الآلية والانتظام المرضي في وجود مضطرب
قراءة بقلم
أ. أحمد طنطاوي Ahmed Tantawy d
لنص * العازف *
للأديب / سيف بدوي
………………………..
النص
العازف
——–
كادت أن تدهسه ..
… … لقد قفز من أمامها كبرغوث .. تلك القفزة التي أعادت له الفرصة في استكمال الحياة مثلما أعادت إليه ذكرى فتوة ابلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية ..
كانت السيارة قد ابتعدت نحو نهاية الطريق حين نظر إليها بالتفاتة الناجي .. وعلى هذا الرصيف الواطئ صعد كمن يصعد تلا منحدرا .. غير أنه صعد ، اخرج من جيبه جنيهات من المعدن بحرص .. احصاها : جنيه .. اثنين .. ثلاااث .. ونصف .. وربع فضى لامع ، وقف مترددا .. فهي لم تكمل الخمسة جنيهات .. ولكنه اغمض عينيه كطفل وخطي خطوتين ليقف أمام الرجل ويضع في يده كامل ثروته قائلا : ( خمس سجاير ) !
رفع الرجل كفه وأماله قليلا فتراصت العملات في يده في خط مستقيم منتظم .. ثم رفع عينيه نحوه .. وما لبث أن اسقطها جميعا في علبه الحلوى الشامية فاختلطت بما بها من عملات مستديرة منطفئة كالحة ..ثم مد أصابعه نحوه ممسكة بخمس سجائر .
خطوات قليلة ويصل مدخل البيت .. كان خلالها يطرد فكرة أن يشعل إحداهن ،كمن يطرد ذبابة لحوحة متثاقلة .. لقد نجح في أن يصل دون أن يشعلها .. هاهو وعاء البن .. لا بأس .. فيه أثر من البن ولكنه يكفى لصنع ثلث هذا الفنجان .. لا بأس .. هاهي السجائر .. وبعد قليل سترافقها القهوة المرة ..
أوقف يده قبل أن يلقى بما تبقى في الفنجان من بقايا البن المتيبسة في القعر .. إذ راودته فكرة أن يضع هذا على ذاك ليمتلئ الفنجان .. وساعتها يستطيع أن يشرب سيجارتين معا . وهو ما كان .. أطفأ الموقد ثم حمل الفنجان بكل ما تعلمه من حرص على مدى نصف قرن قضاه على ظهر هذه الحياة .
اذن .. ها هو فنجان القهوة .. وها هي السيجارة .. وها هو عود الثقاب الخشبي .. كادت الحفلة أن تكتمل .. لم يبق سوي أمر اخير ليضمن الا تفسد حفله أي مفسدة مما اعتادها وحفظها .. ولم يفلت منها ولو لمرة واحدة .. لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ..
.. وقف ونظر نظرة عامة على المشهد .. اطمأن إن كل شئ في موضعه تماما .. ثم أدار وجهه نحو موقد الغاز وفتحه .. ثم قفز مسرعا نحو مقعده .. التقط السيجارة .. أشعلها .. وأخذ نفسا هادئا عميقا من تبغها الرخيص .. وأتبعه برشفه من قهوته المرة .
#saif_badawe
……………………..
القراءة
الآلية و الانتظام المَرَضى فى وجودٍ مضطرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانتظام وسط البعثرة المتوارية خلف الستار تمثلها الخيبات المتلاحقة القديمة
سيناريو لمشاهد متتابعة تفصيلية متعمدة لتأكيد
مظاهر اضطراب الوسواس القهرى
و الانحصار فى بؤرة شديدة الضيق تمامًا …
أن تُختصر الحياة كلها فى فنجان قهوة و تدخين عدد قليل من السجائر
و كما ورد فى القصة :
” أعادت له الفرصة في استكمال الحياة ”
إنه التشبث المميت بالمعنى بما يؤكد الاستمرار فى الحياة و لو بخيط بالغ الرهافة و الضعف يمكن أن يُقطع فى لحظة.. عندما تنفذ السجائر ، و ينفذ البن .
ماذا يتبقى من الحياة ساعتها ؟
المشاهد التفصيلية البطيئة المنسقة هى سيناريو إيقاعى بائس خادع يحاوله هذا المسكين ليوجِد لحياته لحنًا يؤكد به لنفسه أنه ما زال حيًا فيما تبقى له من الرحلة..
إنها اللحظات الأخيرة من اللحن الممل الكئيب .
أتخيل أيضًا _ فى تأملٍ ما _ أنه ما يفعله مُقدِم على الانتحار
فى إصرار هادىء غريب، بعد أن شاهد حياته كلها فى شريط سينيمائى راقبه فى تساؤل بالغ الضبابية عن الجدوى النهائية من كل شىء …
أو كما جاءفى القصة :
“.. لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانـــــــــيًا:
ـــــــــــــ
نقاط … عن الميكانيكية الباردة التى أظهرها السرد
التتابعى بما يماثل المشاعر الثلجية التى يُحسها
المنتظر لحظة الشنق بعد دقيقة … ( المحكوم عليهم بالإعدام غالبًا تحدث لهم حالة التبول اللارادى و هم يساقون _ و ربما جرًا_ إلى غرفة الإعدام ) :
** على هذا الرصيف الواطئ صعد كمن يصعد تلا منحدرًا .. غير أنه صعد
**أخرج من جيبه جنيهات من المعدن بحرص
** وقف مترددًا
**خطي خطوتين ليقف أمام الرجل
**خطوات قليلة ويصل مدخل البيت
**لقد نجح في أن يصل دون أن يشعلها
**هاهو وعاء البن .. لا بأس .. فيه أثر من البن ولكنه يكفى لصنع ثلث هذا الفنجان .. لا بأس
** هاهي السجائر .. وبعد قليل سترافقها القهوة المرة
**أوقف يده قبل أن يلقى بما تبقى في الفنجان من بقايا البن المتيبسة في القعر
** أطفأ الموقد ثم حمل الفنجان
** إذن .. ها هو فنجان القهوة .. وها هي السيجارة
وها هو عود الثقاب الخشبي واحدة
**وقف ونظر نظرة عامة على المشهد
** اطمأن إن كل شئ في موضعه تماما
** أدار وجهه نحو موقد الغاز وفتحه
** قفز مسرعا نحو مقعده
** التقط السيجارة .. أشعلها
** أخذ نفسًا هادئًا عميقًا من تبغها الرخيص
** أتبعه برشفه من قهوته المرة .
……………..
…………………….
لنقرأ القصة _ أو هذا اللحن الرمادى _ كما عزفه
( المؤلف ) بهذا الشكل .
………………….
تذكر مماثل :
ـــــــــــــــــــ
فى رواية الغريب لألبير كامو …………..
كان السرد يسير بهذا الشكل الآلى العجيب ليرسم لنا شخصية
بطل يســــير على هامش الحياة … لا يعيها ( أو ربما بالعكس
يعيها أفضل منا حين يرى فيها الخواء و العبثيــــــــــــــــــــة )
خاصـــــــــــــــــة فى الفصل الأخير بعد مقابلته للكاهن الذى
أحضروه بغرض التوبة دينيًا ، و كما يحدث دائمًا للمنتظرين
الإعدام .
إن هذه الطريقة السردية ترسم و تكثف و تجسد بعمق المعنى
الباطنى للفكرة …
البرودة
الخلو من الأحاسيس
الفراغ
العبثية
افتقاد المعنى
العيش على حبل معلق فى الهواء
ترك كل الأشياء و التمعن فقط فى منظر قطة تسير بعيدًا …
أو ذبابة تحوم حول الوجه … فقط …. فقط …فقط
أحمد طنطاوي…القاهرة في ٢٠ يونيو ٢٠٢٣
Discussion about this post