حكمة ” شيخ مجنون”
بقلم:ماهر اللطيف
أخبرني عبد التواب صديق الطفولة والدراسة، الحي واللعب، الشقاء والشغب، الحلو والمر…،في آخر لقاء جمعنا بمقهى الحي بمناسبة عيد الأضحى – وكنا نعود عائلاتنا ونحتفل معهم بهذا الحدث الجلل- ، أنه تحادث مع “شيخ حينا” – الذي كنا وبقية أترابنا نسخر منه ونستهزئ به ونصفه بأبشع الصفات والنعوت ونقتفي أثره لنغني “شيخنا المجنون يهذي أينما يكون…. “، لأنه كان يتمتم دائما ولا يكلم أحدا، لا يضحك ولا يتواصل مع الناس إلا نادرا، يتقبل الإهانة والاستهزاء بابتسامة و تقاسيم وجه بشوشة وهو يقول “الله يهديكم، الله يسامحكم،… ” – قبل مماته بمدة قصيرة ، وجلسا مطولا في باحة مسجد من مساجد المدينة بين العصر والمغرب أين تبادلا وجهات النظر وتناقشا في العديد من الأمور الحياتية والدينية.
كما أخبرني أنهما تطرقا إلى ما يتعرض له الشيخ من تضييقات ومشاكل وعراقيل من طرف جميع الشرائح الإجتماعية و الأجناس البشرية منذ مدة بمن فيهم مجموعتنا التي تجاوزت حدود اللياقة والأدب معه – حسب الشيخ الذي تذكر عبد التواب وأتباعه الأشقياء وما كالوه له باستمرار – ، لكنه سامحهم ودعا لهم بالهداية والتوبة مثل غيرهم في حقيقة الأمر، وهو ما جعل عبد التواب ينزع عنه معطف الحياء والخجل ويسأله عن سبب “جنونه وهذيانه”، فابتسم الشيخ ووضع يده على كتف سائله بكل رقة وحنان، نظر في وجهه مليا وابتلع ريقه، استعد جيدا قبل أن يلقنه درسا لن ينساه إلى الممات – حسب عبد التواب الذي أراد تمرير هذه الرسالة لي ما إن التقينا في انتظار ملاقاة بقية المجموعة في قادم الأيام والمناسبات -، و قال له بكل ثقة في النفس :
– هل أنت متزوج؟ (فأشار عبد التواب برأسه ليعلمه أنه متزوج)، هل تتذكر أيام الخطوبة؟ (فأعاد صديقي نفس الحركة) ماذا فعلت في منزلك قبل مراسم الزواج، وماذا فعلت خطيبتك أيضا ؟ ماهي آخر تحضيراتكما؟
– (بعد تفكير ولم يفهم ارتباط هذا الموضوع بالآخر) قمت بتجهيزه وتأثيثه وتهيئته لهذا الحدث الجلل (بعد صمت لثوان) أما خطيبتي فقد واصلت أيضا اقتناء مستلزمات بيت الزوجية وشراء ما ينقصها
– (مقاطعا وهو يبتسم) حسنا بني، يعني أنكما إنشغلتما بتلافي النقائص لتحققا حلمكما وتعيشا عيشة سعيدة
– (مستغربا وتائها، بصوت شبه مسموع ومتقطع أحيانا) نعم،هذا هو شيخنا، فقد عملنا على تحقيق أحلامنا على أرض الواقع
– (مبتسما ومصافحا يده) هذا ماكنت أفعله بني ولا أزال، فلم أهذ يوما ولم أجن، لم أفقد عقلي ولم أضع توازني كما كان الجميع يعتقد (يصمت لحظة ليسترد أنفاسه وعبد التواب مندهش لا يفقه شيئا ولا يفهم ما يقوله مخاطبه) فأنا أجهز مثلك، أقتني، أشتري، أحاول تلافي نواقصي، أبحث عن السعادة والهناء و إنارة ظلمتي وتخفيف وحدتي (وهو يسمر النظر في مخاطبه ويلحظ اندهاشه وعدم إدراكه لمعاني حديثه)، فأنا أؤثث قبري وأزينه بالذكر والتسبيح والإستغفار وتلاوة القرآن، بالصلاة والصيام والزكاة وغيرها… لذلك ترون فمي دائم الحركة والذكر….
كما أعلمه أنه يخشى عذاب القبر وسؤال الملكين وما يتبع ذلك طيلة المدة التي سيقضيها في الحياة البرزخية قبل يوم الحساب، ويخاف أن تكون أفعاله وأقواله لا ترضي الله وعباده ولا تسمح له بولوج الجنة، لذلك يستعين بهذه “الشراءات” لتعينه وتخفف عنه عبء ما اقترفه في حياته الدنيوية .
وواصلنا الحديث مدة من الزمن وأنا أستحضر مقولات الشيخ وأستوعبها، أحللها وأدقق فيها، وكنت شارد الذهن وخائفا من الممات لأول مرة، أنتظر توديع صديقي بفارغ الصبر لأشرع مثل الشيخ في تجهيز قبري مادمت قادرا على ذلك قبل أن تباغتني المنية ويضيق بي قبري ويزداد سواده وتشتد ظلمته ولا أجد من يؤنس وحدتي ويدافع عني حين أسأل من الملكين بعد مغادرة أهلي وقبرهم لي حين يحل موعد سفري ….
Discussion about this post