*الرّغيف الطّازج*
نهضت فاطمة، وهي أرملة شابّة، في الثّلث الأخير من اللّيل، رغم البرد القارس، والأمطار الغزيرة، والرّياح العاصفة الّتي تكاد تقتلع خيمتها البلاستيكية المتواضعة الّتي نصبها لها جارها محمّد في المخيّم على الشّاطئ لتحتمي بها مع أبنائها الصّغار من القرّ، وصلّت صلاة التّهجّد الّتي اعتادت على أدائها بكلّ خشوع. ولمّا أذّن المؤذّن لصلاة الفجر، أدّتها في تذلّل وخضوع للّه، وقد تبتّلت إليه تبتُّلا، ودعته أن يفرّج كربها وييسّر حالها، وينصر شعبها على العدوّ الصّهيونيّ الغاشم. ولمّا فرغت من الصّلاة، تفقّدت أبناءها الصّغار، فوجدتهم يرتعشون من البرد والجوع بسبب فقدانهم للطّعام والغطاء الكافيين، وللمنزل الّذي كان يحميهم بعد أن هدّمته صواريخ العدوّ القاهرة، وأجبرتهم على النّزوح في رحلة طويلة وصعبة وسط القصف والخوف والرّعب والتّعب والتّفتيش والإهانة من مدينة غزّة في الشّمال إلى مدينة رفح في الجنوب الّتي استقبلتهم بصدر رحب رغم الظّروف القاسية الّتي يعيشها الجميع دون استثناء في هذه الفترة العصيبة من العدوان الصّهيونيّ على مقاطعة غزّة إثر عمليّة طوفان الأقصى البطوليّة…
تركت فاطمة أبناءها نياما بعد أن غطّتهم جيّدا بما تيسّر من الأغطية، ورسمت على جباههم قبلات حنان، وأوصت جارتها مريم بتفقّدهم بين الفينة والأخرى إلى حين عودتها إليهم مُحَمَّلة ببعض أرغفة الخبز من مخبزة المدينة، فأبناؤها لم يتذوّقوا طعمه منذ ثلاثة أيّام متتالية، ولولا الأرز المسلوق الّذي كانت تتحصّل عليه من أهل الخير لما استمرّوا في الحياة…
طمأنتها مريم قائلة:
– لا تخافي ولا تجزعي يا فاطمة، فأبناؤك هم أبنائي، سأعتني بهم كفلذات أكبادي.
ابتسمت فاطمة ابتسامة خفيفة، حزينة، وقالت لها:
– شكرا لك يا مريم، دمتم في رعاية اللّه وحفظه.
أسرعت فاطمة الخطى، وهي تعُدّ نقودها القليلة، وتمنّي نفسها بالوصول باكرة إلى المخبزة. ويا لخيبة مسعاها، لقد وجدت صفّا طويلاً جدّا من أبناء وطنها، شِيبا وشبابا، رجالا ونساء، كلّهم جاؤوا من أجل الظّفر ببضع أرغفة من الخبز الطّازج. اصطفّت وراء من سبقوها في الوصول إلى المخبزة، وبقيت تنتظر دورها للحصول على الكنز الثّمين. مرّ الوقت بطيئا، ثقيلا، كئيبا ككآبة هذا الشّعب الأعزل المظلوم…
كانت فاطمة من حين إلى آخر تتجاذب أطراف الحديث مع بعض النّسوة اللّاتي كنّ يروين مآسيهنّ، وقد مرّ من الوقت قرابة سبع ساعات منذ وصولها، فحان دورها، وحصلت على ثلاثة أرغفة من الخبز الطّازج اللّذيذ، فانشرح صدرها، وانبسطت أسارير وجهها، وأصبح حلمها حقيقة…
سارت فاطمة عشرات الأمتار مسرعة نحو خيمتها
لإطعام أبنائها، وفجأة سمع الجميع أزيز طائرات مسيّرة تحلّق في السّماء باعثة الرّعب والخوف والجزع في النّفوس، فتسارعت نبضاتهم، وارتجفت أوصالهم، وارتفعت أصواتهم وأكفّهم إلى السّماء داعية، مُتضرّعة للّه، طالبة الحفظ والسّلامة…وما هي إلّا لحظات حتّى ابتدأ القصف الهمجي العنيف، فتناثرت الجثث والأشلاء في الشّارع، وتهدّمت المخبزة والمنازل المحيطة بها، وصارت رُكاما وغُبارا، واشتعلت فيها النّيران، وتصاعت منها أعمدة الدّخان، وارتفعت أصوات الاستغاثة والألم من كلّ مكان، وسالت الدّماء أنهارا وَوُديانا…
في تلك اللّحظات احتمت فاطمة بأقرب بناية رغم علمها بأنّ كلّ المباني في قطاع غزّة هي هدف مُحتَمل للقصف… وبعد بضع دقائق غادرت طائرات العدوّ سماء المنطقة، فهرعت فاطمة لمساعدة الجرحى والمصابين، وهي الّتي تلقّت تكوينا سريعا في الإسعافات الأوّليّة، علّها تنقذ بعضهم. لكنّ رصاصة غادرة أصابتها في ظهرها، ولم تمهلها لإكمال مهمّتها النّبيلة. فقد كان يترصّد خطواتها السّريعة قنّاص صهيونيّ جبان من إحدى البنايات الشّاهقة بمنظار بندقيّته المجرمة، فسقطت على الأرض تتلوّى من الألم، وفي يدها أرغفة الخبز الّتي تضمّخت بدمائها الطّاهرة، وفي عينيها مزيج من دموع الفرح بنيل الشّهادة الّتي طالما حَلم بها كلّ فلسطينيّ حرّ يرغب في العيش في أمان وسلام ككلّ البشر على وجه البسيطة، ودموع الحزن على فراق أبنائها، قرّة عينها، قبل إطعامهم الخبز الّذي وعدتهم باقتنائه لهم…
كمال العرفاوي في 13 / 02 / 2024