قصة قصيرة
غيوم في الظهيرة
أيها القلب يكفيك تنكيلا بهذا الجسم الوهن، يكفيك مشرطا واحدا تقدّ به ذاتي المتمزّقة بعد فقد هدوئي و وجاهتي. على دراية مما يقوله الشامتون و الساخرون لكنني لا أكترث مادمت في راحة منهم.. لن أدّعي شجاعة بيد أني على قناعة مما أقول، فالسماء ملكي و الأرض و الأنجم و ذاك الوادي و إن جفّ فإني أعي ما يحزنه… سنوات مضت و أنا أعيش على وقع الانتظار في فراغ معتم.
لم ترق لي هذه الأقدار غيّرتها مرتين ولا تزال تجتاحني رغبة جديدة… لا حياء في الدين يا رجال، نحن لها….
لا تلمني يا أبا العيال فأنا مهووس بالسعادة وإن جانبتني …
اسمعها مني نصيحة، الحياة على طولها قصيرة و أنا لا أحتمل وجهها النكدي كل يوم، لم يكتب على جبيني الاكتفاء بواحدة ولا أعرف في أسرتنا من اكتفى بواحدة وعَمَّر طويلا. زوجة واحدة تقبر الشباب والثانية تحييه … يقول جل من قائل ” و مثنى وثلاث و رباع ” فهن ناقصات عقل ودين بينما نحن الكمال المتين.
قهقهت عاليا لحديث شيخنا المؤدّب وهو الذي عرف عنه عجز مرير خلف عديد الطلقات… لا يزور الحظ من كان طالعه نحس و لو كنت حافظ قصار السور و بعض الأنشاد.
_ خذها من فم المعتوه، حكمة بالية بعضها يقصم الظهر ويخرّب البيوت، لكنه يجرّب لا يخشى لومة لائم فالدين دينه والفقه فقهه وحده…
سأله الهاشمي و كيف وفِّقت بينهما يا حاج كل هذه المدة لم نسمع بينكم صراخا أو شكاوى ؟
_ لا تسألني كيف ، أنا عن نفسي لا أعلم جوابا حتى أعطيه إياك..
فالأولى كانت تمضي كامل اليوم بين الحقل والزريبة، فلّاحة صارمة لا ترحم حالها بين الفأس والرفش و الخراطيم… لا تغادره إلا متّجهة إلى بهائمها و طيورها تنظّف و تعلف و تحلب… لا نجتمع إلا لماما عند بزوغ شمس كل يوم جديد.
_ هذه جيش من العملة لا أنثى بيتٍ ودلال، كيف تعاملك إذن؟ كشجرة عتيقة مثقلة أم ككبش فداء سمين. . ؟
_ يا حرام، منذ شمس الفجر حتى مغيبها تصول وتجول كخيّال الباشا، وحال عودتها تنهار كركام بيت مهجور، تسمع شخيرها أنينا مكلوما فلا أقدر على إزعاجها ولا تقدر على التواصل معنا .
_ لا تقل لنا أنك توقظها مذعورة يا رجل!
_ لا أعرف نفسي يوما اقتربت من مقصورتها، أو تجرأت على مناقشتها منذ اقترنت بأم الخير، حالتها يرثى لها و لي ! لكنني أتسلى مع طيوري لوقت طويل… .
_ يا محتال!
_ حدثنا عن الثانية.
_ لا تأخذكم بي الظنون، فلست مخبولا و لا سفيها كما وصفوني منذ صبايا، ولست أول من جمع ضرتين ببيت،
لا يوجد ما أحكيه لكم، هي كزوجاتكم، لا تغادر البيت إلا نادرا ، تقضي يومها بين جدرانه تنظّف وتطبخ و ترعاني كطفلها المدلل أو كعصفور جريح، تضمد جراحي و تعدل مزاجي كيفما شئت وأحببت ، تخشاني وتقرأ لي ألف حساب ترتعد لسماع صوتي فتنتفض الرجولة ويتملكني فخر الأجداد … ما أسعدني بها! و ما أسعدها بي أم خير مستفيض !
تنهد طويلا، ثم أعقب، لم تفلح الاثنتان في تعمير بيتي بصبي يملأ صراخه الحوش وتزهر الجدران عبقا وشذا، أعلفهما للتسمين فقط ، نصيبي بين عاقرتين و أنا راض بقدري.
_ جاءه صوت من بعيد :
لِمَ لا تسافر إلى تركيا، هناك تجرى عمليات التخصيب الناجحة، كل من سافر عاد فراشه مزدانا بالعيال؟
استغرب مما بلغه لكنه تساءل متلهفا :
_ من أين لي بالمال يا صاحي؟
_ بع بهائمك، بع حقلك، بع الدار ، بع حلي زوجتيك …
******
لا أحد يعلم كيف قضّى ليلته يتقلّب على الجنبين، يفكر، يحسب، يتخيّل، يختار أسماء الأبناء والأحفاد عبد الباري،محمد،أوس،معاذ ….
لم يعُده وعيه إلا على صوت فاطمة تستعدّ لمغادرة البيت فجرا، استوقفها يسألها عن حال المحصول و البهائم و الطيور ، كانت إجابتها صادمة” جدباء قاحلة لكن لن أفرط في شبر منها. الجدب يعقبه أمل لكن الخبل عواقبه وخيمة “.
سدت نفسه بحنكتها في استقراء أفكاره ومكائده منذ فجره الجديد، لكنها شحنته طاقة للمضيّ قدما في اختيار المصير المحتوم … تكررت عبارة شدته من فم زوجة حكيمة لكنها سليطة ” الجدب يعقبه أمل، أمل ،أمل … ” عن الأمل أفتّش يا مولاتي….
بقيت الأفكار تتخبّطه و المكائد تتراقص أمام خيالاته كطيور الظهيرة يحاول التنكيل بها ،
لم يشأ أن يوقظ أم الخير، أمهلها سويعات من الراحة، ثم داعبها مقلِدا صوت رضيع صغير يطلب غذاء …
ابتسمت ملبيّة رغبة العبث، من أين لنا بالعيال والحال على ما تعلم! إن لم تفلح فاطمة بنت الحسب والنسب لن ٱفلح أنا يا… شيخي.
الحل موجود، أطلب منك محاولة إقناع ضرّتك ببيع الحقل والبهائم كي نعالج في تركيا و نحقّق حلمنا.
_ وهل ترضى بهذا الحل، أظن قتلنا أهون عليها من التفريط في شبر تراب أو بهيمة من زريبتها. أنت تعرفها والكل قد خبرها. قاطعها مستجديا :
_ لا تقطعي الأمل حاولي معها كثيرا فهي رغم شدّتها تحب الأطفال و تتمنّى لنا خلفة تملأ بيتنا،فقد زوّجتك لهذا الغرض و ألبستك حليها و حريرها لا تكوني جحودة،حاولي لا تيأسي فالأمل معك كبير ما دمت شابة يافعة عديها بأن تهديها ما ستضعين، لن تمانع إن نجحنا في تقديم الوعود و العهود . تركها تتخبط بين حلم وواقع .
غادر البيت تجاه مقهى وجهاء القوم، وقع بسرعة استدراجه في الحديث حيث كشف خوفه من عنجهية فاطمة و شدة تمسّكها بالأرض و الواقع و سلبية أم الخير . وراح الكل يقترح المكائد ليسهل بيع ما يملك. و يفرط في ماله وحلاله تجاه حلم جميل قد عشّش بين أغصانه.
اختمرت الفكرة برأس عبد الباري و اشتدّ إعجابه بهذه الصنديدة البربرية الجامحة فاقترح على الشيخ تطليقها بالثلاث ثم وعده بشراء كل ما يريد بيعه بالثمن الذي يطلبه.
أينعت الأحلام واستماله إغراء المال و البنون فطلّقها ثلاثا علنا أمام الملأ، و لم يتأخّر عبد الباري في تقديم وعد بالمال المطلوب أمام الرجال، بعضهم بات حاسدا وبعضهم شامتا.
عاد ذاك المساء إلى حقل فاطمة على غير عادته يكاد يلفظ أنفاسه وهو يحاول تبرير فعلته ، يداعبها و يتفرّس ملامحها كمودّع لئيم .. بدت له جميلة فاتنة بقامتها الفارعة و خصلاتها السوداء الممتدة في انسياب منطلق حر بديع تعلوهما عينان نجلاوان كعيون المها تتعانق في انسجام مع حركة الغمازتين المهووستين بالابتسامات و التفاؤل فبادلته الغنج و فضّلت العودة معه مزهوّة بهذه الزيارة اللطيفة، لكن كل من اعترض سبيله كان ينظر دون حرج لزوجته بعينين فاضحتين ولم يكن قادرا على منعهم أو حتى حوشهم عن حرمته… انتابه وخز الضمير وتفتّحت بصيرته فكاد الندم يقضم لبّه حتى احترق جأشه.
لم يمتنع صاحبه عبد الباري عن ذبحه بسكين حاف حين
غازلها في طريقه متفرّسا في أدق تفاصيلها حتى أصابها نصله ، مدح صنيعها بالأرض والبهائم ثم دعاها إلى زيارته علنا كي يتحدثا في أمر الأرض وجودة المحصول كفلاح صاحب خبرة و دراية. تجرأ على دعوتها منتهكا الأصول و العادات.
*******
.
غلى الدم بالعروق لأول مرة منذ عشرية كادت نياطه تتقطع وهو لا يقدر رد أحدهم عن انتهاك حرمة كانت بين يديه ..
استحثّ الخطى إلى البيت ولأول مرة شعر برجولة أمامها تداعب أنوثة مكبوته لسنوات ، أنوثة استنزفتها الأرض الصلبة الصوان و جحود زير نساء منافق ، لأول مرة يشده صوتها وتنعشه ضحكاتها و طرافتها ، لكنه لم يقدر على المواجهة، لم يفتح معها أي موضوع، فقط قضّى ليلته بمقصورتها شاخصا يقضم بنانه حتى نازعه الشيطان…
اشتدت غيرة أمّ الخير واستشاطت، جاءته عند بابها، أسمعته ما يكره في لحظات خلوته حتى رمى عليها يمين الطلاق..
لحظة مسروقة من الزمن عاشتها فاطمة بكل أنوثتها لكنها سرعان ما زفّت لها ضرتها مكائد زوجها الغافل ونواياه المبيّتة لبيع كل ما تملك حتى يسافرا إلى الغرب فيعالجا عقمه . لم تعي ما تفعل أتفرح بعودة زوجها إلى مقصورتها أم بخبر طلاق ضرّتها أم تحزن لمجرد التفكير في بيع أرضها…
الحقل الكبير، أشجاره المتنوعة المرصوفة من الأعلى إلى أسفل الهضبة ، البئر الارتوازية المرتوية، خطوط الطول والعرض، البهائم و الطيور …. لا ! مستحيل أن يفكر أحدهم ببيع ذرة تراب، أرضي عرضي،رائحة أجدادي و منبت جذورنا، تبّا لكل من يفكّر في غدري، مستعدة لقتله، والارتواء من دمه قبل التفكير في الموضوع..
هاجت وماجت، ولم يكن منها غير طردهما من بيتها وحقلها.
كان مشهد اقتلاعهما من حياتها محزنا مفرحا في آن، لم يشفق أحد عليهما حتى صاحب فكرة السفر إلى تركيا، كشّر الجميع عن أنيابه للنيل من الشيخ المعتوه وقد سارعوا لمنعه من دخول الكتاب و المسجد الصغير.
يتهامسون، يرددون أهزوجتهم التهكمية :
“على البوهالي طلّق مرأته وأعطاهالي، طلقة طلقتين البوهالي ( الأهبل) ساب الاثنين ”
أحدهم حاول استثارته، شمشون ماذا فعلت بدليله؟ لماذا وقع طردك من العش كما كنت تفعل طويلا بأعشاش الغربان و السنونو؟
في موكب مهيب وقع رفع فاطمة على الأعناق في زفة جميلة شاركها الرجال قبل النساء، أدمعت عيني لكلمتها المؤثرة ” فاطمة لا تشترى بمعسول الكلام لأنها الأرض و العرض والشرف ”
زادت لهفة عبد الباري للاقتران بها و تطايرت نظرات موحية من سرات القوم ووجهائهم يباركون الفكرة.
ومرت الأشهر التسعة كأنها الحلم…
استرجعت فاطمة كل ذلك بمرارة وهي تروي قصتها لابنتها البكر حتى تحسن الثقة بنفسها و لا تغتر بأحد حين اختيار شريك حياتها دون تنازل ” فالفرق واضح بين من كان يحرص الدين ومن كان يتلاعب به يا بنيتي و لا يغرنّك بالدنيا غرور”.
كنت شديدة الإعجاب بشخصية فاطمة و زوجها منذ وطأت قدماي هذه الأرض لتدريس أطفالها و الحقيقة يستحقان….
لن تنكر القرية فضل عبد الباري في تنوير فكر بناتهم وشبابهم
حين وافقها تدريبهم مجانا على رعاية الأرض الجدباء و بعث مشاريع صغرى تقيهم سطوة الفقر و الانتهازية، فبارك كل الناس خطاهما و زاد إقبال الصغار و الكبار على الدروس بشغف كبير … وصار القاصي والداني يردد سيرتهما العطرة .
في زيجته الثالثة أو الخامسة أو العاشرة لم ينكر أحد فضل فاطمة عليه ورغبتها في رد جميله حين طلّقها. ولم يعلم أبدا أنه أنجب منها شابة جميلة الخلق والأخلاق فنكبته أفقدته وعي ما يدور حوله لزمن . لكنه لم يعمر طويلا وجدوه ميتا في كوخه الحقير، لم يجد غير عائلة فاطمه تواريه التراب و تتلو عليه ما تيسّر من القرآن.
الغريب في الأمر أنهم وجدوا جثث الطيور مدفونة في مرقده وقد نتف ريشها وهشّم رأسها تهشيما .
سيدة بن جازية تونس
Discussion about this post