في مثل هذا اليوم 12 ابريل1861م..
بدء الحرب الأهلية الأمريكية في ولايات الجنوب.
تعدّ الحرب الأهلية الأميركية من أفظع الأحداث الدموية التي عصفت بالاتحاد الفدرالي الأميركي على مدى تاريخه منذ حرب الاستقلال، وقعت أحداثها بين عامي 1861 و1865، وشارك فيها أكثر من 3 ملايين جندي من ولايات الشمال والجنوب.
نشبت هذه الحرب بين ولايات الشمال الأميركي التي يشار إليها بـ”الاتحاد الفدرالي”، وولايات الجنوب التي سمّت نفسها “الكونفدراليين”.
وانتهت الحرب باستسلام الكونفدراليين، وإعلان قانون “إلغاء العبودية”، وشمول الاتحاد الفدرالي جميع الولايات الأميركية، وسقوط أكثر من 800 ألف قتيل من الطرفين.
أسباب الحرب الأهلية الأميركية
يمكن إجمال أسباب الحرب الأهلية الأميركية في 3 محاور متشابكة ومترابطة: أخلاقية واقتصادية وسياسية توسعية، وتتداخل المحاور بطريقة يصعب فيها الفصل بينها.
الأخلاقية
تتمثل في نظام الرِّقّ (العبودية)، ففي الوقت الذي شرّعت فيه ولايات الشمال القوانين لتحديد الرق في أضيق نطاق، بل عملت على إلغائه وتحريمه في بعض الولايات، فإن ولايات الجنوب توسّعت في العبودية إلى الحد الذي أصبح فيه نظام الرق هو كلمة السر في اقتصادها المتمثل أساسا في الزراعة التي تعتمد اعتمادا كلّيا على سُخرَة العبيد المجلوبين من أفريقيا.
الاقتصادية
كان العمود الفقري للاقتصاد الشمالي يتمثل في الصناعة وقطاع البنوك والتأمين ووسائل النقل والاتصال، بينما تعتمد الولايات الجنوبية على الزراعة والاستثمار في المحاصيل الإستراتيجية كالقطن والحبوب، وكانت تجارة العبيد، الضرورية لهذا القطاع، تلقى رواجا باهرا، وكان كثير من الإقطاعيين يستثمرون في نقل العبيد من أفريقيا.
وقد أفرز هذا الاختلاف في النشاطات الاقتصادية تباينا حادّا في حجم الثروة بين الشمال والجنوب، فدخل المواطن الجنوبي كان يعادل ضِعف دخل المواطن الشمالي، وكان 60% من أغنى أغنياء البلاد موجودين في الجنوب.
السياسية التوسعية
كان الشماليون يخشون أن يمتد نفوذ الجنوبيين إلى الولايات الغربية التي انفصلت عن المكسيك وانضمت إلى الاتحاد الأميركي، وبذلك سوف تصاب بعدوى العبودية التي ناضل الشماليون من أجل إلغائها.
وفي هذا الإطار، كان السبب المباشر لاندلاع الحرب هو وصول الرئيس أبراهام لنكولن المدافع عن حقوق الإنسان والداعي إلى المساواة بين الإخوة في الإنسانية إلى سدة الحكم عام 1860.
تمثال الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن في واشنطن بني عام 1922 تخليدا لجهوده في إيقاف العبودية (رويترز)
بداية الحرب
بدأت إرهاصات الحرب بحركات انفصالية في ولايات الجنوب في 20 ديسمبر/كانون الأول 1860 بانفصال كارولينا الجنوبية عن الولايات المتحدة. وبين يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 1861 انفصلت 6 ولايات جنوبية أخرى عن الاتحاد الفدرالي، وهي ميسيسيبي وفلوريدا وألاباما وجورجيا ولويزيانا وتكساس.
وفي مؤتمر عقد في مونتغومري بألاباما، أعلنت تلك الولايات السبع نفسها “الولايات الكونفدرالية الأميركية”، واختاروا السيناتور عن ولاية ميسيسيبي جيفرسون ديفيس ليكون رئيسها، ثم انفصلت لاحقا عن الاتحاد الفدرالي 4 من الولايات الواقعة على الحدود بين الشمال والجنوب، وانضمت أيضا إلى الكونفدرالية، وهي أركنساس وتينيسي وفرجينيا وكارولينا الشمالية.
اندلعت الحرب الأهلية فعليا في 12 أبريل/نيسان 1861، عندما حاصرت قوات انفصالية من الجنوب حصن فورت سمتر (الواقع على جزيرة قبالة الساحل) من مدينة تشارلستون بولاية كارولينا الجنوبية، وكانت تسيطر عليه قوات من الاتحاد الفدرالي الشمالية، وفي اليوم التالي وبعد نار كثيفة من القوات الجنوبية استسلمت قوات فورت سمتر “الشمالية”، وهكذا بدأت الحرب الأهلية.
معركة غيتيسبيرغ استمرت نحو 4 أعوام بين عامي 1861 و 1865…..
لم يكن رد فعل لنكولن قتاليا، بل أرسل إمدادات غذائية عبر البحر للقوات المحاصَرة في الحصن، لكن الجنوبيين أطلقوا النار على قوارب الإمداد غير المسلحة، فاضطر لنكولن، وبضغط من مجلس الشيوخ، إلى استنفار 75 ألفا من المليشيا المسلحة لإنهاء “التمرد” الانفصالي، في مهمة مدتها 3 أشهر فقط، لإعادة توحيد البلاد.
وللوهلة الأولى بدا أن الولايات الـ23، التي بقيت في الاتحاد بعد الانفصال، أكثر قوة بمراحل من الولايات الجنوبية الـ11، حيث يعيش ما يقارب 21 مليون شخص في الشمال مقارنة بنحو 9 ملايين في الجنوب، منهم نحو 4 ملايين من العبيد. وفضلا عن ذلك، كان الاتحاديون يتفوّقون بـ30 ضعفا في إنتاج الأسلحة، وضِعف القوى العاملة، وجيش نظامي وبحرية فاعلين.
كان الوضع على الأرض مختلفا، ففي 21 يوليو/تموز 1861 وقعت معركة بول ران الأولى (المعروفة في الجنوب باسم ماناساس) حيث أَجبر 35 ألف جندي كونفدرالي بقيادة توماس جاكسون عددا أكبر من قوات الاتحاد على التراجع نحو واشنطن، لتتحطم الآمال في تحقيق نصر سريع للاتحاد، فدفع ذلك لنكولن إلى استدعاء نصف مليون مجند إضافي، إذ بات واضحا أن الحرب لن تكون قصيرة أو محدودة.
أهم المعارك والمحطات
يوضح الخط الزمني التالي سير أحداث الحرب الأهلية الأميركية، منذ انفصال ولاية كارولينا الجنوبية في 20 ديسمبر/كانون الأول 1860، وحتى استسلام القوات والجنوبية، ومن ثم اغتيال لنكولن في 14 أبريل/نيسان 1865:
في 20 ديسمبر/كانون الأول 1860 انفصلت كارولينا الجنوبية، إحدى أغنى الولايات في البلاد، وهي أول من انفصل في أعقاب انتخاب لنكولن مباشرة. وأشار قانون الانفصال فيها إلى عداء الشمال للعبودية وانتخاب حزب طائفي على أنها أسباب لنشأة تلك الدولة.
في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من 1861 التزمت كل من ميسيسيبي وفلوريدا وألاباما وجورجيا ولويزيانا وتكساس بالانفصال في عام 1861، لتشكل هذه الولايات “الولايات الكونفدرالية الأميركية”، وانتخبت جيفرسون ديفيس رئيسا لها، ووضعت مسودة دستور يحاكي دستور الولايات المتحدة باستثناء المصادقة الصريحة على العبودية.
في 4 مارس/آذار 1861 دعا لنكولن، في أول خطاب له، إلى السلام مع الولايات المنفصلة، مشيرا إلى أنه “على الرغم من توتر المشاعر” فالشمال والجنوب “يجب ألا يكونا أعداء”.
American Civil War
الحرب خلّفت أكثر من 700 ألف قتيل وهذا الرقم يفوق خسائر الولايات المتحدة في جميع الحروب التي خاضتها (الفرنسية)
في 12 أبريل/نيسان 1861 حدث أول تبادل لإطلاق النار في الحرب الأهلية قبالة سواحل كارولينا الجنوبية في حصن سمتر، وأرسل لنكولن، تحت الضغط، المؤن إلى الحامية التي لم تكن مأهولة سابقا وأخطر الانفصاليين بنواياه، لكن جيفرسون ديفيس اتخذ قرارا بإطلاق النار على القارب غير المسلح، فأدى ذلك إلى استسلام القوات الفدرالية وجلائها.
في 15 أبريل/نيسان دعا لنكولن الولايات الشمالية إلى توفير 75 ألفا من مسلحي المليشيات لمدة 3 أشهر، وكان يعتقد أنها تكفي لاستعادة الاتحاد، وفي ذلك اليوم وقعت مناوشات صغيرة في ولاية فرجينيا الغربية.
من 17 أبريل/نيسان إلى 21 مايو/أيار، أجبرت الأعمال المسلحة في فورت سمتر فرجينيا وأركنساس وتينيسي وكارولينا الشمالية على الوقوف إلى جانب الكونفدرالية، بينما قاتل لنكولن من أجل التمسك بالدول الحدودية المتبقية في ديلاوير وماريلاند وكنتاكي وميسوري.
في 21 يوليو/تموز حدثت أول معركة كبرى في الحرب الأهلية عندما دفعت المطالب العامة والسياسية جيش الاتحاد غير المجهَّز إلى معركة في فرجينيا، ولكن مع وصول التعزيزات الكونفدرالية تراجع جيش الاتحاد سريعا إلى واشنطن العاصمة.
في 17 يوليو/تموز وافق الكونغرس الـ37 على تجنيد ما عرف بـ”القوات السوداء” في مليشيات الاتحاد، وشكَّل هذا خروجا ملحوظا عن سياسة إبعاد الجنود السود، الحريصين على التجنيد. –
صورة من الحرب الأهلية الأميركية لعبيد هاربين تم تحريرهم عند وصولهم إلى الشمال (شترستوك)
في 30 أغسطس/آب 1862 هزم الجنوبيون بقيادة جاكسون وروبرت لي القوات الشمالية في معركة بول ران الثانية، وأعادوها إلى واشنطن ثانية.
في 17 سبتمبر/أيلول 1862 هاجم الجيش الاتحادي قوات روبرت لي في يوم أصبح أكثر أيام القتال دموية في الحرب، حيث بلغ إجمالي عدد الضحايا في معركة أنتيتام (المعروفة أيضا باسم معركة شاربسبورغ) نحو 13 ألف جندي من قوات الاتحاد، و14 ألف جندي من جيش الكونفدرالية. وكان انتصار الاتحاد في هذه المعركة حاسما، حيث أوقف تقدم الكونفدرالية في ماريلاند وأجبر لي على التراجع إلى فرجينيا.
في الأول من يناير/كانون الثاني 1863 أصدر لنكولن إعلان تحرير العبيد، مشيرا إلى أن العبيد داخل الكونفدرالية المتمردة “أصبحوا من الآن فصاعدا أحرارا إلى الأبد”، وينطبق هذا الإعلان على أكثر من 3 ملايين من عبيد الكونفدرالية فقط، دون العبيد في ولايات الاتحاد.
في 13 يوليو/تموز 1863 أدى وصول ضباط التجنيد إلى مدينة نيويورك إلى أعمال شغب في أعقاب إعلان تحرير العبيد، وتصاعدت التوترات بين فقراء الحضر في الشمال لأنهم يخشون المنافسة على العمل عند هجرة العبيد المحرّرين حديثا. ورفضَ رجال الطبقة العاملة ومعظمهم من الأيرلنديين في نيويورك (المحبطين بالفعل من الانخفاض الحاد في الأجور) التجنيد للقتال، وأدى ذلك إلى 3 أيام من الاحتجاج العنيف، لا سيما استهداف المواطنين السود والصحف الجمهورية، وأُرسلت قوات من جيتيسبيرغ إلى المدينة لاستعادة النظام.
V
رسم لمعركة “بيا ريدج” في مايو/أيار 1862 بالقرب من ليتاون بشمال شرقي فايتفيل والتي انتهت بانتصار الاتحاديين (غيتي)
في 2 سبتمبر/أيلول 1864، وتحت قيادة الجنرال وليام شيرمان، استولى جيش الاتحاد على معقل الكونفدرالية في أتلانتا، وشرع في حملة تدمير بهدف كسر إرادة الجيش الكونفدرالي.
في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1864 عززت النجاحات العسكرية حملة لنكولن الانتخابية ضد الديمقراطي الجنرال جورج ماكليلان، وأعيد انتخاب لنكولن بأغلبية ضئيلة.
في 9 أبريل/نيسان 1965 وصلت تعزيزات الاتحاد إلى محكمة أبوماتوكس في فرجينيا لتأمين استسلام الجنرال روبرت لي، ومثّل هذا النهاية الفعلية للحرب الأهلية.
في 14 أبريل/نيسان 1865، وفي محاولة لإلقاء الاتحاد في فوضى انتخابية، قامت مجموعة من المتعاطفين الكونفدراليين من ولاية ماريلاند بمؤامرة لاغتيال الرئيس لنكولن ونائبه ووزير الحرب، ونجح جون ويلكس بوث في اغتيال لنكولن أثناء حفل مسرحي في واشنطن، ومات في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، وأُعدم المتورطون في اغتياله وأصبح أندرو جونسون رئيسا.
الخسائر البشرية
أشارت الإحصائيات وتقارير المؤرخين إلى أن هذه الحرب الدامية خلّفت أكثر من 750 إلى 800 ألف قتيل من الجانبين، الاتحادي والكونفدرالي، وهذا الرقم يفوق خسائر الولايات المتحدة في جميع الحروب التي خاضتها، بما في ذلك الحربان العالميتان الأولى والثانية.
وذلك بالإضافة إلى عدة ملايين من الجرحى والمشرّدين، كما أدت هذه الحرب إلى دمارٍ كبير في البنى التحتية، وخراب واسع في الولايات الجنوبية.
عبيد هاربون تجمعوا في مزرعة سابقة لجنرال كونفدرالي بعد احتلال القوات الفدرالية لها وبدؤوا بتجارة القطن (غيتي)
النتائج السياسية للحرب الأهلية الأميركية
ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى باشر الاتحاد بتعزيز الحكومة الوطنية وإعادة الإعمار، إلى جانب منح الحقوق المدنية للعبيد المحررين في جميع أنحاء البلاد، وأصدر الكونغرس الموحد قانونين في ديسمبر/كانون الأول 1865؛ الأول ينص على إلغاء الرقيق للأبد، وذلك بموجب التعديل الدستوري رقم 13، والثاني على دفع تعويضات خاصة بمسألة الرقيق.
وعلى الرغم من تبشير لنكولن بأنها “ولادة جديدة للحرية”، فإن الحرب ألقت بظلالها على تاريخ الجنوب، وشكّل إرثها كثيرا من التطور اللاحق للأمة الأميركية، وما زالت الذاكرة الجمعية الجنوبية تحتفظ بذكريات أليمة عن “عدوانية الشمال” و”هضم حقوق الولايات الجنوبية”، بينما تتباهى ولايات الاتحاد بقانون إلغاء الرق، وانبثاق الروح الوطنية في الأمة الأميركية جمعاء.
وقد عملت الحكومة الفدرالية على إزالة الحواجز النفسية عن طريق القيام بإصلاحات عامة، كإيجاد العمل الجماعي القومي، وغرس الوطنية في نفوس الأميركيين شمالهم وجنوبهم، كما عملت على إضعاف فكرة تفوق الشمال على الجنوب، وتسلُّط الأول على الثاني، ونتج عن الحرب الأهلية دولة وطنية وحكومة اتحاد قوية.
استفادت إسبانيا من هذه الحرب، فعادت لإثبات وجودها في الكاريبي وأميركا الجنوبية والوسطى، فاستعادت سانتو دومينغو وشنّت حربا في تشيلي والبيرو، وتدخلت بريطانيا وفرنسا في شؤون أميركا اللاتينية تدخلا عدّته الولايات المتحدة الأميركية انتهاكا لمبدأ مونرو.
بدأ الاتحاد الأميركي في العمل الجاد بالتصنيع وشق الطرق وبناء السكك الحديد التي أصبحت العامل الرئيس للتقدم والازدهار في جميع الولايات، وأسهمت في التخفيف من حدة الخلاف والتباين بين الشمال والجنوب.
وعلى الرغم من أنه كان من الصعب استعادة الوحدة الوطنية وضمان حقوق العبيد المحررين، فإن الديمقراطية انتصرت وأصبح الاتحاد أقوى وأمتن.!