سرطان خبيث
بقلم:ماهر اللطيف
استفحلت ظاهرة الهجرة غير النظامية في العالم العربي عامة وفي شمال أفريقيا خاصة من كافة أصقاع القارة ومن كل الأجناس والفئات الطبقات الاجتماعية.
فباتت سواحل هذه البلدان منطلقا لركوب البحار ومقارعة أمواجها وتحدي صعابها للوصول إلى الضفة الأخرى ضفة الخضارة والتقدم والازدهار والحرية وغيرها من الشعارات التي يطلقها “المهاجرون” على بلدان الغرب.
غير أن هذه الظاهرة أودت بحياة الكثير من “المغامرين” ففقد البعض لأشهر وأشهر و حتى سنوات ولم يعثر على آثارهم إلى اليوم، وكان البعض الآخر طعما ووجبات شهية للحيتان والأسماك، فيما لفظ البحر مئات الجثث في شواطئ هذه السواحل وغيرها بعد مدة، وقبض على البعض الآخر فسجن في سجون “الغرب” قبل أن يتم ترحيله من جديد نحو وطنه الأم ليجد نفسه في نقطة البداية.
وهذا لا يعني البتة أن لا أحد استطاع الوصول إلى هدفه أو تحقيق نزر من “المقامرين بحياتهم” لأحلامهم وأهدافهم، فقد رست “سفن و قوارب الموت” بالمئات والآلاف منهم أيضا بعد أن دفعوا أموالا طائلة من أجل ذلك…
وصادف أن تابعت نشرة الأخبار ليلة من الليالي مع عائلتي وكان خبر انتشال جثث العديد من المهاجرين غير النظاميين يترأس النشرة إلى جانب حسرة الأهالي ولوعتهم وحرقتهم على أبنائهم – الموتى والمفقودين – ودعوتهم لهياكل الدولة للوقوف إلى جانبهم وإعانتهم على حل ما علق بأبنائهم من غموض ومصاعب عدة…. ،فاستغفرت الله كالعادة باسترسال وقلت بصوت عال” يجتهدون من أجل توفير تكلفة سفرة أبنائهم في قوارب الموت هذه، فيبيعون ما يبيعون ويرهنون ما يرهنون ويقترضون الأموال ويتحايلون و يقومون بكل شيء من أجل تأمين تلك السفرة، ثم يبكون ويطالبون الدولة بالتدخل و إنقاذ فلذات أكبادهم ما إن يبتلعهم البحر أو يقع لهم مكروه فيه – وما أكثر هذه الأحداث في أعماق البحار منها الطبيعية ومنها المصطنعة بكل تأكيد – فيثورون ويتظاهرون ويضربون ويسبون البلاد والعباد ويسمون قادة الوطن بالتهاون والتقصير وغيرها من السمات…”
و مازلت كذلك حتى تدخل ابني البكر – وهو متحصل على أعلى الشهائد الجامعية هنا وعاطل عن العمل منذ أكثر من خمس سنوات متتالية – بصوت مرتفع بعد أن اغتاظ ولم يستسغ ما سمعه مني:
– وهل تعلم ما الذي جعلهم يضحون بأبنائهم و يشجعونهم على ركوب البحر؟ هل تعلم أن تعيش الاغتراب وانت وَسَط أهلك وذويك وعلى أرضك التي خرجت من رحمها وستدفن تحتها يوما ما؟ هل تعلم ما الذي يشعر به هؤلاء الناس وهم ينظرون إلى أحلامهم تندثر وتتلاشي بعد أن تلاعبت بهم السِّنُون والأقدار ونهلوا من المعرفة ما نهلوا وصرفوا أموالا طائلة طيلة مسيرتهم ليجدوا أنفسهم “أصناما” محنطة لا تنفع ولا دور لها في هذا المجتمع غير الاستهلاك والموت البطيء يوما بعد يوم؟
– (أنا مقاطعا ومبتسما في وجه ابني ومهدئا من روعه كي لا يفكر في الموضوع ويتشجع لإنجازه يوما ما) مهما كانت الأسباب والظروف بني فإن هذا الحل غير مناسب بطبيعة الحال، فهذا” المتحدي” يشتري الموت بنقوده وهو يعلم أن الموت أقرب له من الوصول إلى الضفة الأخرى وهو يركب خشبات الهلاك هذه
– (ابني مقاطعا بشدة) هو مَيِّت بطبعه سواء أ ركب هذه القوارب أو لم يركبها، فلماذا لا يحاول عساه أن يتحدى واقعه المرير ويغيره، فأقسي ما يمكن أن يحدث له هو الموت، وهو مَيِّت قبل ذلك أبي، فما الجديد في ذلك؟
– (وقد خفت وارتجف جسدي وشعرت بتزايد دقات قلبي) لا تفكر هكذا بني، استغفر الله وعد إلى الجادة وتذكر أن “بعد العسر يسرا” وأن “حب الوطن من الإيمان” – وأردفت ذلك بوابل من الشواهد الدينية الأدبية وغيرها وهو يتأفف ويقوم بحركات وإشارات تدل على عدم تقبله واقتناعه بما يسمع -. نمر بفترة صعبة في هذا الوطن وهذا أمر صحيح بني على جميع الأصعدة، لكن الأمر عالمي ومنتشر في كافة البلدان تقريبا وإن كان بنسب متفاوتة، ومن المفروض أن أبناء كل وطن يشمرون على سواعدهم ويتوكلون على الله ويعملون ويجتهدون من أجل النهوض بهذا الوطن كل من موقعه وقدرته وإن لم يعمل وفق شهائده ومؤهلاته في هذه الفترة الشحيحة التي يمكننا تغييرها درجة درجة متى اتحدنا وعزمنا على ذلك….
و واصلنا النقاش والحوار بمشاركة بقية أفراد الأسرة وابني يدافع عن ضرورة هجر هذا البلد الذي لا يولي شبابه المكانة التي يستحقها ولا يعتني به ويوفر له الظروف الملائمة ليفجر من خلالها طاقاته وقدراته وينهض به في النهاية، إلى أن شرع في التنازل عن هذه الفكرة رويدا رويدا مع تتالي النقاشات والحوارات والمناسبات التي سنحت لنا للتطرق إلى هذا الموضوع المهم إلى أن بات مدافعا شرسا على هذا الوطن وأبنائه وضرورة الاعتزاز به والعمل من أجل الارتقاء به والتفكير الجدي في سبل وطرق تنميته وتطويره ليقارع بقية الدول التي اعتادت على التطور والنمو بفضل طاقات وعقول وسواعد بلداننا في جزء مما تحققه على جميع الأصعدة سواء عن طريق الهجرة النظامية أو غير النظامية.
Discussion about this post