“من كان في نعمة ولم يشكر، خرج منها ولم يشعر”
بقلم :ماهر اللطيف
دخل رجل مسن – يبدو من ملامحه أنه تجاوز العقد الخامس أو السادس من عمره – مقهى الحي ذات مساء من أمسيات صيفنا الحار وكنا مجموعات مجموعات متفرقة هنا وهناك نبحث عن قليل من الهواء يحمينا من حرارة الأرض وما فوقها في هذا الطقس المشتعل على جميع الاصعدة.
دخل وهو يرتدي معطفا شتويا طويلا للغاية – وهو قصير القامة – ممزقا من عديد الأماكن، حافي القدمين وكثيف الشعر الأبيض والأسود وكذلك اللحية المتدلية إلى صدره، متسخ الجسد وقذر الروائح، شاحب الوجه ونحيل الجسد، يتلعثم في الكلام – وقد خلته من عطشه نتيجة هذا الطقس وقلة إمكانياته ليتزود بما يحتاجه من مياه معدنية ككل أفراد هذا الشعب بعد أن تلوثت مياه الدولة ولم تعد صالحة للشرب -، يبسط يده نحو الجميع سائلا العون وإعطائه قليلا من المال وهو يرينا أظافر يديه الطويلة والسوداء بالأوساخ من الداخل، ولم يعطه أحد من الحضور شيئا رغم توسله و إلحاحه.
وقد منعني صديقي “رجب” من إعانته حين هممت بذلك قائلا لي بصوت مرتفع للغاية سمعه هذا “المتسول” وأغلب رواد المقهى :
– ماذا تفعل يا نبيل؟ هل جننت يا رفيق دربي؟
– (مصدوما مستعينا بيدي للشرح التعليل ) ألا ترى حالة هذا المتسول؟ فقد أردت أن أتصدق بما أقدر كما أمرني ديني
– (ساخرا مني ومقهقها بأعلى صوته وهو يشير بإصبعه إلى المتسول) تتصدق بمالك لهذا الشخص؟ ألا تعرف قصته؟
– (نافيا معرفتي برأسي ويدي) كلا أخي
– (واضعا سبابته اليمنى على فمه وهو يلتفت إلى بقية المجموعة) الجميع هنا يعلم هوية هذا الشخص لذلك لم يعنه أحد يا نبيل، وبما أنك قليل الظهور في الحي بحكم عملك وإقامتك بالعاصمة منذ عقود فإني سأخبرك بذلك لاحقا بعد أن ننهي حوارنا الحالي الذي قطعه هذا الشخص بحضوره المعتاد.
ثم واصلنا الحديث و التطرق إلى مواضيع عدة إلى أن تأخر الوقت وشرعنا في الإستعداد لمغادرة المكان الذي بدأ يقفر حين أخبرني رجب بقصة المتسول الذي تبين أنه عين من أعيان المدينة وثري من أثريائها ورث أموالا طائلة منذ مدة طويلة حين توفيت أمه بعد والده بسنوات وهو حديث الزواج، فأخفى تلك الأموال في مكان لا يعلمه غيره وربه وبقي يتسول – وقد تعلم ذلك من الصغر عن طريق أترابه بعد أن حرمه والداه من نعمهما لسوء تصرفه وبخله الزائد، حيث كان يهوى كنز الأموال والبقاء جوعانا وعطشانا وحتى دون لباس إيمانا منه بأن “الغد مجهول وكذلك المصير والقضاء والقدر” ويجب تأمينه تأمينا تاما – ويكنز المال ويحرم زوجته وأبنائه فيما بعد من أبسط الحاجيات كالأكل والشرب والملبس وغيرها…
فاضطرت زوجته إلى طلاقه والانفصال عنه ومحاولة افتكاك حقوقها وانتزاعها منه قانونيا، لكنها لم تظفر بشيء بما أنه لا يملك شيئا ولم يستطع القضاء إثبات ثرائه من عدمه لعدم تعامله مع البنوك ولا أية جهة من الجهات المختصة – وقد سجن مرارا وتكرارا جراء إهماله لأطفاله وعدم الإنفاق عليهم – ، مما جعلها تعمل خادمة في بيوت الناس لتربي أبناءها الأربعة قدر المستطاع.
و بمرور السنوات كبر الأبناء، وحاولوا ردع والدهم وإرجاعه إلى الجادة، لكنه رفض وتبرأ منهم وواصل طريقه دون هوادة رغم علمه بفقرهم وفاقتهم وحاجتهم لأبسط الأشياء.
فهجروه مرة واحدة بعد أن يئسوا منه رغم تدخل عديد الأفراد والمقربين من عائلته وعائلة طليقته لفض هذا المشكل العويص، وواصلوا حياتهم بمعية والدتهم التي نال منها الكبر والوهن والجراثيم والعلل إلى أن ماتت بعد فترة لتتركهم وجها لوجه مع الحياة.
فكانوا قنوعين،صبورين،حامدين لله وشاكرين له ولما نالوه من الحياة، يعملون بجد وكد في مهن متواضعة وحقيرة أحيانا كجمع القوارير البلاستيكية وبيعها أو تسريح مجاري مياه الصرف الصحي وغيرهما – بما أنهم لم يدرسوا مثل أترابهم وأقرانهم – يقتاتون منها…
كما كانوا متحدين ومتضامنين، يحاولون التصدي إلى الصعاب معا مهما كانت الحواجز والعراقيل، يحلمون بعيشة أحسن من التي يعيشونها على أرض الواقع، لذلك كانوا يعملون ليلا ونهارا بكد وجد وتفان …
وكان الأب يكنز المال ويحرمهم منه، بل إنه يحرم نفسه منه أيضا ويخفيه بعيدا عن الأنظار ولا يفكر في شيء أو بأحد غير المال الذي يبدو أنه يعبده أكثر من خالقه ويربط تواجده به دون غيره….
ثم رجعنا إلى منازلنا – منزل جدي الذي أزوره مرة بعد سنين وسنين، وهو بيت العائلة كلها يرتاده من يشاء كلما سنحت الفرصة لذلك سواء من أفراد عائلتي أو عائلات أعمامي وعماتي – قبل أن نعيد السهر في اللية الموالية وبعدها وفي الكثير من الليالي الأخرى وكنا نشاهد “المتسول” يجوب جميع الأماكن ليليا منتهجا نفس الأسلوب و المظاهر والملابس، إلى أن غاب فترة من الزمن في آخر الصيف متى علمنا أنه توفي فجأة بعد إصابته بمرض عضال لم يكلف نفسه عيادة طبيب لتلقي الدواء والشفاء من بعده.
فرحل الرجل ومعه أمواله التي لم يعثر عليها أبناؤه ولا جيرانه أو بقية أفراد عائلته، فماتا دون رجعة ليتركا الأبناء عراة وفقراء يكابدون الحياة ومصاعبها دون عائل أو صدر حنون يلجؤون إليه وقت الحاجة بعد أن تبخر حلمهم في العثور على ثروة ابيهم والتمتع بها وطلاق الفقر والحاجة لاحقا.
Discussion about this post