في مثل هذا اليوم27 مايو 1840م..
عقد «اجتماع دير القمر السري» والذي كان بداية الثورة الشامية ضد إبراهيم باشا والتي انتهت بطرده من بلاد الشام بعد تدخل عسكري عثماني مدعوم من بريطانيا.
دخل إبراهيم باشا الشام دون أي مقاومة تذكر، ورُحب به كفاتح في غزة ويافا وحيفا، وكان جند عبد الله باشا إما ينسحبون إلى عكا أو ينضمون للجيش المصري. كذلك فإن نابلس و القدس وقبائل النقب قد بعثت إلى إبراهيم باشا مبينة استعدادها القتال في صفه. وعند عكا طال الحصار لأشهر، لكنه في النهاية ملكها، ولم يُستثر الشعب ضد إبراهيم باشا رغم فتاوى شيخ الإسلام التي طالب بها محمد علي الانسحاب من سوريا والسكان لمقاومته لضمان أمن قافلة الحج.
تم فتح عكا بعد حصار طويل في مايو1832، وكانت الدولة قد عينت علي باشا واليًا على سوريا خلفًا لسليم باشا، لكن الشعب استقبله بتجهم ورغب بقدوم إبراهيم باشا كمنقذ، وكذك الحال في حلب، أما طرابلس فإن واليها السابق مصطفى بربر هو بنفسه من قاد فيالق المصريين للسيطرة عليها، وفي ربيع 1832 كلف محمود الثاني حسين آغا باشا ولاية سوريا ومنحه لقب عسكردار وكلفه القضاء على الجيش المصري، كان الجيش العسكردار قوامه ثلاثون ألف مقاتل و160 مدفع ومعه أسطول بقيادة خليل باشا إلى جانب جيش غير نظامي من عشرة آلاف نفر تحت قيادة عثمان باشا قرب حمص، كان إبراهيم باشا قد استولى على بعلبك التابعة لولاية دمشق، ومنها هبط نحو حمص والتقى الطرفان في 16 مايو 1832، وكان النصر بنتيجة المعركة في طرف إبراهيم باشا، الذي استتبع نصره بدخول دمشق يوم 13 يونيو 1832.
حين استولى إبراهيم باشا على دمشق، مثل أمامه وفد من سكان حلب ليطلب منه السيطرة على مدينتهم، وعندما أدرك السردار أكرم باشا المعيّن من قبل السلطان قائدًا للجيش العثماني الرسمي في سوريا، تململ المدينة بحزبيها الأميرية والينيشارية من الولاة العثمانين، سحب الجيش الذي أرسله محمود الثاني تحصن في لواء إسكندرون، وفي 29 يوليو 1832 التقى الجيشان في بيلان قرب أنطاكية، وكُسر الجيش العثماني وفتحت بالتالي أبواب كيليكيا والأناضول أمام إبراهيم باشا، بعث السلطان بجيش جديد ضخم بقيادة الصدر الأعظم لكن إبراهيم تمكن من هزيمته يوم 29 ديسمبر 1832 في قونية، وبذلك غدت الآستانة بحد ذاتها عرضة لخطر محمد علي؛ جرت مخابرات بين الدول الأوروبية ورسا الأسطول الروسي في الآستانة وانتهى الأمر بتوقيع على اتفاقية كوتاهية في 4 مايو 1833.
كان حكم إبراهيم باشا إصلاحيًا للغاية، وحد الضرائب على الشعب ومنع الإقطاع من فرض ضرائب إضافية خاصة بهم، وألغى التقييدات المُذلة بالملبس والمسكن عن المسيحيين واليهود، وسمح ببناء الكنائس وترميم القديم منها، وألغى الضرائب القاسية على كنيسة القيامة التي وصلت في السابق حدًا أخذت معه الرهبنات المشرفة على الكنيسة بيع أملاكها لسداده، وأجرى نظامًا مركزيًا للإدارة في البلاد وعيّن شريف باشا حاكمًا مدنيًا مقابل كون إبراهيم باشا حاكمًا عسكريًا، وتبع جميع الولاة ومديرو المناطق مباشرة لسلطة الحاكم المدني، وأنشأ في المدن مجالس محلية من سكانها لإدارة شؤون الأحياء، فكانت تلك المرة الأولى التي حكم بها الشعب نفسه في العصر الحديث. وله العديد من الإنجازات الاقتصادية من توطين البدو حول حلب ودمشق وإشغالهم بالزراعة، وارتفاع عدد أنوال الحرير والعناية بالقطن وتصديره وإنشاء محاكم تجارية خاصة، وإصلاح نظام الضرائب محددًا إياها بضريبة واحدة فقط بدلاً من مجموعة ضرائب، وقد بلغت 500 قرشًا للأغنياء وتنخفض لتصل إلى 15 قرشًا لأشد الناس فقرًا، وكذلك فقد ألغى الجزية، وأجرى أول إحصاء سكاني في البلاد السوريّة. وعادت البلاد بفضل هذه الإصلاحات مركز أوروبا الأساسي لاستيراد الأقمشة على اختلافها، وقد شجع عمليات التصدير بإلغاء الجمارك بين الولايات، وأراد جر مياه نهر العاصي إلى حلب، ولما لاحظ وفرة الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستثمرة، أعفى من يستثمرها من الضرائب لتسع سنوات، فأخذت غوطة دمشق وريف حمص وحلب وأنطاكية من جديد تزخر بالأراضي الزراعية، وقد “دهش السكان” الذين لم يعتادوا من جند الولاية سوى العُسف عند جمع الضرائب وهم يرون أربع كتائب من جند الباشا تطارد أسراب الجراد الذي غزا حمص وحماة، ومن ثم عين مكافأة مالية للسكان عن كل كيلوغرام جراد مقتول. كذلك فقد اهتم إبراهيم بتربية الجياد، وقد أسس ما يشبه شركات المساهمة بين البدو والحكومة بحيث أنفق على تربيتها والعناية بها مبالغ كبيرة. من جهة أخرى، يعتبر تأسيس البريد والاتصالات بين المدن وتأمين القوافل بين القرى والشعاب الجبلية دون الحاجة إلى تسليح القوافل من أهم مستحداث الحكم المصري في سوريا.
رغم هذه الإصلاحات العديدة، فإن ما أثار تذمر الشعب كان سياسة التجنيد الإجباري، إذ كانت بلاد الشام قبلاً مرتعًا للفلاحين المصريين الهاربين من هذه السياسة والذين نقلوا بؤس حالة الجند في الجيش داخل مصر، وعندما أخذ إبراهيم باشا في تطبيقها على المدن السورية شاملاً جميع الرجال بين 16 و60 عامًا لفترة أقلها خمس سنوات قابلة للتمديد رفض الشعب، وثارت نابلس والخليل والقدس عام 1834، وثارت بعلبك واللاذقية وبشري عام 1834، ودرعا عام 1837 “بسبب إهانة كبير عشائر حوران من قبل مندوبي الباشا بعد أن طلب إعفاء أبناء حوران من الجندية نظرًا لأهمية سواعدهم في حصاد القمح”، ولم يتمكن جيش إبراهيم باشا من إخضاع درعا ولم يعد من كتيبة قوامها 4000 جندي سوى 40 جنديًا في حين قتل الحورانيون الباقي، ولم تقمع ثورة درعا إلا بعد تسميم المياه التي كانت تشرب منها. يقول قسطنطين بازيلي الذي عاصر تلك الفترة:
سوريا العثمانية بعث الحكم المصري بهذا (التجنيد الإجباري) أشد رعب في الشعب، وأعظم كراهية، إزاء كل الإصلاحات والتي كانت مؤاتية للمنطقة من نواح كثيرة، إلا أن ثمنها كان يدفع ضريبة دم مرهقة جدًا ومطلقة. سوريا العثمانية
بلغ عدد الفارين من هذه السياسة نحو مائة ألف سوري نحو العراق وشبه الجزيرة العربية وبادية الشام حيث مضارب البدو وقبرص والأناضول ولإيقاف هذا النزيف أصدر الباشا قرارًا بتحمل سكان الحي أو القرية ضرائب الفارين منهم، هذا ما أدى إلى ارتفاع الضرائب بمعدلات عالية للغاية، أدت إلى زيادة الحنق الشعبي على الحكم المصري.
إنهاء الحكم المصري وفترة الفوضى اللاحقة:
لم تتوقف المفاوضات بين محمد علي باشا والسلطان محمود الثاني طوال فترة سيطرة المصريين على بلاد الشام، غير أنها بالمجمل فشلت، وفي اجتماع فوق العادة يوم 7 يونيو 1839 قرر السلطان شن الحرب على تابعه الذي اعتبر متمردًا، ولكن محمود توفي يوم 19 يونيو 1839 قبل أن يعلم أن الجيش الذي أرسله بقيادة حافظ باشا قد هُزم في معركة نزيب، واعتلى العرش ابنه عبد المجيد الأول وله من العمر سبعة عشر عامًا فقط.
كانت أوروبا منشغلة بخلافاتها حول بلجيكا، إلا أن أحداث الشرق المتسارعة جذبت انتباهها، ووقع خلاف في الرأي بين فرنسا المؤيدة منح والي مصر حكم الشام وسائر الدول المؤيدة لعودتها إلى السلطة المباشرة للسلطان، وفي مايو 1840 حصلت انتفاضة جديدة على الحكم المصري في جبل لبنان بسبب الضرائب المرهقة وفي أبريل ومايو تكررت ثورة الجبل.
أسفرت محادثات أوروبا عن ميلاد اتفاق لندن في 15 يوليو 1840 والذي نصّ على استعمال القوة العسكرية لإخراج إبراهيم باشا من سوريا في حال رفض حكم ولاية عكا مدى الحياة وعودة سائر المناطق للحكم العثماني، وعلى الرغم من أن فرنسا قد أبدت دعمها لمحمد علي إلا أنها لم تستطع أمام سائر الدول الأوروبية أن تمنع إقرار المعاهدة. في 28 أغسطس أعلنت الحرب وكان الجيش التابع لإبراهيم باشا قوامه 75 ألف مقاتل وذو مؤونة وتسليح جيد يكفي لسنة على الأقل، لكن تشتييت قوى الجيش في مناطق واسعة مقابلة للساحل الشامي لمنع الإنكليز والعثمانيين من التغلغل في البلاد والخوف من انتفاضة الشعب لتأييد العثمانيين والإنكليز أدى إلى تشرذم قوة الجيش، وشكل ذلك أحد أبرز عوامل الهزيمة. دخل الحلفاء عبر البحر من بيروت وعسكروا في جونيه ومنها نحو جبل لبنان وفلسطين وسوريا الداخلية، وأمام تراجع الجيش المصري صدرت له أوامر بالانسحاب من جميع المناطق نحو دمشق ومنها انسحب إلى مصر تائهًا في الصحراء ومعانيًا من ضربات البدو ونقص المياه ومشقة السير في بادية الشام وصحراء النقب، وكان تاريخ مغادرة إبراهيم باشا لدمشق في 17 ديسمبر 1840.!!
Discussion about this post