ورقات 6 :
“مبدعون غادرونا في صمت
لكنهم في الذاكرة يقيمون ”
الشاعر خالد البكري:
علاقتي به بدأت بعد الثورة وتحديدا في خيمة الإبداع بسوسة في أواخر سنة 2013 . يومها جاء رفقة شقيقته المبدعة نجاة البكري وقد عبر عن رغبته في متابعة نشاط الخيمة وفي المشاركة في كل التظاهرات التي كنا نبرمجها أسبوعيا .وظل يزورني من حين لآخر في مدينة حمام سوسة .و كنا نتبادل الحديث حول الشعر والأدب بصفة عامة .وكان أهداني كتابه البكر “ابتسامة أسف ” الذي كتبت حوله قراءة ونشرتها في الجزء الأول من كتابي “قراءات في الأدب التونسي الحديث ” الصادر عن دار المنتدى للنشر سنة 2017 . وكان عبر لي عن رغبته في أن أكتب له تقديما لمجموعته الشعرية الثانية . ولكن المرض لم يمهله وفاجأه الموت قبل أن يصدر الكتاب .
وهو شاعر تونسي وعاشق للموسيقى وللغناء وعازف متميز على آلتي الكمان والأورغ .من مواليد مدينة تونس كتب قصيدة النثر ونشر كتاباته في العديد من الجرائد والمجلات التونسية والعربية وفي بعض المواقع الإلكترونية .شارك في العديد من التظاهرات الأدبية داخل البلاد .
وهو شقيق الكاتبة والإعلامية نجاة البكري .
من أهم كتاباته :
” إبتسامة أسف ” مجموعة شعرية صدرت عن دار المنتدى للنشر سنة 2016
” ضمير الحروف ” مجموعة شعرية صدرت عن دار وشمة للنشر سنة 2022
توفي الشاعر خالد البكري يوم 11 نوفمبر 2022 بعد صراع مع المرض
له الرحمة وللأهل و الأصدقاء الصبر والسلوان .
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
“ابتسامة أسف ” إعتذار على فرح انتزع منا .
قراءة في أشعار خالد البكري ,
بقلم الشاعر عمر دغرير:
قال لي جدي ذات نهار :
لا تفعل شيئا تعرف أنّك ستعتذر عنه لاحقا.
لأن ” أنا آسف ” لا تكفي للإعتذار .
تذكرت هذه القولة و أنا أتصفح أشعار الصديق خالد البكري ” ابتسامة أسف”
و في الحقيقة كانت هذه القولة درسًا مهمًا بالنسبة لي في محاولة تجنب الوقوع في الأخطاء والتفكير مليًا قبل القيام بأي عمل. غير أن حياتنا لا تسير دائمًا كما نريد. وغالبًا ما تواجهنا مطبّات كثيرة ومواقف عسيرة فيها ما لم نكن قد خططنا لها سابقًا ولم نضع في حسباننا كيف نتصرف حيالها فنقع في أخطاء عديدة خلال مسيرة عملنا أو علاقاتنا مع الآخرين ونجد أنفسنا في مواقف محرجة نتمنى فيها لو أنّنا لم نكن موجودين أصلًا أو أنّ (الأرض تنشق وتبلعنا) ونشعر بالكثير من الخزي .
ونضطر إلى الاعتذار وتكرار (أنا آسف) لأنّ هذا ما تعلمناه منذ الصغر أن نعتذر عندما نخطئ بحق أحدهم. وأنّ عبارة (أنا آسف) هي العبارة السحرية التي يمكن أن تحل أي مشكلة وتصلح أي خطأ مهما كان كبيرًا حتى لو كنا غير مقتنعين بخطئنا أصلًا فنقوم بترديد الكلمة لمجرد إنهاء المشكلة.
و في ” ابتسامة اسف ” نكتشف لونا آخر للأسف . فخالد البكري هذا العاشق للموسيقى و الغناء وجد في الكتابة ملاذا يلجأ اليه لينحت بالحروف أشجانه و أساه و من خلالها نراه يسبح بمجاديف الكلمات في أعماق نفسه فيستنطق ما أضناه من أعباء و جراحات طوال سنوات عمره معترفا بأن الشعر هو حسّ قبل كل شيء فيقول :
” …أقترف الشعر حسا لا حرفا و من قعر يمّي أجدفني” …
و يعترف أيضا بأنه لم يولد في رحم الكلمات و انما أتى اليها من عمق الجراح حتى أنه يقول :
” أنا النازح لمملكة الحروف
و زادي قلم كفيف
من مواقع الوجع بكتبني ” …
هذا الشاعر استأنس بالنزوح و ظل يسابق الحروف رغبة في اخماد نار الأحزان التي لازمته من زمن بعيد فيقول :
” فأنساق أسابق حرفي
لرقة ملمسه
لهفة لهمسه الودود
و طلاء لجدران بؤسي” …
و تبقى الحبيبة على ضفاف الفجر تنتظر قدومه . و يظل الليل يستعرض له أجمل الذكريات و أتعسها في آن . و يصرّ الحنين الى الماضي على شده شدا و قد يجد الحل في ابتسامة تعود به الى زمن يعتقد أنه أجمل الأزمان . و في أسف بحجم الحنين الى جمال قد لا يعود .
والشاعر خالد البكري يتمرّد فجأة على الحبيبة فيقول :
” فملىء وقتي أحببتك
و ملىء إرادتي تخليت
لا عنك
بل عن نفسي بنفسي ” …
و في تمرده على الحبيبة تمرده على الوضع الذي آلت اليه البلاد بعد ما سمي بثورات الربيع العربي حتى أن كل شيء حوله صار مزيفا فيقول :
” مزيف بلونه هذا الزمن …
مزيف هو القدر…
مزيف رغم العبر …
مزيف قانون الحياة في الأوطانْ …
مزيف رسمي …
مزيف اسمي …
مزيفة بعينيّ حتى ملامحي و المكانْ” …
في هذه المجموعة ” ابتسامة أسف ” يشعرنا الشاعر بأنه يريد الإعتذار من القارئ و الأهل و الحبيبة والوطن معتبرا الكتابة هي الوسيلة الأفضل المتاحة لهذه المهمة .
ولكن هناك طرق عديدة كي نعتذر دون أن نقول (أنا آسف) .و من غير أن نشعر بهذا الشعور السيّئ الذي ينتابنا أثناء قولها. فقد نغرق في مشاعر سيئة من لوم الذات وتأنيب الضمير. ونشعر بالانكسار أمام من أخطأنا بحقه . في حين كان علينا أن نظهر شجعانًا نتحمل مسؤولية أفعالنا وربما نقدر على أن نحقق المعادلة الصعبة من إرضاء أنفسنا وغيرنا في ذات الوقت.
فالابتسامة وحدها تكفي للإعتذار . فهي حياة وروح الإنسان حتى أنها تعطينا النشاط والحيوية وبسببها يقبل الناس علينا … وهي طريقة للتعبير عمّا يجول داخلنا بطريقة مهذبة… كما أنها تعطي جمالا للوجه واستقرارا وسلاما داخليا…
قد نخطئ في أفعالنا وقد نخطئ في أقوالنا وقد نخطئ في معاملاتنا مع بعضنا البعض . و لكن هل أخطأ الشاعر في حق غيره حتى يخرج الينا بهذه المجموعة الشعرية الأولى ” ابتسامة أسف ” و قد صدرت عن دار المنتدى في طبعة أنيقة من الحجم المتوسط .
و لعل الإجابة عن هذا السؤال في اعتقادي هو إعتذار عن فرح أنتزع منا في زمن مضى و قد نكتشف هذا في عمق الكلمات بعد قراءة جادة تضعنا مكان الشاعر و حتما سوف يصادفنا هوانا والبعض من حالنا .
رحم الله العزيز خالد البكري برحمته الواسعة ورزق الأهل والأصدقاء الصبر والسلوان .
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
“وحده الشاعر ضمير الحروف وضمير المجتمع وضمير الوطن .”
قراءة في النصوص الشعرية للمرحوم خالد البكري “ضمير الحروف”
بقلم الشاعر عمر دغرير :
المعروف عن الضمير كونه مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي تسيطر, بل تتحكم في أعمال وأفكار أي شخص ، وفي أغلب الأحيان قد يشمل الإحساس الداخلي بكل ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الشخص ودوافعه، مما يدفعه للقيام بالعمل الصّحيح .وعلى هذا الأساس يكون الضمير إحساسا أخلاقيا داخليا عند الإنسان، وعليه تبنى تصرفاته، وتحدد درجة نزاهته وأمانته. وما شعوره بالسلام الداخلي إلا نتيجة لنقاء هذا الضمير.
والشاعر خالد البكري بدا في نصوصه متشبعا بكل القيم الموجودة في محيطه وفي بيئته الإجتماعية والثقافية والسياسية والإقتصادية .وتكوّن لديه تصور أعلى لمفهوم الحياة والموت, ولعله اكتسب تجربة في تحديد طبيعة التصرف أمام الخير والشر, وأمام العدل والظلم ,وأمام الصدق والكذب .ويمكن القول بأنه صار في ذات الوقت ضمير الكلمات والحروف التي يخطها بدموعه ودمائه , وأيضا ضمير العائلة والمجتمع الذي عاش بين أحضانه وكذلك ضمير الوطن الذي أحبه كما لم يحب الوطن سواه .
و”ضمير الحروف”هو الكتاب الثاني للشاعر. وقد صدر في أواخر سنة 2022 عن دار وشمة للنشر في طبعة أنيقة وفي أكثر من 140 صفحة من الحجم المتوسط . وهو يحتوي على أكثر من خمسين نصا مختلفا ومتنوعا بين طويل وقصير وأغلب النصوص جاءت نثرية فيها الكثير من الشعر . وفي اعتقادي يمكن توزيع هذه النصوص على ثلاثة أقسام :
قسم عن الأم والحبيبة والعائلة والأصدقاء, وهو يمثل المجتمع , وقسم عن القصيدة والكلمات والحروف, وعلاقة الشاعر بالشعر وبالكتابة . وقسم عن الوطن بكل ما تجمعه هذه الكلمة من معاني .
والبداية ستكون عن المجتمع وعن العائلة , وعن الأم التي خصها بتصدير جاء فيه :
” أشتاقها
مع وافر الدمع …
وأذكر الله كثيرا
حين أرتل إسمها…
أمّي ” …
ولم يتوقف عند التصدير فحسب بل خصّ لها الجزء الأول من الإهداء الذي جاء فيه :
” إلى من رفرفت عاليا بعد أن أشبعتْ بالحب دمي.. فأزهرتْ روحي نجوما هيأتْ قصائدي لتكون .. إلى أمي وهي تضيء بداخلي وأبدا لا ولن تنطفي” …
والأم بالفعل لنْ تنطفي ولكنها في الغياب تترك لوعة وفراغا يدفع الشاعر للبحث عن ظلها في ظله فيقول في صفحة 7 :
” في غيابك ..
أبحث عن ظلك..في ظلّي ..
كأنني كنتكِ
واندثرتُ ” .
ورغم الغياب الطويل وإلى الأبد تبقى الأم في البال, فيتذكرها كلما حل به البؤس , وتمكنت منه غرائز الدمع في ربيع لا يشبه الربيع فيقول في صفحة 19 :
” أتى الربيع يا أمي
وما صار فمي وردة …
ولا دفتري سنبلة
مرسومة بالأخضر ” .
ولأنه دائم الشعور بالخوف وبالألم وبالموت المتربص به هنا وهناك , ولأنه بالكاد كان ينام من الأوجاع حتى أنه بات يشكو أوجاعه ويخبر المحيطين به عن مشاغله . وقد قال في صفحة 108 :
” هلا أخبرتكم عن التحاف ليلي بفزع القلم
تماما عند قضاء الحبر على الورق ؟
هل أحصيت لكم
كم خانتني الرئة بالتنفس ؟
قالت جدتي قبل رحيلها :
وجعك مسموم بصدأ بين فكّي قلادة
والدواء نسيان ملفق بإحكام
إلى مصيدة ” .
وهذه المصيدة هي الموت قاطع الطرق, وهو يعلم أنه قد يتمكن منه في أي وقت .
ومع الأم والجدة يتذكر والده الذي غادره ذات يوم . وكم بات يحتاج إلى صدره الحنون وإلى دفء البيت في الزمن المحزون فيقول في صفحة 123 :
” ما زلت أحمل همّ الأمة العرجاء مثلك يا أبي ..
وأبيت أرسم بالطبشور حلما غائما ,
وظلال كرم ,
نامت عيون الحالمين على الأسى …
كُسِرتْ مجاذيف الأماني …
وفي الدجى
تاهت مراكب صبرهم …
كمّ الهزائم طافح”…
ورغم كل هذه الهزائم فهو لم يعد يبكيها أو يقف عاجزا أمامها .
وفي موقع آخر يتوجه إلى أبيه ويقول له بتحسر وعتاب في آن :
” أبي
حزني لن يشي الليلة
بحزنك …
تظنّ … برحيلك
أنك تخدعنا …
لكن يظلّ يشي بكَ
صمت يشبهكَ ,
وزهد يشبهكَ ,
وعلبة ألوان ,
كنت تنثرها, قبل رحيلكَ,
جديدة على اللوحة …
فكان منها السبيل ,والسماء ,
وحقل القمح ,والشجر الكثيف ,
والوطن ” .
والشاعر في هذا القسم بالذات خصص مساحة أكبر للحبيبة حتى أنه ذكرها في الإهداء حيث قال :
” إلى رملة سيدة السلام بقلبي وحيث وليت شغفي زاد عطشي لفردوسها وشكرت خالقي أن امتزج عمرها بعمري كي تمطر حياتي بها إيقاعا لؤلئيا سرمديا ” .
ودعاها في صفحة 11 فقد يغادر سنين الجفاف ويتقاسم معها الصباح والمساء و الربيع والماء والهوى حتى أنه قال لها :
” تعالي
نلون الأيام بأعين
لا تعرف الحزن …
ونمتطي صهوة الغيم …
نسافر كالمطر ” .
ولأنه مفتون بها , فهو يريدها أن تظل بين أنفاسه , وأن تنام في شرايينه فيقول لها في صفحة 38 :
” أنا مفتون..سيدتي
ألا رفقا بمفتون …
أتوق إليك في نزق
ونار الوجد تكويني …
فابقيني قريبا منك في حلمي ,
وبين الحين والحين
أنال قبلة تبقى
على الشفاه ترويني ” .
أما القسم الثاني فهو عن الشعر والحروف والكلمات . والشاعر خالد البكري كما كان ضمير الأسرة و المجتمع في القسم الأول فهو ضمير الحروف والكلمات وهو الذي قال في صفحة 27 :
” الشعر في سرنا ,
قلق … أسى …
ينزّ حتى يوحى لنا …
أحتاجه حتى يجددني …
ويحتاجني لسره ,
قلما قضيت عمرا ..
لست أعرفني …
وحين انتبهت لأرضه …
أسميتها وطني ” .
وفي موقع آخر, وتحديدا في صفحة 96 نجده يعترف بأن موائد الشعر تطهى بشعوره المقموع في صوته فيقول :
” قلمي لغزي الأعمى
صلبي يغلي
بات ضياعا
يستوقفني
فحزني لا يعرف حزني ” .
وفي صفحة 134 تحدث الشاعرعن كلماته المذبوحة بالحنين و بالهوى في واقع كل شيء فيه مزيف الرسم و الأسم والعين والملامح وقال :
” كلماتي المذبوحة بالحنين
ملت واقعي …
وسيل غيمها
لن يجرأ بأرضي …
على انبات الشجر ” .
وفي القسم الثالث بان الشاعر ضمير الوطن وهو الذي كتب في صفحة 45 تونس بنصي :
” يا محور حلقة أقداري
من غبارك رسمي …
عرضك بالنبض أمانة …
وبالأعين بصري …
ريحك مسافات أماني
وعطر
سفري …
إن استحل ترابك دمي ,
فدمي حلّ لعطشك …
كيف أخذله وشرياني
يتدفق من منبعك ” .
ولأنه يعشق هذا الوطن ,فهو يفرح لفرحه ,و يحزن لحزنه, ويتألم لآلامه ورغم ظروفه الصحية الصعبة لم ينس الوطن الذي غيروه وأفقدوه ألوانه الزاهية بربيع الخراب الذي طالت مدته . وألبسوه رداء الأحزان صباحا مساء و يوم الأحد , بعدما أوهموه بأن الفرح قادم . وأين الفرح في وطن يتكسر كل يوم أكثر فأكثر .
وكم يشتاق إلى هذا الوطن الضائع حتى أنه قال في صفحة 110 :
” اشتقتك يا وطني
فعد إليّ
كما كنت جميلا …
اشتقت غيطانك
وفلاحة
تحلم بالطرحة إكليلا ” .
وقبل أن أنهي هذه الرحلة في “ضمير الحروف” لا بد أن أشير إلى أن الأستاذة سلوى القلعي ذكرت في تقديمها حرص الشاعر على اصدار نصوصه وهو على سرير المرض فقالت في صفحة 9 :
” كان سباقا ضد الوقت ,رملة ,خلود, ليلى وأنا نفتت أجزاء الساعة ليجهز هذا المنجز, وحتى يكون بين يدي الشاعر , حتى يلمسه بعينيه وجلده وروحه ويحضنه كطفله المرتقب ويفرح به ” …
وها هو الكتاب كما أراده صاحبه وتمناه , يصل إلى القراء وإلى المولعين بالشعر , ويجد مكانه في الساحة الإبداعية, ويتناوله النقاد بالدرس والتمحيص .وهو دليل على أن خالد البكري لم يمت و لم تغادرنا روحه الطيبة .بل هاهي ترفرف حولنا وتدلنا على ضمير الحروف وضمير المجتمع و ضمير الوطن .
رحم الله الصديق الشاعر خالد البكري ورزق الأهل و الأصدقاء الصبر والسلوان .
Discussion about this post