قصة قصيرة: “أظنه الحب”
كنت أجلس متكئا على الحاوية المقابلة له ، وكان هو يقلب داخل إحدى الحاويات ويختار أجود ما فيها و يضعه في كيس كبير معلق على كتفه … لا أنكر أنه لفت انتباهي بطريقة تقليبه المميزة ، فقد كان يفحص الأشياء بعناية ويقيس قطع الملابس المناسبة له ويترك ما لا يناسبه ، قلت في نفسي …… ” لو كنت مكانه لما تركت قطعة واحدة ! …. ” لكنني اليوم متعب قليلا وليست لدي قوة لتقليب الحاويات …. أنهى عمله وتحول الى الحاوية التي أتكأ عليها ، فأثار غضبي واقتربت منه وقلت له : ….
_ لهذه الحاوية مالك …..
التفت إلي بوجهه الأشعت الأغبر ، وشعره المجعد القذر ولم ينبس بكلمة واحدة ، فلم أجد بدا من استعمال بعض العنف والقوة معه ، وفرض وجودي عليه لطرده من المكان ، فأمسكته من ياقة معطفه الملطخة بصمغ زلق لا أدري ما كان ، فانزلقت يدي ولم أستطع إحكام قبضتي عليه ، حينها التفت إلي وقال : ….
_ لو كنت رجلا لما عاملتني بهذه الطريقة …. !! …..
انتباتني هستيريا من الضحك حتى بدوت كالمجنون ووقعت على الأرض ، فلم يسبق أن حدث معي أمر مماثل من قبل ، فأنا أستطيع أن أميز بين المرأة و الرجل من على بعد أميال ، لكن هذا الأحمق خدعني حقا ، فبدأت أتفحص شكله وأدقق في ملامحه ، هل هو امرأة حقا …. ؟ … عيناها غائرتان لوزيتان ، حولهما خطوط في كل الإتجاهات ، وأنف كبير تملأه التآليل ، أتابع فحصي ولا شيء يوحي أنها امرأة ، مررت عيني على كامل جسدها ، ثم ركزت بعناية على منطقة الصدر ، لكن حتى لو وجد ، فقد كان من المستحيل كشفه بسبب طبقات الملابس الكثيرة التي كانت تغطي بها جسدها ، لكن في الحقيقة شيء ما في داخلي كان يقول أنها فعلا امرأة ، لا أدري ماهو ، لكنه شعور تملكني عندما نظرت إلى عينيها بسرعة خاطفة ثم حولت نظرها إلى اتجاه آخر ..
أمرتها بالرحيل وعدم العودة إلى هذا المكان ، فهو ملك لي ، وأشرت بيدي إلى عشة في آخر الشارع وقلت : ….. وذاك منزلي ….
غادرت دون أن تنطق بكلمة واحدة وهي تجر ثيابها تحت أقدامها وكأنها تكنس الشارع ، والغبار وبعض الأوراق تلاحق ظل ردائها المهلهل ، بينما كنت أراقبها حتى وصلت إلى نهاية الشارع واختفت بين المارة .
لم أستطع النوم في تلك الليلة ، أفكار تدور داخل رأسي وعصافير بطني تزقزق من الجوع ، فبسببها لم أتمكن من البحث عن طعامي داخل الحاويات كالمعتاد ، لقد اجتاحت رأسي تلك اللعينة ، وفي الصباح ، كنت قد عزمت البحث عنها ، يبدو من هيئتها أنها تعيش في الشارع ، حملت عصاي في يدي ، وبدأت التجول في المدينة باحثا عنها في الأماكن المخصصة للحاويات وعند عتبات المنازل المهجورة ، وفي محطة القطار حتى تعبت قدماي من المشي ، ووصل جوعي منتهاه ، فقررت الجلوس وتسول بعض المال أو حتى قطعة خبز يجود بها علي أحدهم ، فجلست على الرصيف المقابل للمحطة .. وعلى الفور مددت يدي وبدأت أردد بعض الجمل التي اخترتها بعناية علني أنال بها عطف المارة … كان أغلبهم من المسافرين ، يمرون وهم يجرون حقائبهم ويرفعون رؤوسهم للأعلى ، لم يكونوا يلحظون وجودي حتى ، وبينما أنا كذلك لمحتها ، لمحت ظالتي التي خرجت أبحث عنها وهي تغادر باب المحطة ، كانت تحمل في يدها قطعة خبز وتقضمها بشراهة ، قفزت من مكاني وجريت باتجاهها ، لكني لم أنتبه لتلك السيارة القادمة باتجاهي فصدمتني ، وعندما أفقت وفتحت عيني ، وجدتها تقف عند رأسي وهي تقول : ….
_ ها أنت قد انتقم الله لي منك أيها البشع لأنك ظلمت امرأة مسكينة ، إبق ممددا هنا إلى أن تموت …..
حاولت رفع يدي لألطمها على وجهها القذر ، لكني كنت خائر القوى ورأسي يؤلمني بشدة … حضرت سيارة إسعاف بعد وقت قصير كانت اللعينة قد غادرت خلاله ، لكنها ظلت تلاحق تفكيري .
كنت أعيش حياتي بلا هم ولا تفكير ، أقلب حاويات النفايات وأختار مواقعها بعناية ، ولدي خارطة لكل أحياء المدينة الراقية التي كنت أرتادها ، فحاويات الفقراء ليست مثل حاويات الأغنياء ، وكذلك الأحياء والشوارع ، وكنت في بعض الأحيان أدعي الإعاقة ، إعاقة عقلية تارة ، وأخرى بدنية تارة أخرى لأتمكن من ركوب الحافلات بالمجان ، وهكذا كنت أقضي أيامي ، إلى أن باغثت حياتي ذات العينين الغائرتين ، فأصبت بحمى التفكير فيها حتى هزل جسدي ، ولم يعد لحياتي هدف ، وصرت أعيش على أمل أن يجمعني بها القدر عند إحدى الحاويات .
#سلوى_ادريسي_والي