عن جنس القصة، “خنت” القصّة و كتبت بحثا فلسفيا عن النساء المسكونات بالجان ” جسد المرأة من سلطة الانس الى سلطة الجن ” نشر في دار سينا 1995 بالقاهرة. كتبته ليس بطريقة البحث الاكاديمي و لكن “بانحرافات” السرد السابقة عندي. احكي فيه عن كائنات عجيبة و غريبة عن نساء مسكونات بالجان… من الحضرة( الزار ) و مزارات الاولياء الصالحين والحمّام التركي … الى عيادات الطّب النفسي …رغم انه بحث فلسفي : مقاربة سايكولوجية/انتروبولوجية لحالات الهستيريا بالتعبير الطبي :النساء المسكونات بالجان بالتعبير المحلي …و لكن النقاد رأوا فيه تشكّل اسلوبي الادبي الجامع بين الادب و الفلسفة باعتبار اختصاصي الفلسفي و مراوحة بين الفلسفة و الادب و اهتموا خاصة بموضوع التابوهات الذي تناولته ……
لكن في الكتاب الثالث : الذي جاء على شكل مسرحية :” بعنوان :” سيّدة الاسرار عشتار” فقد بدا التداخل فيه واضحا او بصفة اوضح اذ جاءت المسرحية على شكل الواح شعرية محافظة على اسلوبها القديم باعتبارها مستوحاة من اسطورة الالهة عشتار و هي قصة حب بين عشتار و تموز. فيها الاحداث و الشخصيات و العقدة و الدراما…. و احتار النقاد في وصفها مرة أخرى. و هنا ظهر التداخل بصفة اكبر بين مختلف الاجناس الادبية و كتب الناقد كمال الرياحي عنها قائلا : هذه مسرحية تستعصي عن التصنيف اذ هي نص تتعالق فيه الحكاية و السرد ،مع الشعر مع الرواية مع المسرح……” ربما هي رواية شعرية؟
بعد المسرح عدت الى القصة كنوع من الوفاء ربما؟ لأنني شعرت انني خنتها ههه مع البحث الفلسفي.و مع المسرح. عدت اليها مع مجموعة :” انا و فرنسوا …. و جسدي المبعثر على العتبة : 2008طبع في بيروت عن دار ” كتابنا .
ثم و اذا بي في 2012 اصدر ديواني الشعري الاول :” انثى الريح ” و كأن الرياح حطت بكلماتي في القصيد . وان الرياح التي تبعثر كل شيء قد جمعت حروفي في قصائد نثرية و رسائل ضّيعت عناوينها” كما عنونت القسم الثاني من الديوان …
كتبت للأطفال أيضا سلسلة ” حكايات فاطمة “…2012
المهم في كل هذا اني لم اكن أُجبر الذات الكاتبة فيّ او اضغط عليها او احبسها في جنس واحد. بتواطؤ كبير مني اتركها تحط على الشكل الذي تراه مناسبا لموضوعاتها.لأني اثق في الذات الإبداعية.لأنه و مهما تعددت الاشكال و الاجناس الادبية فان الجسد الابداعي واحد .و قد كان ذلك محل ثقة اتبادلها انا و قلمي، لم اكن اشك في اختياراته.و في النهاية لم يكن يزعجني ان يكتب القصة او الشعر او المسرح فهو يفاجئني بهذا التنوع من جهة و لان التجربة الابداعية ارحب و ارحم من ان تلوى عنق قلمها. فانا و اياه متفقان بتواطؤ كبير على هذه الحرية و الاريحية واكتشاف مساحات ابداعية جديدة ….
ثم عدت الى القصة في مجموعتي الثالثة : طقوس سريّة و جحيم ” عن هيئة قصور الثقافة 2015 .
رغم كل هذه الحرية في اختيار الشكل الابداعي المناسب ،الا اني كنت ارغب في سري بكتابة الرواية.
احسست ان كل هذه الاجناس انما تهيّاني الى الناموس الاعظم الى النص الروائي.
و في اليوم الذي احسست فيه بفيض نضج ابداعي معين. وبعد أكثر من ثلث قرن من كتابة القصّة و الشعر و النص المسرحي و ادب الرحلات و ادب الرسائل و البحث الفلسفي …. اقبلت بهمتي على الرواية. كأني كنت في حاجة لجمع شتاتي في الرواية فكانت :” بغداد و قد انتصف الليل فيها. ” رواية سيرية فيها السرد و الحكاية و تعدد الشخصيات و الاحداث و العقدة و الدراما و الرؤية الفلسفية و الخيط الرابط والموقف من قضايا العصر في مناخات شعريّة وفيّة لخصائص كتابتي الادبية ….فيها مقوّمات الرواية و مقوّمات السيرة الذاتية …أو ربّما كنت اتوق الى كتابة النص المفتوح الذي لا يحدّه حدّ.
يشجعني قول النقاد في هذا التنوع الذي اختص به ويختص به الكثيرون أيضا :” كل شكل تكتبه حياة الرايس تبدع فيه “.( الناقد كمال الرياحي)
هل كنت اهاجر مثل عديد الكتاب الى الرواية؟ ام لأنه عصر الرواية هل لان الرواية تحتل ديوان العرب الان و تتربع على عرشه ؟
سنة 2018اصدرت روايتي الاولى و هنا اضع الاولى بين قوسين لان هناك من النقاد من يعتبر مسرحية “عشتار ” رواية.او رواية مسرحية .
س ) أي صنف من الكتابة تجدين فيها نفسك؟
بعدما كتبت ثلاث مجموعات قصصية
_ ” ليت هندا …”
_ انا و فرنسوا …و جسدي المبعثر على العتبة ”
_ ” طقوس سريّة… و جحيم ”
و كتبت الشعر :
ديوان ” انثى الريح” وآخر تحت الطبع
كتبت المسرحية ” مع مسرحية ” سيّدة الاسرار : عشتار ” و مسرحية ” أثينا” تحت الطبع
كتبت البحث الفلسفي :” جسد المراة من سلطة الانس الى سلطة الجن ” و ” الجسد المسكون و الخطاب المضاد ”
كتبت للأطفال ” سلسلة ” حكايات فاطمة ”
بعد كل هذه الاجناس الأدبية اين تجدين نفسك ؟
ج )
اجد نفسي في الرواية بطبيعة الحال لان الرواية تستوعب كل الاجناس الأدبية من قص و سرد و شعر و فلسفة و سنيما و مسرح وعلوم … الرواية اعتبرها خلاصة تجربتي الأدبية في كل الاجناس و الاشكال الإبداعية المتنوعة التي ذكرت و التي كتبتها باعتباري كاتبة متعددة الاشكال…اردت ان اجمع شتاتي في الرواية . فكأنما روايتي :” بغداد و قد انتصف الليل فيها ” كانت تتويجا لكل هذه التجربة الأدبية المتنوعة و ربما لذلك وجدت النجاح الذي وجدته. 4 طبعات ما بين تونس و مصر و بغداد في ظرف عامين على إصدارها .و ترجمت الى الإنجليزية.و الان تترجم الى الفرنسية و الاسبانية.
طقوس الكتابة
* ما طقوس الكتابة لديك ؟ و طقوس يومك ؟
لا ليس لي طقوس خاصة للكتابة انزوي بها. طقسي العام كله هو طقس كتابة و ابداع. انا احاول ان اعيش ابداعيا و شعريا و روائيا على الارض بحيث احوّل حياتي الى حالة سردية و شعرية … انا في حالة كتابة دائمة سواء دونتها على الورق او تركتها تستقر في ذاكرتي الى حين…حتى في النوم اكتب . خاصة و اني اكتب ادب السيرة الذاتية هذه المدة الاخيرة . ميكانيكيا اجدني في حالة تحويل حياتي او ما احبّ منها الى كلمات ….
و ما اخرجه للناس او ما اظهره للعلن اقل بكثير مما اخزنه ….
و من طقوسي الحياتية
انا أقوم الصبح اشرع باب الحديقة .اطوف بكائنات حديقتي اسمع صوتها و أنفاسها اصبّح على الشجرة واقبّل خدود الوردة والزهرة، اكلّمها واحاورها وابارك نموها وأربت على كتف عودها فيميل تيها ونشوة ويزهر نخوة و تتدلي أكثر الثّمر .
. اربت على بتلات العطرشاء و ابارك نموها السريع . اعاتب نمو الاكليل و الزعتر البطيء واقارنها بالخزامى .. اداعب اوراق مسك الليل و اشكرها على سهرة البارحة الباذخة …. اعانق اغصان الزيتون المثقلة بحملها هذا الموسم فرحا بصابة هذه السنة و اذكرها بموسم الجني في اكتوبر …اضحك لحبات الفلّ ازين بها كفي ….و اعجب من شجرة الياسمين و هي تتعملق لتعانق شجرة الدفلى الاعلى منها و تعانقها و تغمرها بروائحها لتواسي مرارتها … اجمع حبّات التين الزيدي من الكرمة الضخمة …
نتبادل الأحاسيس والشعائر الصباحية والتراتيل الكونية التي لا يسمعها سوانا نسبّح بعظمة الخلق وعطاء الطبيعة البكر وهي تبدع ذاتها. امتلئ بها حتى اشعر بنوع من الفيض الصوفي اسكبه في نصوصي وفي قصائدي . الشعر هو ان ترهف السمع بحس شفيف الى روح الطبيعة في ادق جزئياتها و تفاصيلها في كل كائناتها وتجلياتها و ايقاعاتها …الشعر في الكون و ليس في القصيد بالضرورة .
احكي لك طرفة : في مرة ضبطت الخالة مبروكة (المعينة المنزلية) تنظر اليّ خلسة من نافذة المطبخ المواربة بعين الريبة و الخشية هي تظن انني ربّما جننت و عندما دخلت وجدت عجعجة بخور… و هي تسمي و تبسمل و تترجاني و تتوسلني ان اسمح لها بقراءة المعوذتين على راسي … هي تشك في صحة مداركي الحسيّة و ربما بي مسّ وانزار من ” الناس الاخرى ” كل يوم في مثل هذا الوقت عندما اعتّب الحديقة دون ان اسمي باسم الله ….
خالتي مبروكه تعتقد بوجود كائنات اخرى تعيش معنا كالجن و الشياطين …و لا تريد ان تقتنع معي ان الاشجار و الازهار و الاغصان و الاوراق … هي كائنات حيّة تعيش معنا تزعل و تفرح و تضحك و تتفتح و تتورد …..
اعود الى طقس الكتابة
اول ما اقوم الصبح افتح الكمبيوتر و اضع نصا عليه افتتح به يومي و اجعله ” مركز الكون ” و كل الشؤون الاخرى تدور حوله ليكون هو الاساس .عندما اتعب او أمّل منه اقوم لاشياء أخرى… و شؤون البيت التي كنت اقول عنها انها تافهة تصبح مسلية ومرغوبة و مريحة بالنسبة لاعمال العقل والابداع و الخلق….
اطل على ” الفضاء الازرق” اتسلى قليلا ثم اعود الى مركز الكون الذي به تبتدئ و تنتهي الاشياء و يكون اخر ما افرغ منه قبل النوم او هو الذي يقودني متعتعة الى النوم ….خاصة و اني متفرغة الان تماما للكتابة و السفر…بعدما استقلت مبكرا من تدريس الفلسفة لان الوظيف لا يسمح لي بالعيش بين تونس و باريس كما اريد …
اخرج الصبح لقضاء بعض الشؤون . احب الاسواق الشعبية و اختلط بالباعة و الناس و العامّة لأجس نبضهم السياسي ولأعرف نبض الشارع من خلالهم و الى اين يتجه الراي العام بعدما تعددت عنا الاحزاب و المذاهب و دخلَنا الزحف الاخواني الوهابي الذي ينخر المجتمع من الداخل و يخرب بنيته الفكرية و العقلية لضرب مشروع الحداثة الذي اسسه رئيس تونس الأول الزعيم الحبيب بورقيبة في العمق… و يُشغله بالغيبيات و السخافات حتى يسهل السيطرة عليه .في تلك العشرية السوداء التي حكموا فيها البلاد بعد ما يسمى بالثورة. قبل ان يمجهم و يلفضهم الشارع بعدما كشف خداعهم و متاجرتهم بالدين و بعدما انفضح نهمهم و جوعهم للسلطة ونهبهم لخزينة الدولة و أموال الشعب و تهريبها الى الخارج. وولاءاتهم للخارج واستقوائهم به علينا وعلى الدولة…كل هذا جعل حتى الطبقة الشعبية التي كانوا يعولون عليها و يظنون انهم قادرون علي استغباءها في تمرير مشروعهم التخريبي للتجهيل الممنهج كرهتهم و مجتهم و انقلبت عليهم و طلعت اذكى منهم.
نتحاور و نتناقش حول مسائل و جزئيات حياتية يومية تشغلنا جميعا … بعيدا عن حديث الجرائد والشعارات و تنظير البلاطوهات و الفضائيات و الفضاء الازرق …هنا الحوار – ارض ارض – على عين الواقع .
احبّ كثيرا قضاء الربيع والصيف بتونس. بين البحر بالنهار و المهرجانات في الليل و السهر حتى الصبح في شواطئنا الجميلة سيدي بوسعيد او المرسى او قرطاج ….مع الاهل و الاصحاب ….و في الخريف و الشتاء احب باريس و التحق بابني لاقضي الشتاء هناك و ما بينهما البي دعوات ثقافية و ادبية في تونس او خارجها . اعتذر عن بعضها رغم اني احب السفر كثيرا الا انه بطول الوقت يصبح متعبا و مرهقا… ومع مشاغلي الكثيرة اصبحت انتقائية اكثر و لاترك لنفسي وقتا للكتابة ايضا . في تونس اغتنم الفرصة دائما لاقوم ببعض الانشطة و الندوات التي تخص رابطة الكاتبات التونسيات . التي اشرف عليها بمعية المكتب تنفيذي و بقية الاعضاء و التي اسّستها و بعثتها منذ سنوات عديدة .
س ) كيف ترى المبدعة حياة الرايس فعل الكتابة بصفة عامة ؟
ج ) سؤال الكتابة الذي يتردد عليّ دائما كسؤال الموت، كسؤال الوجود، كسؤال الحياة، كسؤال المصير، كسؤال الكينونة. نكتب لنكون او لا نكون بالمعنى الذي ذهب اليه شكسبير.
و نكتب تاصيلا لكيان بالمعني الذي ذهب اليه محمود المسعدي و نكتب
لان الكتابة كما الفن تؤجل قيامة العالم بالمعنى الذي ذهب اليه نيتشه.
شخصيا اكتب كوهم جميل يساعدني على البقاء و يزيّن لي الخلود.
اكتب لاعيش اكثر واجمل، لان حياة واحدة لا تكفي و لانه ليس لي أوهام حياة ثانية. اكتب كما اشتهي ان أكون لا كما تشتهيني الحياة ان أكون.
اكتب لاني لا اريد ان تُكتب قصتي بالنيابة عني
اكتب لان الحياة ظاهرة سردية كما الموت تماما.
ولاني لا استطيع ان اكتب موتي فلأكتب حياتي.
اكتب لان حياتي تتجسد أمامي اكثر حين أرويها…و ذاكرتي تثبت بالكتابة و ما لا اصوغه في كلمات و لا أدوّنه على الورق سيمحوه الزمن حتما.
.” ل
اكتب لألامس الحياة بحرف.لاني دخلت في علاقة عشق مع اللغة منذ الصغر اكتب لان الكتابة هي اغراء باللغة. و الاغراء هو ان ترى نفسك اجمل في عين الاخر و في عينك أولا .
اكتب لاراني اجمل و اعمق. لافهم نفسي و افهم الاخرين اكثر
اكتب لأشرح و لأُشرّح نفسي امامي اكثر. و كذلك افعل بالاخرين
اكتب لتصفية حسابات بيني و بيني.
اكتب لان روحي ضائعة و لا ادري اين اروح بها؟ فاسكبها و أريقها على الورق علّها تزهر أو تفوح يوما. فاراها تينع امامي و تسري في عروق الأرض و تُنبت الزرع الخصب و تسري في الكون و تسافر مع الرياح و تغني مع العصافير…
كذلك أحاول ان أعيش ابداعيا و شعريا على الأرض .
و من ناحية أخرى تحتاج الكتابة الى حالات خاصة . الى تجارب حياتية
تستغلها لصالحها .ربما لن تتكرر بحلوها و مرّها… تخرجها ابداعيا شعرا او سردا …الكتابة تحتاج الى هذه الحالات التي اتواطؤ معها أحيانا لأسكب او لأريق على الورق ما اعيشه من فيض صوفي او من عذابات الروح في حالات انكسارها او شقائها بمن تحب. لان الفرح شحيح لا يعطينا العمق الذي يعطيه الحزن و الجرح و القسوة …الكتابة بدورها قاسية لانها تحتاج كميات هائلة من الألم.
لذلك أقول دائما ان الكتابة هي عصارة ارواحنا مثل الروح المطلق الذي ينفخ في جسد النص فيعطيه روحا أخرى.
لذلك مرة أخرى: لا يستطيع النص العظيم ان يتخلّص من روح صاحبة ابدا .
و أنا في كلّ ما أكتب لا استطيع ان أدوّن جملة في أيّ نص الّا اذا شعرت أنّ روحي استقرّت بها و اتّخذتها مسكنا… لاطمئنَ ان القارئ يمكن ان يطيب مقامه بها.
إذا أردنا أن تصفح الهوية الإنسانية والإبداعية لك..ماذا لديك بشأنها ؟
الهوية الإنسانية
أمّ لولد واحد هو الدكتور اوس القروي. يدرّس علوم الكمبيور في جامعة غرونوبل الفرنسية . أعيش حاليا بين تونس و غرونوبل بفرنسا.
انا انسانة بسيطة، عفوية، تلقائية… لا احب الضوضاء و الضجيج و الغوغاء و افتعال الأشياء و الادعاء. غير استعراضية لا احب الأضواء الا ما يسلط منها على اعماقنا لا على مظاهرنا. أرى ان النفاق و الكذب جبن عن الاصداع بالحقيقة. اكره المزيفين و المنافقين… وابيع عمري من اجل لحضة صدق إنسانية. احب الناس الحقيقيين العفويين التلقائيين…
صامتة، منصتة لأصوات الطبيعة و حوار أشجار حديقتي معي، التي أتكلم معها اكثر مما أتكلم مع البشر…و التي تحتل جزء كبيرا من حياتي بكائناتها المتنوعة و المختلفة . هادئة، الا من هديرو صخب و عنف الكتابة الداخلي التي تعتمل في نفسي دون توقف. ساكنة، أعيش في شبه عزلة بسبب الكتابة و بسبب طبعي المزاجي. في احدى ضواحي تونس الشبه ريفية (ضاحية منوبة ) لاتمتع بالهواء النقي و الصفاء الطبيعي بعيدا و هروبا من المدن الملوثة و المزيّفة . أعيش بها صيفا. احبّ الصيف و البحر في تونس و لا استبدله و لا أقايضه بأي مدينة أخرى. و في الشتاء انتقل الى بيتنا في مدينة غرونوبل الفرنسية بحكم تدريس ابني في جامعتها العريقة. هي أيضا مدينة هادئة و نظيفة غير صاخبة.
انسانة مسالمة جدا لا ارد حتى على من يؤذيني. ادير ظهري بهدوء و اتركه لضميره، من اجل سلمي الداخلي .
واتجاوز بالكتابة و الابداع كثيرا من تفاهات الحياة و سخافاتها كنوع من السمو الروحي و التصعيد اعلو به عن دسائس و مكائد البشر…
صبورة،على قسوة الحياة في بعض وجوهها. قنوعة بما اعطتني ايّاه.غافرة لها ما لم تعطني ايّاه. اعوّل على نفسي اكثر مما اعوّل على عطاءاتها. ما اقدر عليه لا اتركه لها. أحيانا تنتصر عليّ و أحيانا انتصر عليها. و هكذا نحن في لعبة تواطؤ اخاتلها و تخاتلني…
أعيش بقلب طفلة و اجدني ساذجة في كثير من الأحيان سذاجة لا اريد ان افقدها لانها تنقذني من كثير من تعقيدات الحياة. و ارد بها على من يصدع راسي بتفاهات فارغة.
امقت المزايدة و استعراض المظاهر و نفش الريش و التكبّر…لي شجاعة الاعتراف باخطائي و تداركها.
امراة مرحة احب الرقص و الغناء و الطرب و اكره العبوس و التجهم حتى في احلك حالاتنا.
أعيش بروح امراة شرقية متصالحة مع قيم الحداثة والمعاصرة.
و هذا يذكرني بما قالته في شخصي المتواضع احدى الصديقات وربما عبرت عنه احسن مني الشاعرة ” سيّدة عشتاربن علي” أورده كما هو:
“… عرفت حياة عن قرب ..طفلة مرحة وتلقائيىة في هيئة امرأة مشرقة وانيقة ..تحرص على ان لا تجرح غيرها وان حصل واخطأت تبادر الى الاعتذار قولا وفعلا …لا تزايد على مبادئها حتى لو كان ذلك ضد مصلحتها الخاصة ..ذكية رغم سذاجتها الطفولية في احيان كثيرة وهي سذاجة حسب اعتقادي سمة غالبة على المبدعين بحق، لان لا وقت لديهم ولا طول بال لحياكة الدسائس والمآمرات وخبث الذئاب لا قدرة لهم عليه ..أحبك واحترمك حياة الرايس.”
.
س ) تعيشين بين تونس و فرنسا كيف استفدت من هذه التجربة ثقافيا و حياتيا ؟
طوال عمري اعيش بقلبي وروحي في باريس منذ ان اكتشفتها مبكرا حتى لو كنت بعيدة عنها جميلة الجميلات و اجمل مدن الدنيا .
اما بالنسبة لفرنسا عموما :
في السنوات الاخيرة صرت اعيش فيها مع ابني الدكتور اوس الذي درس بها و اصبح يُدرّس في اعرق جامعاتها بغرونوبل و قبلها تنقلنا في بعض مدن فرنسا
عشنا 4 سنوات بمدينة ” لافال ” عاصمة اقليم لامايان بالشمال الغربي الفرنسي على مشارف النورموندي و بلاد لالوار .و هي مدينة هادئة جدا نظيفة جدا قليلة الجاليات العربية و الافريقية موطن الارستقراطية الفرنسية و منتجع ملوك فرنسا سابقا و لازالت قصورهم شاهدة عليهم الى الان. كما القلعة الكبيرة والمعالم الاثرية و الجسور و الكنائس القديمة التي تعود الى القرون الوسطى .منطقة خضراء كلها انهار و حدائق تتفرع من نهر ” لامايان” الكبير الذي يفيض عليها خضرة و خصوبة …
كانت منتجعا رائعا للكتابة بعيدا عن ضوضاء باريس و العواصم المزدحمة الاخرى خاصة اني لا اعرف بها احدا و لا يعرفني احد .و هذا أروع ما تنشده الكتابة. خاصة كتابة الذاكرة و من المفارقات انني كتبت روايتي عن بغداد و التي هي سيرة ذاتية لمذكراتي الجامعية في بغداد في مدينة “لافال ” في مدة ثلاث سنوات. و لازلت اعتذر لها ، حتى اكتب نصا خاصا بها في كتابي القادم ادب الرحلات. و لكني تعرفت الى الحياة الثقافية بها و الناس هناك لازالت عندهم تقاليد الذهاب الى السنيما و المسرح بافواج غفيرة و في المدينة هناك جامعات مفتوحة حرّة تعطي دروسا يومية في الفن التشكيلي و الادب و المسرح و الموسيقى على اعلى مستوى يوميا. واضبت عليها و صرت من روادها حتى صرت اساهم في حصص الادب بالتعريف بادبنا العربي و انطلقت من تونس و اثريت مكتبتها ببعض الكتب التونسية المترجمة او المكتوبة باللغة الفرنسية مباشرة …
و الان عدنا هذه السنة الى باريس التي اعشق رغم كل شيء و رغم انها تغيرت و لم تعد مثل قبل و لكنها تظل باريس الساحرة .
كما كنت اشارك في نشاط المعهد العربي بباريس و قد قمت مؤخرا بمداخلة حول الشاعر الاردني ابراهيم نصر الله بمناسبة احتفائية المعهد بفوزه بالبوكر العربي في نطاق كرسيّ المعهد الذي استحدث مؤخرا . و كنت اسعى دائما الى ربط نوع من التعاون الثقافي او الشراكة مع بعض المؤسسات الثقافية العربية او الفرنسية مثل دار تونس بالمدينة الجامعية و دار المغرب بباريس …و رابطة الكاتبات التونسيات .
تعيشين متنقلة ما بين تونس وباريس و مدن فرنسية أخرى .. حيث تطل شرفة منزلك بمدينة ” لافال ” على نهر ” لامايان” …قد يعتبر البعض الأمر نوعا من الرفاهية ويتساءل مستنكرا كيف تشعرين بمعاناة مجتمعك؟
ليتني استطيع ان أدير ظهري إلى كلّ ذلك. فانا لا استطيع حتى أن انعم بكل مظاهر الرفاه: أينما وليت وجهي أرى بلدي. في مفارقات و مقارنات موجعة لا تنتهي…
أرى الفرق واضحا وفاضحا وجارحا، كل يوم بيننا و بينهم. و هذا يعمق جرحا حضاريا وتاريخيا، كبيرا ما ينفك يتسع و يغور عميقا في النفس و في العقل: لماذا تقدموا و لماذا تأخرنا؟ أراه في كل جزئيات الحياة و في كل خطوة أخطوها …
و قد لا انعم بما تفضلت بل أتألم كثيرا للفارق المهول. نعم أعيش بين تونس و باريس و بعدها مدينتي Laval و grenoble الفرنسيتين و احمد الله على ما تسميه رفاهية. المسالة مرتبطة بالإحساس و ليست بالرفاهية.أنا امرأة احمل قضايا عصري و مجتمعي و لا اعرف كيف أكون حيادية في باريس أمام ما يحصل في تونس مثلا من أزمات سقطت فيها البلاد بعد ما يسمونه الربيع العربي. هذه مسائل تتعلق بالانتماء و المواطنة و الوفاء لبلدك و مدى وطنيتك و مسؤوليتك الأدبية تجاهه. و الكتابة مسؤولية تغيير وإصلاح المجتمعات بما نستطيع اليه سبيلا. نحن نحفر في الوعي المجتمعي لنرتقي به و ننير العقول بنور المعرفة. وتطوير العقليات هو اصعب من بناء العمارات، و رفع الجهل كأكبر فجوة يتسلل منها العدو. من خلال كتاباتي أو العمل الجمعياتي…
س ) في روايتك بغداد تعودين الى تجربة اقامتك في العراق و تنهلين من منبع الذكريات قبل ثلاثين عاما هل هو الحنين ام الفقد ام ماذا؟
ج )
ايقونة المدن لن تسقط ابدا
لعلّه خواء الراهن.نعم افتقد بغداد التي عرفتها و عشتها: بغداد أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات. فترة من اجمل الفترات. فترة يتحسر عليها العراقيون الى الان و من عرف بغداد و عاش بها تلك السنوات. عدت الى فترة انمحت من الوجود و لن تعود ابدا و لم تبق الا في ذاكرة الكتب التي تروي ذلك التاريخ الذي كان. كل أجيال التسعينيات و ما بعدها لن يعرفوا ما كانت عليه مدنهم الا من الكتابات التي وثقت ماضيهم.
أنا اردت تهريب بغداد من اللصوص و الغزاة… لتبقى في ذاكرتنا و في وجداننا في كتبنا في احرفنا و في اعيننا: ايقونة المدن لن تسقط ابدا.
ما الخصوصية التي يحملها العراق في مجمل تجربتك حيث تستلهمين الرموز البابلية و السومريةفي اعمالك؟
لا يمكن ان يدخل الانسان الكاتب الى ارض العراق و يخرج خاويا فما بالك بمن عاش بها و نهل من تراثها.
عندما اخترت ان اذهب للدراسة كانت عندي نيّة مبيّتة: ان ينطلق مشروعي الادبي من ارض شهرزاد: رمز سلطة الكلمة، لمواصلة الحكاية. و بلد عشتار الالهة الانثى و بلد جاجامش في رحلة البحث عن عشبة الخلود.من بلد الحضارات العريقة :حضارة بابل و سومر و اشور لاستلهم منها … اردت ان ينطلق مشروعي الادبي من بيت الحكمة و من مطابع شارع المتنبي .
و قبل رواية ” بغداد و قد انتصف الليل فيها ” كتبت مسرحية بعنوان :” سيّدة الاسرار عشتار” مستمدة من ميثولوجيا الشرق القديم من اسطورة سومر العريقة حيث كانت الانثى هي السلطة، صدرت سنة 2003 ووصلت الى طبعتها الثامنة الان و اخذت جائزة احسن نص مسرحي لكاتبات المتوسط من مكتبة اسكندرية في ملتقى المسرح سنة 2010 و ترجمت الى اللغة الإنجليزية و الفرنسية و مازالت مطلوبة.
س) حياة الرايس الروائية اين انت من الشعر ؟
ج )
بين سرّ اللغة وسرّ الوجود يأتي الشعر :
يأتي الشعر عندما نرى الكون بعين القلب ونفهم لغة الطير و نصغي للصخر و نرهف السمع لرصد تلك الومضات و النفحات و الجزيئات النورانية المبثوثة في تجليات الكون و نحولها الى كلمات ذات موسيقى ساحرة و إيقاع داخلي يمسّ كيان الانسان من الداخل ليسري في جسد النص
اذا وقع ذلك منك في قلب الاخر (القارئ ) فانت قد نقلت اليه نبض الكون.
الشعر طقس عام في مناخاتي السردية كلها من قصة و رواية و مسرحية و حتى المقالات و الدراسات… هو أسلوب كتابة كامتداد لأسلوب عيشي. أنا امراة تحاول ان تعيش شعريا و ابداعيا و سرديا على الأرض.
الشعر ان تكون حواسك كلها في حالة يقضة لالتقاط ابسط الجزئيات و أدق التفاصيل من حولك التي لا يراها اغلب الناس في دوامة الركض اليومي وراء عربات الموت… ان تلتقط هذه التفاصيل و ان تبث فيها روحا هي بعض روحك و تصنع منها الحدث و الفرح و السرد و القصيدة …و ليست الرواية غير نسيج التفاصيل التي تؤثث الاحداث و تكسو الشخصيات…
و هنا يحضرني قول الناقد العراقي عذاب الركابي في سياق حديثه عن تجربتي بين الشعر و النثر يقول :”
“”سرقت إيقاع القصيدة ، وخيال النثر “”. تهمة جميلة، اعتز بها فذلك اقصى ما انشده في نصي الإبداعي سواء كان نثرا او شعرا او سردا ….لا حدود عندي بين الإيقاع و الموسيقى الداخلية للنص و بين المخيال الذي يصدح و يتغني بكل ذلك او على إيقاع كل ذلك
و الشعر عموما ليس في القصيدة و لكن في الكون كما قلت و علينا اقتناص ومضاته ونفحاته لنطرز بها إيقاع حياتنا فتصيب إيقاعَ نصنا كامتداد طبيعي لاسلوب حياتنا و شخصيتنا.
و انا لا يهمني ان كانت دور النشر مازالت تحتفي بالشعر ام انها دونه الأبواب قد اوصدت؟و ان كان عطره قد اريق على عتبات المؤسسات؟ انا الذي يهمني هو عطره الذي يسكنني و تتبدد روحي اذا فارقني لذلك احافظ عليه نديّا حيا دافئا حنونا مختبئا في ذاتي \ في ذات النص في جسدي \في جسد النص…
النص الجيد يفرض نفسه شعرا ام نثرا.
لم ابدا بالشعر كديوان مستقل بذاته. الشعر عندي مبثوث في كامل نصوصي في السرد و في النثر.
اذكر اني لما كنت اقرا قصص بداياتي في منتدى القصاصين باتحاد الكتاب التونسيين في ثمانينيات القرن الماضي ، امام كبار النقاد كان الناقد الكبير رحمه الله ” أبو زيّان السعدي ” يقول:” لولا التمكنّ من أدوات القص لسميتها قصائد ”
! كنت على يقين ان الشعر ليس في النظم و انما في كامل النص أيا كان نوعه و ايماني الأكبر ان الشعر موجود في الكون و علينا ان نعيش شعريا و ابداعيا على الأرض و كل الشعر سياتي طوعا الى النص.
×× بغداد وقد انتصف الليل فيها…”.هل كانت هذه العبارة أم صداها في نفس الكاتبة مدعاة لكتابة الرواية؟
و الله تلك عبارة لا يمكن ان انساها ابدا ترسخت في الذاكرة ليلة وصولنا بالذات . و تخمرت عشرات السنين و لم تسقط من ذاكرني كوني دخلت بلد الجاحظ و المتنبي عن طريق اللغة :” من قال اني اهاجر من بلد الى بلد لست اقيم سوى في اللغة ..
روايتك، بغداد وقد انتصف الليل فيها، هى سيرة ذاتية لك، ماذا أردت من كتاباتها؟ أليست كل كتابات الكاتب تحتوى بالضرورة على مقتطفات من سيرته ومشاهداته وسمعياته؟
ج ) هناك عهد و ميثاق في كتابة السيرة نص عليه الناقد و المنظر الفرنسي لفن السيرة Phillipe le jeune قال يجب التنصيص في مقدمة الكتاب على انه سيرة ذاتية واقعية. انا التزمت به في بدايتي الطبعة الأولى من سيرتي الروائية.
ثم هو فيما بعد غير موقفه .
اما ان كل كتابات الكاتب تحتوي بالضرورة على سيرة حياته فذاك موضوع آخر نستنتجه نحن من كتاباته .و بين الاستنتاج و الإقرار هناك فرق.
* ما الكتاب الأول بقراءاتك الذى جعلك بحالة شغف للقراءة وبعدها للكتابة
ج )
انا ادين للأديبة السورية في مغامرة الكتابة “غادة السمان”. كانت مدرستي الأولى اعتقد. تأثرت بها كثيرا تعلمت منها روح التمرد و الثورة على كل التقاليد الزائفة وكشف النفاق الاجتماعي و قول المسكوت عنه و الممنوع …تعلمت منها اناقة اللغة وشعريّة و رومانسية المفردة …
ثم تاثرت بثورة نوال السعدواي كثيرا و قبلها بزعيمة الحركات النسوية الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار و الحقوقية المناضلة الكاتبة جيزيل حليمي المدافعة عن حقوق الشعوب المسعبدة و المستعمرة أينما كانوا التي ساندت قضية الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي و هي من اصل تونسي من يهود تونس تحمل الجنسية الفرنسية ترجمت لها كتابها ّحليب البرتقال ” عبارة عن سيرة ذاتية.
تاثرت ب”مارغوريت دورا” و دوريس ليسينغ ”
تاثرت كثيرا بادباء أمريكا الاتينية ” خوليو كورتزار تعلمت منه خاصة كتابة القصة القصيرة.بنيدتيو استورياس و ايزابيل اللندي و ماركيز طبعا …
شدتني مدارس أمريكا الاتينية الأدبية بواقعيتها السحرية و الغرائبية و قد كنت ابحث عن ذلك كنوع من التميز عن القصة الكلاسيكية . التي نهلت منها منذ صغري أيضا مثل الكلاسيكيين الروس و الادباء العرب :
افخر اني الحفيدة الروحية لابن خلدون ومحمود المسعدي والمتنبّي والمعرّي وأفلاطون وفيكتور هيغو وموليار وفولتير وروسو وكورناي وراسين وغيرهم… ممن أصبحوا هم عالمي وعائلتي وملاذي.و الادب ليس له جنسية … ولا يسعني المجال ان اعدد لك بكلّ من تاثرت. انا الحقيقة تاثرت بكل من قرات بعمق. سواء في وعيي او لا وعيي.
* لو عاد بك الزمن، ما الجيل الذى كنت تودين التواجد به ؟ ولماذا
جيل الوجوديين في خمسينات القرن الماضي و قبلهم السرياليين
انا كنت اريد الدراسة في باريس كمغامرة وجودية في اقتفاء اثار الوجوديين الذين كنا مبهورين،متاثرين بهم منذ الثانوية العامة أمثال سارتر (قبل ان ينقلب علينا ) و سيمون دو بوفوار… و لاضع الذات امام مسؤولياتها في التحرر و اكتمال الذات كامتحان كبير في الحياة في مغامرة الوجود الذي يسبق الماهية .كنت اريد إعادة خلق نفسي و صياغتها من جديد بعيدا عن القدر المسبق الذي رسم لها .
فاذا بعنقي يلوى نحو الشرق الى بغداد لاجد نفسي امام تجربة وجودية من نوع اخر وجدتني اقتفي اثار جلجامش في البحث عن عشبة الخلود في سرديات الالواح السومرية… هناك اعادت تكويني شهرزاد الحكاية لتعلمني ان الخلود في النص
و ان الموت وحده من يعطيك حقيقتك ان كنت خالد ام لا.ان كنت قد عشت فعلا؟ ان كنت قد مررت من هنا ؟
و حكايتي مع باريس قديمة تعود الى طفولتي و صغري .
س ) كتبت السيرة الذاتية في”بغداد وقد انتصف الليل فيها” ولكنك كنت كأنك واحدة من الأبطال والاحداث هل تركيزك على المكان وأهله كان متعمدا ولماذا ؟
ج ) روايتي ” بغداد و قد انتصف الليل فيها ” هي رواية سيرية و طبيعي ان أكون الشخصية الرئيسة لكنها في ذات الوقت هي سيرتي و سيرة اشخاص عاصرتهم و عايشتهم مثل الروائي الكبير جبرا إبراهيم جبرا الذي خصصت له فصلا كاملا و كذلك فعلت مع الدكتور عبد الرحمان منيف و ” سقراط بغداد ” استاذي في الفلسفة مدني صالح … كل هؤلاء كانوا ابطالا في روايتي و هي سيرة مكان أيضا بين تونس و بغداد و باريس أعطيت البطولة فيها للمكان و حتى الزمان ليكون شاهدا على مرحلة تاريخية من حياة العراق للأجيال
و هي تستمد أهميتها كما قال احد النقاد العراقيين من توثيقها لزمن و مكان انمحيا من الوجود و لم يبقيا الا بين أوراق الكتب التي تروي ذلك الوجود الذي كان. كل أجيال التسعينات و ما بعدها لن يعرفوا ما كانت عليه مدنهم الا من الكتابات التي وثقت ماضيهم.
. انا رحت للدراسة في بغداد في بعثة حكومية رسمية يعني بلدي بعثتني و هي اول بعثة طلابية من نوعها بعد فتح العلاقات بين تونس و العراق التي كانت مقطوعة بسبب حزب البعث . كانت بعثتنا لتعزيز اواصر التعاون والصداقة بين البلدين ؟ و كنت اتمتع بمنحة و تذكرة سفر سنوية ذهاب و اياب من وزارة التعليم العالي التونسية . فلم اكن محتاجة الى منحة عراقية. كما تكفل ابواي بتمويل دراستي رحمهما الله .
س )
تدافعين عن قضايا المرأة، كيف ترين وضعية المرأة بعالمنا العربى، وهل هناك بون شاسع بين المرأة عربيا وعالميا، وكيف نسد هذه الفجوات؟
* هل انت مع تصنيف الكتابة إلى كتابة ذكورية ونسائية؟
س هل تخضع الكتابة لجنس صاحبها ؟ وهل تصنيفك ضمن الكاتبات النسويات يرضيك ام يضع لك حدودا ؟
ج) انا لا يزعجني ابدا ان اصنف ككاتبة نسوية بل بالعكس هذا يضعني في صلب القضية و لا يوجد كاتب حقيقي ليس له قضية
لكنها لا تضع لي حدودا كونها ليست قضيتي الوحيدة . طرحت قضايا وجودية فلسفية في قصة ” عزرائيل و الكاتب ” ضمن مجموعتي القصصية الأولى ” ليت هندا ” و قضايا اجتماعية أخرى كون قضية المراة عندي ليست معزولة عن قضية المجتمع عن قضية الرجل نشترك في بعض المسائل مع بعض الخصوصيات
و الكتابة لا تخضع بالضرورة لجنس الكاتب و الدليل على ذلك ان المراة تعالج قضايا الرجل و تكتب عنه و العكس صحيح و قد يكتب الرجل عن المراة احسن مما تكتب عن نفسها و العكس صحيح. الكتابة لا تتلبّس جنس صاحبها و تتشبث بتلابيبه مخافة ان يغادرها الى جنس اخر .بل قوة الكاتب عندما يتلبّس شخصيات غير شخصيته و ليست من نوعه و لا تشبهه.
لكن انا كتبت كثيرا عن الرجل و مجموعتي ” ليت هندا …” كل ابطال قصصها رجال و كذلك ” عناويني ” انا و فرنسوا …و جسدي المبعثر على العتبة ” و طقوس سرية … و جحيم ” و غيرها… انا اكتب عن الرجل و لكن لا احب ان اكتب مثل الرجل اؤمن بالخصوصيات و اجد اريحية كبيرة ان اكتب بكامل انوثتي و احب ان يشم القارئ عطر الانثى في كتاباتي لكن بخطابي الخاص الذي ينبع من مشاكلي الخاصة و نصي الذي لا يشبه أي نص اخر لا رجلا و لا امراة . اقصد التفرد و التميز مطلوب بالنسبة للمراة او الرجل نحن نلتقي و لكن لا نشبه
Discussion about this post