من ذاكرة العيادة
حدث حقيقي شيق وحزين
حدث شيق وحزين عشته فترة عملي
في زاخو طبيبة قرى وأرياف
سنة 1972- 1974 – بقلم الدكنورة فيان نجار
الوقت ربيع نحن في شهر مارس / آذار ، ننتظر حلول عيد نوروز ، كنا نتهيأ له بخياطة أجمل البدلات الكوردية لمناسبة العيد والتي تضيف بألوانها الخلابة جمالا إضافيا للطبيعة الخلابة في زاخو ! حيث جمال الطبيعة يطغي على سهولها ، ووديانها وتلالها وجبالها ، وترتدي جميعها أجمل كسوة لها وهي من الخضار المنتشر فيها مختلف ألوان ورود الربيع ! ربيع زاخو الزاهي ينتعش بخرير خابورها الهادر ، ومرور رياحها وهي تجتاحها بكل رفق وحنان ، وبإطلالة الربيع يبدأ الدفئ المريح الذي يكتسح الجو ويلطفه للساكنين ويسري ويدب في النفوس ، تتناغم معه حياة العاشقين والمحبين وتزيد رغبتهم للقاء بعضهم البعض ! وهناك أنغام الموسيقى وجمال الأصوات المنبعثة مع أغاني الحب بأشجى الألحان المتميزة لأغانينا نحن الكورد في مقاهي الربيع المزينة بأضوية مختلفة الألوان والمطلة على ضفاف الخابور !
حادثة اليوم تتعلق بشخصين غلبهم العشق والغرام فتى وفتاة في منطقة قريبة من زاخو ! بمجيئ الربيع أصبح لهيب حبهم وغرامهم في أوجه ! أهل الفتاة وقفوا ضد هذا الحب المتوهج كالمعتاد ! لاقيمة لرأي الفتاة ! مشاعرها تهمل وقرارها بيد الأهل والأعمام ! والزواج يتم بصفقات الإستفادة من المال أو الجاه !
قصتهم تبدأ برفض أهل الفتاة للفتى مما خلق لديهم روح التحدي الأعمى لإنتصار حبهم رغم الجميع وترتيب قرار فرارهم معا لزاخو في ليلة ظلماء تهيؤا له دون التفكير بالعواقب والأقدار والمفاجئات ! حيث رأوا في زاخو المكان المناسب لهم لينتعش فيه حبهم ويترعرع مع ماذكرته من أجواء جميلة ومريحة لعاشقين مثلهم !
في الساعة الثامنة صباحا كنت جالسة في غرفتي الخاصة حيث مسؤوليتي فحص ومعالجة مراجعي المستشفى من النساء ! حسب إتفاقنا نحن الأطباء في مستشفى زاخو ! المدير د. شمعون مسؤول عن فحص الرجال مرضى الباطنية ود. يونس مسؤول عن فحص الرجال حالات الجراحة ! الدكتور محمد حمامي مسؤول عن الأطفال ! الدكتورة. نوار الأطرقجي مسؤلة عن مراجعي المستوصف ! كانت هناك ردهتين للكبار واحدة لإدخال الرجال وردهة لإدخال النساء وهناك ردهة للأطفال وردهة لحالات الطوارئ ! وكل الأطباء لهم نفس الحق بإدخال المرضى لهذه الردهات ومعالجة المرضى فيها والحالات الصعبة تحول من قبلنا إلى مستشفى دهوك الجمهوري حيث كانت فيها الأختصاصات ! لأننا وقتها كنا في بداية تخرجنا ، وتدريبنا ، وتدرجنا الطبي أي فترة القرى والأرياف ! وكان هناك أيضا طبيب أسنان أو طبيبة أسنان وصيدلي ومساعد صيدلي ومحلل يقوم بتحاليل بسيطة في مختبر مستشفى زاخو ! يصل عدد المراجعين اليومي لكل طبيب حوالي 100 مريضة أو مريض من الساعة الثامنة صباحا وإلى الساعة الثانية ظهرا ! كانت المراجعة مجانا والدواء مجانا ! وعند إنتهاء الدوام كنا نلاحظ كثير من الأدوية مرمية في ساحات المستشفى مع الورقة الملفوفة بشكل مخروطي على الدواء الموصوف من قبلنا لهم ! أبتسم لرؤيتها وأتذكر الإزدحام الصباحي والسرعة التي أعمل بها مع محاولة السيطرة على هدوئي رغم الإزدحام والتعب المستمر ! وأمام باب كل غرفة من غرف الأطباء كان يقف شرطي واحد لينظم دخول المراجعين لغرفة الطبيبة أو الطبيب ويمنع التجاوزات والإعتداء !
صبيحة يوم الحادث دخل الشرطي الذي كان يقف على باب الغرفة العائدة لي في المستشفى لإعلامي بوجود قضية شرطة تعود لفتاة أتى بها شرطيان من مركز شرطة زاخو ! كانت ورقة الشرطة فيها طلب إجراء الفحص على الفتاة التي كانت بصحبتهم لأثبت لهم إن كانت باكر أو لا ! طلبت إدخالها لوحدها وإبقاء الشرطيين بالباب دخلت لغرفتي فتاة جميلة بطولها الفارع الجميل وعضلات جسمها المتناسقة التي تنطق بقوتها وحيويتها ، مرتدية بدلة من اللباس الكوردي الجميل بلونه وخياطته للمناسبة التي هي متحضرة لها وهي الزواج ! كانت سافرة دون عباءة أو غطاء للرأس ! حيث القرى المحيطة بزاخو كانوا مستمرين وملتزمين بإرتداء اللباس الأصلي للمرأة الكوردية ! وكانت الفتاة ذات ظفائر طويلة بلون السنابل ووجه برونزي محترق بشمس الربيع !إحمرار خديها زاد من جمال وجهها ونظرات عينيها الواسعتين العسليتين تائهتين ومليئتين بالخوف والقلق وفيهما حزن دفين ! أجلستها لترتاح ثم سألتها بلطف شديد ! ماهو موضوعها ؟ ولماذا هي هنا اليوم مع طلب إثبات بكارتها ؟ أعلمتني بحزن شديد وهي تنظر من شباك غرفتي إلى شيئ مجهول لم أفهمه منذ البداية ! حيث بدأت قصتها بهروبها ليلا مع عشيقها وأخوه الأصغر معهم لتضمن عدم تحرش الحبيب بها رغما عنها وعنه من شدة الحب الذي بينهما ! لحين وصولهم إلى زاخو وعقد قرانهم في محكمة زاخو والأخ يكون عليهم حارسا لمنع الخطأ وشاهدا على زواجهم الصحيح مع شخص آخر يجدوه وقتها ! كانت قصتها مثيرة جدا أول مرة أسمع بهكذا قصة حقيقية وبطلة القصة معي وأمامي أستمرت بسرد قصتها بأنهم خرجوا من القرية بحلول الليل وكانوا ثلاثتهم متهييئين لها ! كان لقائهم في منطقة معينة من قريتهم وتحت ظلام الليل بدأ مسيرهم على الأقدام في الحشائش والأحراش تارة والصخور والرمال تارة أخرى وبين الركض والمشي السريع ليصلوا سريعا إلى مبتغاهم وهدفهم المرسوم بإلتقائهم السريع كحبيبين بالزواج الحلال رغم المعارضين ! ظهرت لهم خيوط الصباح وتقربوا من زاخو لكن حية سامة كانت لهم بالمرصاد تتمايل بزحفها السريع نحوهم في ذلك الصبح الباكر بين الحشائش التي سلكوها في طريقهم إلى زاخو ولدغت حبيبها التي تركت عالمها الخاص بين أهلها من أجله وكانت دمعة كبيرة تنسكب من كلتا عينيها وهي لاتزال تنظر من خلال الشباك ! سألتها مجددا وماذا حدث بعدها ؟ لأمنعها من الإستمرار في البكاء ! أكملت بأن الأخ لم يستطيع حمله بعد لدغ وهروب الحية ! لكنني اضطررت لحمله على ظهري لأستطيع إنقاذه وجئت به للمستشفى والآن هو راقد في إحدى ردهات مستشفاكم وأخوه معه والمستشفى أبلغت عني الشرطة لحمايتي وهم الآن طلبوا فحصي من قبلكم لكنني أقسم بأنه لم يمسني وكنا ننتظر زواجنا بالحلال ! أخبرتها بأن الفحص ضروري لحمايتها ! وقمت به بحضور ممرضة دعوتها للتواجد معي ! وجود الممرضة ضروري جدا في هذه الحالات ! كشاهد لحماية الطبيبة التي تقوم بالفحص من الإدعاءات الكاذبة بأنها تسببت في تمزق غشاء البكارة لدى الفحص في حال يكون غشاء البكارة متمزق بسبب ممارسات الجنس ! وعلى الطبيبة الفاحصة التأكد من وجود تمزقات غشاء البكارة القديم منه والجديد مع الوصف الدقيق لأن هذه الفروقات مهمة جدا لقرار الحاكم بإدانة أو تبرئة المتهم ! يتم الفحص من قبل لجنة من الأطباء أو بوجود الممرضة مع الطبيبة الفاحصة عند عدم توفر اللجنة ! وبإرتداء الكفوف المطاطية فقط يتم الفحص ! وعدم إستعمال أي آلة حديدية !
ثم تدون الملاحظات بأمانة في ورقة الشرطة !
لدى إجرائي الفحص على هذة الفتاة الجميلة وبحضور الممرضة لم أرى أي أثر لممارسة الجنس معها ! كانت الفتاة باكر ! كنت حزينة من أجلها وهي فتاة عاقلة موزونة قويه صادقة وجميلة ! ظلمت من أهلها بسبب حبها ورفضهم إختيارها لشريك عمرها مما أدى خطأ أهلها وتصرفهم الغير مدروس لإختيارها هذا الطريق الخاطئ لمعالجة موضوع حبها والدفاع عنه ! حيث واجهت في النهاية كل هذه الإحراجات والآلام القاسية والمصير المجهول ! ساعدتها للنهوض وارتداء ملابسها كما كانت قبل الفحص بعد أن أعلمتها بأنها صادقة وإنها باكر ضحكت ! وقالت أعلم دكتورة ! لم أنطق بشيئ يخالف الحقيقة !
أكملت كتابة التقرير للشرطة التي يتم من خلاله ويؤكد تبرأتها وتبرأة حبيبها من أي فعل خاطئ ! وإذا بها تتوسل بشدة أن أساعدها قبل أن أسلمها للشرطة لأنهم سيأخذونها لمركز الشرطة ! وطلبها كان أن أرافقها للردهة التي يرقد فيه حبيبها لأدعها تلقي نظرة أخيرة على حبيبها ! بقيت حائرة لأن المراجعين أمام غرفتي كانوا ينتظرون وهم غير متعودين على الإنتظار لفترة طويلة لكنني أيضا رأيت أن لاأكسر قلب هذه الفتاة أكثر فناديت الشرطي الواقف ببابي من خلال جرس وسألته إذا كانت هناك حالة طارئة ! نفى وجود الحالات الطارئة ! أخبرته بأنني سأرافق الفتاة لبعض الوقت صاحبة قضية الشرطة ليعلم المرضى المنتظرين وبعدها أقوم بفحصهم ومعالجتهم !
بوصولنا للردهة التي يرقد فيه حبيبها كان فكري مشغولا بشيئ واحد ومنصبا للتركيز على حجم ووزن حبيبها وكيفية إستطاعتها حمله على ظهرها بعد أن لدغته الحية رأيته شابا في متوسط عمره ، معتدل الطول والبدانة ذو ملامح لطيفة كانت اللدغة واضحة في ساقه الأيمن ! وساقه تلك كان فيها ورم شديد وحسب ملاحظتي فترتها كان محيط ساقه الملدوغة مقارب الى محيط خصره ! كان الفتى في حالة صدمة شديدة وطبيبه المعالج د. يونس كان قد أمر بإعطائه المغذي من خلال أوردة كلتا يديه وكانوا قد ربطوا ساقه بباندج فوق منطقة اللدغة ومستمرين بتهيئة سيارة الإسعاف ليتم إرساله بها إلى مستشفى دهوك الجمهوري وكذلك تهيئة مضمد لمرافقته في الإسعاف لحين إيصاله إلى مستشفى دهوك ليتم معالجته فيها بصورة أحسن حسب رأي طبيبه المعالج د. يونس وليتم إعطائه الدواء المضاد لسم الحية الذي لم يكن متوفرا لدينا في وقته ! وهو دواء يمنع سم الحية بالإستمرار لتكسر وتحلل خلايا الدم والتي تسمى Haemolysis
وكذلك إتلاف خلايا عضلات الجسم وتأثيرها على جميع خلايا وأجهزة الجسم بصورة عامة ! والذي يؤدي للموت من لدغة الحية السامة ! من الضروري معرفة نوع الحية لمعرفة نوع السم لديها وماهو الدواء المضاد له ! وعند عدم معرفة نوع الحية ! الدواء المضاد يكون لمزيج من السموم وحسب أشهر أنواع الحيات في تلك المنطقة التي يحصل فيها لدغ الحية للإنسان !
وإذا بالفتاة تركض إلى حبيبها وتقبله في جبينه لتودعه !
كان هذا آخر لقاء بينهم وهو في حالة فقدان الوعي الكامل ولا أظن بأنه شعر بها ! ثم تبعت الفتاة الشرطة الذين كانوا على عجلة من أمرهم لأخذها للمركز رجعت الى غرفتي لأكمل فحص المرضى الذين ينتظرونني وبعد فترة وجيزة سمعت بوفاته حتى قبل نقله بالإسعاف إلى مستشفى دهوك ! عشت يومي كله حزينة ! أتذكر حبهم ونضالهم من أجل إنقاذ حبهم الذي لم يكتب له النجاح ! وفكرت كثيرا بدور الأهل ورأيهم المتعصب والغير المدروس الذي يسبب تحطيم وتعاسة أولادهم
الدكتورة ڤيان نجار
14/7/2016
Discussion about this post