من النصوص التي استوقفتني لعمق المعنى و المجاز ، سأحاول قراءته بقلمي البسيط و حرفي المتواضع للشاعر العراقي كرار ناهي
………………….
العنوان هو الذي يوجه قراءة الأثر أيا كان ، رواية ، قصة ، مجموعة شعرية ، لوحة فنية … نص ، فهو العتبة
نص حالنا
عنوانه رمزي ذا شحنة استعارية مجازية
” #دمية_حية ”
يستوقفك فعلا العنوان ،و لا تعتبره مجرد عتبة للنص ، بل المعنى الذي اتى به ، يجعل من قلمك لا يكبح جماح حبره .
#دمية_حية : نصف جامد و نصف متحرك
نصف انعدمت فيه الحياة ، و نصف كله حياة ناهيك عن الإحساس و الشعور و التفاؤل و الأمل ، و كل ما يرتبط فعلا بالحركة و النشاط ، و ما الحياة إلا تلك الفترة ” الحية ” التي نحاول أن نعيشها .
جاء العنوان مقترنا ب نقطة تعجب ” ! ”
يوحي لنا بأن الشاعر مستغريا في عنونة النص ” دمية حية ! ” . عنوان يحمل استغراب ، باطنه سؤال انكاري و لفظان متضادان ” دمية : جماد ، حية : حياة .
اما الدمية فقد اقترن اسمها كلعبة بيد طفلة في السنوات الأولى من عمر الزهور ، و اقترنت كذلك بصورة الفتاة الجميلة ذات الوجه الصبوح و الشعر الأشقر ” غالبا ”
و لكن مَ سر دميتنا الحية في هذا النص ؟
يقول الشاعر :
الطَّفلة في الْمَمَر الخلفي، تَهَشَّمَتْ!
السطر واضح جدا ، يوجد طفلة في ممر خلفي ، ” تهشمت ”
لكن فعل تهشم يأتي مع شيء صلب ، مثلا الزجاج …وهنا نتساءل ، لماذا بهذه الطفلة في ممر خلفي ، و من تكون ؟
الممرات الخلفية غير الممرات ” الأمامية ” مهما كانت إنارتها عالية تبقى مظلمة .
نفكك جيدا ما أتى به السطر :
الطفلة : صغيرة بعد ، ما قبل سن الدراسة الى ما قبل سن الشباب ، و كل كيف يحدده
في الممر الخلفي : تحديد المكان ينبيء عن وجود ممر ” ربما سري ” حتما سيكون مظلما
فهل هذا يشعرنا كأول قراءة ” بسر نكتشفه معا كلما تقدمنا في قراءة النص ؟
أسْودَّ الماء :
الماء لا لون و لا رائحة و لا طعم له
ماء النص ” أسود ” بفعل فاعل ، فهل كان نبعه الأول من الممر الخلفي للنص ؟
و أي ماء ، ماء الحياة ام ” و جعلنا من الماء كل شيء حي ” فالفرق بينهما واضح ، الحياة و استمرارها ، و الحياة و ارتباطها الحتمي بالماء .
اسود الماء ، السواد غالبا مايقترن بالحزن ، و مراسم الدفن و العزاء ” هذا عادة ” ، فسواده في النص كما ذكرنا أعلاه مفتعل ، و هل يحزن الماء ؟
وتحجر في رسائِل المطر
حين ينزل الغيث ، تخضر الأرض ، يفرح الكون و ما فيه دون استثناء ، حتى الصخر ، فمن بين ثناياه ينبت الزهر ، و في بعض المطر رسائل ، فما هو سر تماهي الشاعر و رمزية ” الماء ” المطر في هذا النص ؟
يمكن ان يكون المطر في النص مطرا نازلا من السماء ، فهذا لا يتطلب لا تأويلا و لا شرحا ، و لكن إن ربطنا كامل المقطع نلاحظ رؤية جديدة تُقرأ من زوايا عديدة ، اتناول زاوية منها ،
أسْودَّ الماء،
وتحجر في رسائِل المطر
غطى الحزن المشهد ، و أبت الدمعة النزول ” تحجرت الدمعة في الجفون ”
و للشاعر رؤيته حين كتب البوح .
يقول شاعرنا :
تَرْكُض الريح في مسامات السُّؤال خُيُولًا من رَمْل!
حين تتدفق الأسئلة ، و لا تجد اجوبتها ، تزداد الحيرة ، مبهمة هي نقاط الوصول ، فتتبعثر نقاط الحروف و يتعمق المجاز و المعني :
تركض الريح ، الركض للخيل ، و الريح جاءت في صيغة المفرد لكن
اللغة لا تفرق بين “ريح” و”رياح” إلا في المفرد والجمع، لكن المشهور عند المفسرين أن لفظ “الرياح” إذا جاء في القرآن فإنه يأتي في موضع الرحمة، وإذا جاء لفظ “الريح” فإنه يأتي في موضع العذاب، وعللوا ذلك بأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة .
ريح الشاعر عنيفة جدا تركض كخيول من الرمل ” لا يحصى عددها ، و الرمل مع الريح إذا اصطدمت بجسم ، تقضي عليه بسرعة و نهائيا .
المجاز يحيلنا إلى مسامات السؤال ؛ و خيولا من الرمل ، هو ليس سؤالا واحدا ، بل هي مجموعة الأسئلة المبهمة التي لم نعرف الإجابة عنها ، حتى و ان فككناها و تغلغلنا فيها و في مساماتها كحبات الرمل ، عسى نظفر بجواب .
فهل تستطيع حبات الرمل غلق هذه المسامات ؟ الأسئلة كثيرة ..
الركض حد اللهاث في مسامات السؤال
و ” العطش، فَمٌ
أتَّسَعَ ”
و كأنك قريب من ومضة مستقلة عن النص ، قريبة من هايكو يباني ” اتسع ، فم ، العطش ” فالركض في مسامات السؤال كالركض وراء سراب في صحراء شاسعة ” خيولها من رمل ، تماما كتسرسبه من بين الأصابع .
طويلة جدا المسافات في النص ، لا نهاية لها ” ركض خيول من رمل و بحر غميق
أفلتْ ضفَّتي ظلامه اليابس
دون حدود ، يفتقر إلى ضفتي الأمان ، يفتقر إلى مد و جزر كبقية البحار ، غميق و مظلم .
صورة من صور الضياع بين عطش ركض وعطش ملح دون ضفاف ، أين اليابسة في هذا النص ، يابسة الإخضرار …
خَدَش وَجْه الضَّوء!
و أتعجب و الشاعر ، كيف يُخدش وجه الضوء ؟ !!!
و كيف يخدش وجه القمر ، وجه الشمس و وجه القصيدة ، وجه سكن الشاعر ، أضاء عتمته و خُدش ، هي الذات حين يبدأ تشوهها من عوامل خارجية ، كانت من النور ، فبدأت تأفل رويدا رويدا…
وصرخ :
وكأنه ب استفاقة من كابوس ، أو هي نهضة من وخزة مؤلمة
لدُميَّة حَيَّة
حرَّكت الهواء في عَقْل الشَّجرة ،
و الشجرة رمز التعمير ، ” أكسجين الحياة ” ، بل هي الحياة و الملجأ للطيور ” حرية مخفية ” مع كل صباح تنطلق و تتجدد ،
ظل صرخ لدمية حية ، ما هذا الإنزياح في اللغة ؟
انزياحا يركز على المكان والزمان عبر حشد من الأسئلة المبطنة و الإستغراب بالنسبة للقاريء ، استحضر فيه الشاعر الحلم و اليقضة ، و الحقيقة ، و الخيال حد الغرق .
قد يحيلني الحديث في هذا النص و أقر فعلا ان النصوص الفلسفية يصعب الربط بين ما جاءت به من أفكار ، من صور …
لكن النصوص الفلسفية التي تتحدث عن الوجودية تقر بان الوجود يسبق الجوهر .
في محاضرة ألقاها وصف فيها سارتر الوجودية على أنها: “محاولة لاستخلاص جميع النتائج من الموقع الثابت”. “البحث عن معنى في عالم لا معنى له”، مع مراعاة أقل من “ما هي الحياة الجيدة؟ “. لتشعر أو تكون أو تفعل شيئا جيداً .
وفقًا لألبير كامو العالم أو الإنسان ليس في حد ذاته عبثيا. لا يظهر المفهوم إلا من خلال تجاور الاثنين؛ تصبح الحياة عبثية بسبب عدم التوافق بين البشر والعالم الذي يعيشون فيه. يشكل هذا الرأي أحد تفسيرين للعبث في الأدب الوجودي
و نص حالنا ، استحضر فيه الشاعر عناصر من الطبيعة ، الماء ، المطر ، الرمل ، البحر ، الضوء ، الهواء ، الشجر ، كل العناصر تقريبا وجدت للحياة ، يبقى الإنسان او البشر ، او من سيستهلك هذه الطبيعة ، في النص كانت ” دمية حية ” كمن يحركها بخيوط مشنكلة باليدين ” حسب رغبة المحرك ، رقص ،مشي ، نوم ….
فأراها كقارئة ” الذات البشرية ” و ما تعانيه من صراعات أضداد داخلها ، أتى خلالها ايقاع النص ، بين علو و الإرتطام دون ارتداد ، بين سماء و أرض حد ” الغرق ” ، بين ماء ، و صحراء ، ارتواء حد العطش .
………
فيتضح جليا مما تقدم ، ان الشاعر حاول وصف صراع داخلي بين العديد من الأضداد ، حاول أيضا التصعيد بمعنى افراغ شحنة تراكمات زمن لم يحدده في النص ، ثم أتى بهذه الدمية حركها و لكن للأسف غرقت في غميق الحياة .
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️
دمت بهذا الإبداع أيها الشاعر و دام مداد حرفك 🌻
#النص
دُمية حَيَّة!
الطَّفلة في الْمَمَر الخلفي، تَهَشَّمَتْ!
أسْودَّ الماء،
وتحجر في رسائِل المطر
تَرْكُض الريح في مسامات السُّؤال خُيُولًا من رَمْل!
العطش، فَمٌ
أتَّسَعَ
البَحْر أفلتْ ضفَّتي ظلامه اليابس
خَدَش وَجْه الضَّوء!
وصرخ :
دُميَّة حَيَّة
حرَّكت الهواء في عَقْل الشَّجرة،
وَغَرقَت .
بقلم ✍️ #كرار_ناهي







Discussion about this post