ورقات 2
“مبدعون غادرونا في صمت
لكنهم في الذاكرة يقيمون ”
الكاتب حمودة الشريف كريم :
عرفته في منتصف سبعينات القرن الماضي عبر بعض الملتقيات الأدبية وتوطدت علاقتنا في مدينة السبيخة في أواخر سنة 1978 حين تم تكليفي بإدارة نادي الأطفال بالسبخة وهو أصيل هذه المدينة
كان من أقرب الأصدقاء وكان إلى جانب ولعه بالكتابة والأدب يحب الصيد , وكنت رافقته في واحدة من خرجاته إلى الصيد في غابة من غابات ولاية القيروان .وكم كان الوقت قصيرا ومفيدا في آن .تحدثنا عن الشعر و الرواية و أدب الأطفال وبعض الذكريات الجميلة عن صيد الأرانب و الحجل .
وهو كاتب تونسي من مواليد 1940 بالسّبيخة من ولاية القيروان. تعلّم بالكتّاب وزاول تعلّمه الابتدائيّ بمدرسة الفتح بالقيروان والثّانوي بفرع جامع الزّيتونة بها وأحرز منه شهادة “الأهليّة” 1956 .ثمّ التحق بجامع الزّيتونة بمدينة تونس وأحرز منه شهادة “التّحصيل العصريّ” سنة 1959.ثمّ سافر إلى لبنان (1959) وواصل الدّراسة بكلّيّة الآداب ببيروت وأحرز منها الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة سنة 1962. و اشتغل أستاذا في المعاهد الثانوية ثم مديرا .
كتب القصّة القصيرة والرّواية وقصص الأطفال والدّراسة التّربويّة والمقالة. ونشر أعماله الأدبيّة بداية من أواسط السّتّينات في صحف ومجلاّت تونسيّة منها: “الصّباح” و”الحرّيّة” و”الفكر” و”قصص” و”الآداب” البيروتيّة.
من أهم مؤلّفاته السرديّة والنقديّة :
(1) جمجمة فارغة : (قصص). تونس. صفاء للنّشر 1990.
(2) القطّ الأسود : (قصص). تونس. الأطلسيّة 1998.
(3) زوابع الأقدار : (رواية). تونس. المؤلّف 1966.
(4) الأرض الجائعة : (رواية). تونس. الأطلسيّة 1995.
(5) انزياح الدوائر : (رواية). تونس. البدوي للنشر والتوزيع 2015.
وكتب مجموعة من قصـص للأطفـال نشرتها الدار التونسيّة للنشر بين 1974 و 1992 :
(ذياب الهلالي) . (مغامرات السّندباد) . (الصّيّاد والقمقم) . (مدينة النّحّاس)
(عليّ بن السّلطان) . (حيّ بن يقظان) . (الشّابّ الجسور) . (دجاجة بائسة)
(المعلّم االشّهيد ) .
إضافة إلى العديد من الدراسات والمقالات المنشورة هنا وهناك .
وقد توفي في 19/06/2018
ووقع تكريمه في بيت الشعر بالقيروان يوم السبت 28 جويلية 2018 .وقد أحيا هذا البيت بالتعاون مع جمعيّة «ابن شرف» أربعينية الأديب والكاتب القيرواني حمّودة الشريف كريّم، بحضور عدد غفير من أهل الفكر والأدب والثقافة، ومن أسرة الراحل.
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
عندما تصبح الحيوانات رموزا لها أكثر من دلالة
في قصص ” القط الأسود ” للكاتب حمودة الشريف كريم
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
إن القصة القصيرة شكل فني حديث في الأدب العربي و قد استقطب طاقات وفيرة من الأدباء و هذا يبرز من خلال عشرات المجموعات القصصية التي تخرجها المطابع و الأقاصيص القصيرة التي تنشرها الصحف و المجلات .
وأعتقد أن هذا الشكل هو الأكثر ملاءمة للتعبير عن هموم الشخصية العربية والضغوط المسلطة عليها وعن آمالها وإرهاصاتها حتى أن الكاتب سهيل ادريس كتب يقول : (
“ماذا تريد أن نكتب نحن ممتهني الحرف والكلمة إن لم نكتب قصص حيواناتنا وأهلنا . وهل هناك أدب أصدق وأروع من الأدب الذاتي الذي ينبع من صميم النفس ليتسع صدقا وانسانية ” .
ورد هذا القول في مجموعة ( القط الأسود ) القصصية للكاتب حمودة الشريف كريم .
وهي مجموعة صادرة عن دار الأطلسية للنشر في 115 صفحة وتحتوي على قصص ثمان متقاربة في المضمون ولكن الشكل يختلف من قصة الى أخرى .
إن جمال القص يكون منطلقه من الواقع والمؤلف الناجح هو الذي يحاول التعرف على أبطال قصصه حتى يفهم ظروفهم ويتطلع على معاناتهم . والكاتب اعتمد هذا الأسلوب في كل قصص المجموعة فجاءت من صميم الواقع بدءا بأخبار جده الأول ” سيدي أحمد الشريف ” في ” القط الأسود ” وأيام البؤس والشقاء في قريته الفلاحية النائية وسط عائلته البائسة :
” بينما أبقى أنا وإخوتي ننظر في قرم و بؤس وأشترك أبي في قسيمة لحم وهي نادرة ولا تحصل الا بعد خمسة أشهر أو ستة بعد أن يتسلم أجرته من الإشتغال في الحضيرة التي لا يعمل فيها الا بعد أن يضحي بكرامته ويتذلل ويقوم بأعمال لا ترضاها نفسه ولكنه الفقر ” .
ومرورا بزنقة المذبوح التي لا تتسع لمارين اثنين وباب الجلادين وجامع سيدي الوحيشي والرحبة بمدينة القيروان في قصة ” الحذاء ” التي يصور فيها الكاتب سنوات الحفاء والعراء حيث تكون المعركة ويكون الصراع . الصراع مع الفقر والمعركة من أجل الحصول على الغذاء والرداء والحذاء . ومرورا أيضا بقصة ” إمرأة شريفة ” وهي تسرد حياة إمرأة ليست ككل النساء . عانت من الزبائن الضنى :
” هذا أقرع و ذاك مشاكس و الآخر مخمور يلتذ بالمداعبة ” .
اضافة الى كلام صاحبة الماخور الجارح :
” خاطبتني صاحبة الماخور بصوت صارم : أنا دفعت أموالا لإشترائك وعليك أن تلبي رغبات الزبائن … يلزم تفهم ما معنى زبون في ماخور …ماخورنا مشهور ويحتل المرتبة الأولى بين المواخير ” .
و وصولا الى قصة ” المتقاعد ” في مقهى الباجي وما يلاقيه من ألم نفسي نتيجة الفراغ الذي يحيط به والحياة الرتيبة التي يعيشها .
والملاحظ في هذا العمل القصصي أن الكاتب وجد في المعتقدات ضالته وفي بعض الحيوانات سبيله للولوج الى أدغال حكاياته فنجده مرة يتحدث عن القط الأسود الذي صرع الثعبان الذي التهم الأبقار وأتلف الزرع بسمه وحبس عن الناس الأمطار . ومرة عن ” فأر بو سباطة ” وهو من صنف خاص ويستحق العناية والرعاية :
” أيها الفأر العظيم …يا ابن الحسب و النسب …يا ابن الأبطال الميامين … يا من تفرد بحب سيدنا وعطفه أغفر لنا ذنبنا لأننا جهلنا قيمتك وقدرتك” .
وفي قصة أخرى يتحدث الكاتب عن الجراد وقد سكن العظم وامتص الدم وقطع الأوصال :
” إن الجراد قد اعتادنا و لن يتركنا … سبيله مزروعاتنا وحياتنا انه يزحف بقوة ” .
ثم يذكر الغربان الناعقة التي عادة نتشاءم منها فيقول :
“كان الغراب شرسا يا أبي .. عرف أنني سأحتل مكانه فأنشب مخالبه في وجهي ودافع ودافعت وهاجم وهاجمت …كنت جريئا وانتفش ريشه ونعق نعيقا أدخل في نفسي الهلع لكنني ثبتّ وطعنته” .
ثم يأخذنا الى قفص عصفور الكنالو الذي لا يكتفي بالزؤان و الماء ليزقزق بل قليل من حشيش التكروري يجعله يصدح ويملأ المكان شدوا وزقزقة . ويوم يفتح له باب القفص يطير في الغرفة ويسقط في كانون البخور
هذه الحيوانات ليست عادية وهي رموز لها أكثر من معنى وأظنها تشكل المحور الرئيسي للقصص والأكيد أن النقاد سوف يهتمون بها و يكشفون خباياها .
كما نلاحظ أن الكاتب إعتمد في كتابة نصوصه على الحوار القصير والسرد الجلي وعنصر المفاجأة والعودة في الزمن . كما استعمل في القصتين الأخيرتين أسلوبا قديما جديدا . جديد في الأدب العربي لكنه قديم في النصوص الأدبية الغربية بحيث نجده يستحضر شخوص قصصه و يتحاور معها حول حقيقة أدوارها و يتفاعل معها ويستجيب لرغباتها وميولاتها حتى يصبح للشخصية نفوذ على الكاتب نفسه فتحادثه وتكشف له أسرارها دونما موارية وتعبر عما تشعر به من صدق وتفتح له صدرها دون تحفظ .
هكذا كان الأسلوب في مجموعة ( القط الأسود ) والكاتب حمودة الشريف كريم لا يطرح تجارب معيشة من صميم الواقع فحسب وإنما يرسم العواطف والأحاسيس ويبث خفقات الوجدان في المعاناة اليومية للطبقة الفقيرة …
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
في رواية ( انزياح الدوائر ) للكاتب حمودة الشريف كريم
انزياح لخوف يسكننا من زمان .
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير:
يقالُ دارتْ عليه الدوائر أي نزلت به الدواهي . والدائرة في لسان العرب هي الهزيمة والسوء . ويقالُ أيضا : عليهم دائرة السوء .
وقد جاء في الحديث : فيجعل الدائرة عليهم أي الدولة بالغلبة والنصر .
وقوله عزّ و جلّ : ويتربص بكم الدوائر ويعني الموت أو القتل .
فماذا عن دوائر الكاتب حمودة الشريف كريم وهل تم فعلا انزياحها في تجربته الروائية الجديدة ( انزياح الدوائر ) ؟
خمس وعشرون دائرة . دائرة تتبعها دائرة وبين الدائرة والدائرة دائرة مثل سلسلة كلما انطلقت من نقطة تعود الى نفس النقطة بعد أن يرهقك المسير وتؤرقك الأسئلة .
امرأة انتحرت في ماخور . أحبها شاب مراهق وأحبته فأهدته عاطفتها وأشياء أخرى ولما تيقن من حبها اياه أوهمها بمشاريع استثمارية خيالية فصدقته وأعطته كل ما تملك . ولما علمت أنه تحيّل عليها وكان يخادعها عاطفيا .أصيبت بخيبة وانتابتها الكآبة فعاشت أياما مزعجة ثم أقدمت على الإنتحار ….
وحول هذه القصة المثيرة اجتمعت مجموعة من الشخصيات والأطراف المختلفة والمتداخلة في آن . من البداية حارس بل هو شاهد يسكن بداخلنا مهمته الأساسية الوصول الى الأسباب الحقيقية التي دفعت بالمرأة الى الإنتحار . كما يعترضنا شيخ في السبعين من عمره يسكن دكانا يحتوي على أوراق صفراء بعضها قد شد بخيوط و وضع رزما . بعضها قد تهرأ وتناثر على البلاط وبعضها الآخر قد نخره السوس وعششت فيه الحشرات وهي تمثل عمره الطويل وهي أيضا هويته التي لا يمكن لها أن تضيع . وهو في اعتقادي شاهد على العصر يسعى الى جمع كل الأطراف في دكان صغير هو في نهاية الأمر هذا الوطن بكل ما يحتويه .
ومن بين الشخصيات مجموعة من النسوة يختلفن في الممارسات والمغامرات ولكن يلتقين في أمر هام وهو الرغبة في نشر قصصهن الحقيقية ضمن هذه الرواية .
اضافة الى غراب ماكر وخبيث وهو مصدر الشؤم في كل الأحداث . وعنكبوت همّه الوحيد اقتحام كل الأمكنة وتشبيكها بخيوطه المزعجة وبث الرعب فيها .
ويبقى الكاتب الراوي في صراعه المرير مع شخصيات روايته من ناحية ومع الناشر من ناحية أخرى .
فالشخصيات لا تقبل بما أراده لهم الكاتب من حقيقة ممزوجة بالخيال والناشر لا يقبل الا برواية يقبل عليها القراء غايته في ذلك الربح المادي ولا شيء غيره .
وهكذا يبقى الراوي مسجونا في دائرته ولا يستطيع الخروج منها لأنه محبوس فيها منذ الصغر . وكم عزم على أن يتحداها ويحرر نفسه من القيود التي يتوهمها ولكن بدون جدوى لأن الخوف يتملكه وتخونه قواه ويشعر بالضعف .
والسؤال الملح : ترى من رسم هذه الدوائر وهل هو وحده معني بها دون غيره ؟
ويأتينا الجواب في صفحة 46 على لسان الكاتب : إن الخروج من هذه الدائرة هو تعبير عن مناوآة لإرادة الله فقدرتنا لا تتجاوز الدائرة وحكمته في أنه أعطانا قوة ولكن ضمن دائرة …
هذه الدائرة تصفع بقيودها كل من يحاول التخلص منها أو حتى تجاوزها ولو بالنية فقط : لأن النية يعاقب عليها القانون كما جاء في الصفحة 95 .
ولعل الرواية تتعرض الى صراع وجودي بين كل الشخصيات من خلال دوائر تقرر مصيرها وتحدد تصرفاتها في تفاعلها مع بعضها البعض .
بحيث كل شيء مقرر ولا سبيل الى الفرار خارج هذه الدوائر . و ( انزياح الدوائر ) للكاتب حمودة الشريف كريم تجربة حديثة في الكتابة الإبداعية ورحلة مضنية في حياة كل الشخصيات الرئيسية بسلوكاتهم المختلفة والمتناقضة في أغلب الأحيان الهدف منها الوصول الى حقيقة مجردة من كل خيال وزوائد مع تجنب الخوف المسيطر على الذات الإنسانية عند مواجهة الواقع المرير .
وقبل أن أختم وجب أن أذكر بهذا الحوار الصريح بين الإنسان وخوفه في صفحة 216 :
ـ أنا أريد أن أن أعيش كالناس , لي حريتي وأتصرف وأتنقل كما أشاء …
ـ ومن كبل حريتك ؟
ـ أنت تراقبني دائما …
ـ الرقابة ليس معناها حد من الحرية …
ـ ولكنها قيد بطريقة ذكية …
ـ أنا أحاسبك فقط على ما فعلته من أثام …….
هذا الخوف يتحكم في كل أفعالنا وقد يجرنا الى الأفظع في حياتنا .
فهل ينزاح خوفنا في انزياح الدوائر ؟ حتما ستكتشفون الإجابة بعد قراءة الرواية ( انزياح الدوائر ) للكاتب المرحوم حمودة الشريف كريم .
Discussion about this post