في مثل هذا اليوم9 يونيو 641م..
المسلمون بقيادة عمرو بن العاص يتمكنون من القضاء على آخر معاقل الروم في الإسكندرية وذلك بعد نحو عام من غزو أغلب مناطق مصر وخاصّةً حصن بابليون الذي كان يشكل عاصمة الحكم الرومي في مصر.
عمرو بن العاص السهمي القرشي الكناني (47 ق هـ أو 45 ق هـ / 575م أو 577م – 43 هـ / 664م)، صحابي وقائد عسكري مسلم، وأحد القادة الأربعة في الفتح الإسلامي للشام، وقائد الفتح الإسلامي لمصر، وأول والٍ مسلم على مصر بعد فتحها.
كان عمرو من سادة قريش في الجاهلية، فأبوه هو العاص بن وائل السهمي، وكان يحترف التجارة، فقد كان يسافر بتجارته إلى الشام واليمن ومصر والحبشة. كما كان من فرسان قريش. أرسلته قريش إلى أصحمة النجاشي ملك الحبشة ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده. حضر عمرو بن العاص غزوة بدر مع قريش ضد المسلمين، ثم حضر غزوة أحد، ثم غزوة الخندق. ولمّا عادت قريش إلى مكة بعد صلح الحديبية ذهب إلى الحبشة عند أصحمة النجاشي، فوجده اعتنق الإسلام، فاعتنق الإسلام هناك على يد النجاشي في السنة الثامنة للهجرة، ثم أخذ سفينة متجهًا إلى المدينة المنورة، فالتقى في الطريق بخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فدخل ثلاثتهم المدينة المنورة في صفر عام 8 هـ معلنين إسلامهم. وحينها قال الرسول: “إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها”.
بعد إسلامه أرسله النبي في سرية إلى ذات السلاسل في جمادي الآخرة سنة 8 هـ، ثم في سرية أخرى لهدم صنم سواع في رمضان سنة 8 هـ، بعد فتح مكة. وفي شهر ذي الحجة سنة 8 هـ، بعثه النبي إلى ملكي عمان جيفر وعباد ابني الجلندي بكتاب يدعوهما إلى الإسلام، وبعد إسلامهم عيَّنه النبي واليًا على الزكاة والصدقات بها، وظل هناك سنتين تقريبًا حتى وفاة النبي.
استعمله أبو بكر قائدًا عسكريًا في حروب الردة، ثم وجَّهه لفتح فلسطين على رأس ستة أو سبعة آلاف مقاتل. فبدأ المناوشات في فلسطين، والتقى تحت قيادة خالد بن الوليد في معركة أجنادين، وشارك في معركة فحل وحصار دمشق، وكان على رأس الميمنة في معركة اليرموك. ثم فتح سبسطية ونابلس، واللد ونواحيها ويبنى وعمواس وبيت جبرين، ثم هبط جنوبًا ففتح رفح، وعسقلان، وكان قد فتح غزة في عهد أبي بكر، وحاصر قيسارية، وبدأ حصار بيت المقدس ثم انضم إليه أبو عبيدة بن الجراح، فأصبح تحت قيادة أبي عبيدة. ولما أُصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلفه على الشام.
عرض عمرو على الخليفة عمر بن الخطاب غزو مصر وطلب السماح له بالمسير إليها، فسار إليها فدخل العريش حتى وصل إلى الفرما، ثم سار إلى بلبيس، وغزا خلال سيره سنهور وتنيس. وطلب من عُمر المدد فأرسل له فرقة بقيادة الزبير بن العوام، ثم سيطروا على إقليم الفيوم. وعسكر في عين شمس، جرت معركة عين شمس، وحاصر حصن بابليون حتى سقط في أيديهم في 21 ربيع الآخر 20 هـ، وأعطى أهل مصر الأمان. ثم ذهب لفتح الإسكندرية، وحاصرها وانتهى باتفاق صلح، وخرج منها البيزنطيون في 1 محرم 21 هـ، وأعطى أهلها الأمان. وأصبح عمرو أوّل والٍ مسلم على مصر، وأنشأ مدينة الفسطاط، وبنى فيها أول جامعٍ في مصر عُرف باسمه لاحقًا.
عزله الخليفة عثمان بن عفان عن ولايةِ مصر سنة 24 هـ، وبعد مقتل عثمان طالب بالثأر لدمه، وكان في صف معاوية بن أبي سفيان، وأحد قادة قواته في وقعة صفين، وممثل طرف معاوية في التحكيم بعد المعركة. وتولى ولاية مصر مرة أخرى في عهد معاوية. توفي ليلة عيد الفطر سنة 43 هـ في مصر وله من العمر ثمانية وثمانون عاماً، ودفن قرب المقطم. عُرف عمرو بالدهاء والذكاء والفطنة قبل الإسلام وبعده، حتى وُصف بأدهى العرب أو “داهية العرب”. كما اشتهر عمرو ببلاغته وفصاحته، ورصانة شعره، وله من الخطب الكثير. وروى عدداً قليلاً من الأحاديث النبوية تبلغ حوالي أربعين حديثًا.
اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى الشام ليتفقد أحوالها بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها. وقال: «إنك إن فتحْتها كانت قوةً للمسْلمين وعوْنًا لهم، وهي أكْثر الأرْض أمْوالًا وأعْجزها عن القتال والحرب». بينما تذكر بعض المصادر أن فكرة غزو مصر تعود إلى عمر بن الخطاب نفسه الذي أمر عمرو بالمسير إليها. فعهد إليه قيادة الغزو ووضع بتصرفه ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، وقيل أربعة آلاف أو خمسة آلاف، وطلب منه أن يجعل ذلك سرًا وأن يسير بجنده سيرًا هنيًا. وهكذا سار عمرو بن العاص إلى مصر مخترقًا صحراء سيناء ومتخذًا الطريق الساحلي، ومع ذلك بقي عمر بن الخطاب مترددًا، حتى يبدو أنه عدل عن موفقته فأرسل كتابًا إلى عمرو بن العاص وهو برفح فلم يستلمه ويقرأه إلا بعد أن دخل حدود مصر. ويعتقد البعض أن تلك كانت حيلةً بارعةً جعلته يزحف نحو مصر دون أن يخالف أمر الخليفة. وقيل أن عمرو بن العاص سار إلى مصر من تلقاء نفسه، ثم استأذن عمر بن الخطاب، وقيل لم يستأذنه، فغضب عليه وأرسل إليه الكتاب المذكور، فلم يقرأه إلا بعد دخوله مصر، كما قيل أن الكتاب وافاه وهو بالعريش داخل حدود مصر.
وصل الجيش إلى العريش في عيد الأضحى يوم 10 ذو الحجة 18 هـ الموافق 12 ديسمبر 639م، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها. ثم انحرف جنوبًا تاركًا طريق الساحل، حتى وصل إلى الفرما. ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، بينما يذكر ياقوت الحموي أن القتال بالفرما استمر مدة شهرين من الزمن، ثم اقتحمها المسلمون في 19 محرم 19 هـ الموافق 20 يناير 640م. ثم سار إلى بلبيس، وفتح خلال سيره سنهور وتنيس. ضرب عمرو الحصار على المدينة وقاتل حاميتها الرومية شهرًا. وكان الروم قد تحصنوا فيها بقيادة الأرطبون، وكان بها «أرمانوسة» ابنة المقوقس، وقد جهزها بأموالها وجواريها وغلمانها وهي في طريقها نحو قيسارية لتتزوج من قسطنطين الثالث. ودخل المسلمون مدينة بلبيس. وأرسل عمرو بن العاص أرمانوسة في جميع مالها إلى أبيها المقوقس، في صحبة قيس بن سعد بن عبادة.
سار عمرو بن العاص من بلبيس متاخمًا للصحراء، فمر بمدينة عين شمس ثم هبط إلى قريةٍ على النيل اسمها «أم دنين»، وتقع إلى الشمال من حصن بابليون، وعسكر قريبًا منها. ولما علم المقوقس بذلك قَدِمَ من الإسكندرية إلى حصن بابليون ليُشرف على القتال بنفسه. وجرت مع حامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع لم تسفر عن نتيجة حاسمة. فأرسل عمرو إلى الخليفة عمر يستحثه في إرسال مدد. فأرسل له مددًا بقيادة الزبير بن العوام، ويذكر المؤرخون المسلمون أن المدد كان اثني عشر ألف مقاتل، ويذكر بعضهم أيضًا أنه كان عشرة آلاف فقط، واغتبط المسلمون بقدوم كبار الصحابة أمثال: الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وسقطت بعدها حامية أم دنين. وتمكن بعض الروم وقادتهم من الفرار إلى حصن بابليون. بعد وصول الإمدادات بدأ عمرو في إرسال الفرق العسكرية للسيطرة على الأقاليم المختلفة، فأرسل فرقة من الجنود للسيطرة على مدينة الفيوم، وسيطروا على إقليم الفيوم. وتوغلت في جنوبي الدلتا فاستولت على أثريب ومنوف في إقليم المنوفية.
حصن بابليون:
عسكر عمرو في عين شمس، وراح يستعد لمهاجمة حصن بابليون، وحاول استفزاز الجنود البيزنطيين وحملِهم على الخروج من الحصن. وبالفعل في شهر شعبان سنة 19 هـ الموافق يوليو سنة 640م، خرج القائد ثيودور على رأس عشرين ألفًا وسار بهم باتجاه عين شمس. فشكل عمرو فرقتين يبلغ عدد أفراد كلٍ منها خمسمائة مقاتل، وأرسل إحداهما إلى أم دنين، والأخرى إلى مغار بني وائل، وخرج من عين شمس، فلما وصل البيزنطيون، ظنوا أن المسلمين فروا من عين شمس، ولكن في الطريق بين المعسكرين؛ خرج أفراد الكمين الذي أعده عمرو، فاجتاحت فرقة من المسلمين مؤخرة الجيش البيزنطي التي فوجئت وأُخذت على حين غرة، فحاولوا الفرار نحو أم دنين، فأطبقت عليهم الفرقة الأخرى، وأضحوا بين ثلاثة جيوش، ونجحت فئة قليلة منهم ببلوغ الحصن وهلكت فئة كبيرة.
ثم ركز جهوده العسكرية على فتح الحصن، فسار إليه في شهر شوال سنة 19 هـ الموافق لشهر سبتمبر 640م وحاصره. لم يكن قد أحكم سيطرته على الطرق المائية بعد. وبادر عدد من حكام الروم بالخروج إلى الإسكندرية تاركين الحامية تتولى مهمة الدفاع عنه، ومما زاد في إحباطهم وخوفهم أن بعض المصريين اعتنقوا الإسلام وانضموا إلى الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص، فكانوا له أعوانًا وأدلاء يصحبونه ويدلونه على الطرق والمواقع، ويخبروه عن أسرار وأوضاع الروم. وخير عمرو المقوقس بين الإسلام أو الجزية أو القتال، وأرسل لهم عبادة بن الصامت، فاستقبله الروم والمصريون حيث طمأنهم بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ونسائهم وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية. طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحه ثلاثة أيام. وغادر المقوقس حصن بابليون وتوجه إلى الإسكندرية، حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية وطلب موافقة هرقل عليه، لكن هرقل رفض الصلح، واتهم المقوقس بالتقصير والخيانة، ونفاه، واستأنف الطرفان القتال. ووصل نبأ وفاة الإمبراطور هرقل إلى حامية الحصن، فاضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في 21 ربيع الآخر 20 هـ الموافق فيه 9 أبريل 641م. واعتلى الزبير بن العوام مع نفرٍ من المسلمين، السور، وكبروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموه، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي فدخلوه.
فتح الإسكندريَّة هي معركة حدثت بين القوات المسلمة تحت قيادة عمرو بن العاص وبين الإمبراطورية البيزنطية في مصر بعد حصار دام من آذار حتى أيلول 641 م.
كانت الإسكندريَّة مدينةً منيعة، ذات حُصونٍ عظيمة، وقد عسكر الجُند المُسلمون بالقُرب منها، وكان يصحبُهم رؤساء المصريين الذين كانوا يُقدمون الطعام للجُند المُسلمين، والعلف لِخُيولهم. كما كانوا يدُلّونهم إلى الطُرق والمسالك المُؤدية إلى المدينة. والحقيقة أنَّ أهل المُدن المصريَّة المُجاورة للإسكندريَّة انقسموا إلى فريقين: فريقٌ مع القائد العام الرومي ثُيودور، والآخر يُؤيِّد الجيش الإسلامي. وسادت البلاد حالة أشبه بالحرب الأهليَّة، فكان أتباع كُل فريق ينقض على أتباع الفريق الآخر، وساد الإسكندريَّة جوٌّ من الاضطراب والفتنة، وقد تنازع الرؤساء والحُكَّام والقادة كما انقسم الأهالي والمُهاجرون إلى فريقين مُتاخصمين، ونشب القتال بينهُما، وراحت ضحيَّته أعدادٌ هائلة. ويتَّضح من هذه الرواية التاريخيَّة أنَّ ذلك النزاع قد نتج عن عداءٍ شخصيٍّ وتنافُسٍ سياسيّ إلى جانب الخلافات الدينيَّة سواء أكان ذلك الخلاف بين الملكانيين واليعاقبة، أم بين المسيحيين بِصفةٍ عامَّة وبين اليهود، وإن كان يبدو من الروايات التاريخيَّة السَّابقة أنَّ اليهود كانوا مُسالمين طيلة سنوات الفتح، إذ لم يرد لهم أيُّ ذكرٍ في المصادر التاريخيَّة. أدرك عمرو، فور وُصوله للإسكندريَّة ودراسته للوضع الميداني، أنَّ المدينة حصينة إذ يُحيطُ بها سوران مُحكمان، ولها عدَّة أبراج ويُحيطُ بها خندق يُملأُ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألَّف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويُوجد مجانيق فوق الأبراج، ومكاحل، وقد بلغ عدد جُنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جُندي، ويحميها البحر من الناحية الشماليَّة وهو تحت سيطرة الأُسطول البيزنطي، الذي كان يمُدَّها بالمُؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المُتعذَّر اجتيازها، وتلُفَّها ترعة الثُعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمُسلمين طريقٌ إليها إلَّا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلُها بِكريون. وكان المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس عمرو بن العاص، ووضع خطَّة عسكريَّة ضمنت لهُ النصر في النهاية؛ قضت بِتشديد الحصار على المدينة حتَّى يتضايق المُدافعون عنها ويدبُّ اليأس في نُفوسهم، فيضطرّوا للخُروج للاصطدام بالمُسلمين لِتخفيف وطأة الحِصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخُروج من تحصيناتهم ثُمَّ ينقضُّ عليهم.
بدء الحصار:
نقل عمرو مُعسكره إلى مكانٍ بعيدٍ عن مرمى المجانيق، بين الحُلوة وقصر فارس. استمرَّ الوضع على ذلك مُدَّة شهرين لم يخرج البيزنطيّون من تحصيناتهم للقتال، سوى مرَّة واحدة حيثُ خرجت قُوَّةٌ عسكريَّةٌ بيزنطيَّة من ناحية البحيرة واشتبكت مع قُوَّة إسلاميَّة ثُمَّ ارتدَّت إلى الحصن، ولعلَّها كانت بِمثابة قُوَّة استطلاع أو جس نبض. ورأى عمرو أن يقوم بِعملٍ عسكريٍّ يُشغلُ به جُنوده، إذ أنَّ الانتظار قد يُؤثِّر على معنويَّاتهم القتاليَّة، ويدفعُهم إلى الخُمول، فشغلهم بالغارات على الدلتا، وأبقى مُعظم جُنوده على حصار الإسكندريَّة. وقد نجحت الفرق العسكريَّة الإسلاميَّة هذه بالسيطرة على ما تبقّى من قُرى وبلدات بقيَّة الوجه البحري، في الوقت الذي اشتدَّ فيه الصراع بين المصريين والبيزنطيين داخل الإسكندريَّة وبين البيزنطيين أنفُسهم داخل القُسطنطينيَّة حول العرش. ونتيجةً لاشتداد الصراع في القُسطنطينيَّة بين أركان الحُكم، انقطعت الإمدادات البيزنطيَّة عن الإسكندريَّة، إذ لم يعد أحدٌ منهم في الدفاع عنها، ممَّا أثَّر سلبًا على معنويات المُدافعين عنها، فرأوا أنفُسهم معزولين ولا سند لهم. وممَّا زاد من مخاوفهم ضمّ المُسلمين لِقُرى الدلتا والسَّاحل، الأمر الذي يُفيد بِقطع الميرة عنهم. وفي ذلك الوقت كان عُمر بن الخطَّاب في المدينة المُنوَّرة ينتظرُ أنباء مصر، وهو أشدُّ ما يكون استعجالًا لِنبأ سُقوط الإسكندريَّة في أيدي المُسلمين. ولكنَّ هذا النبأ أبطأ عنهُ أشهُرًا، فراح يبحثُ عن السبب وهو لم يُقصِّر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المُساندة التي تكفلُ لهُ النصر، وخشي أن تكون خيراتُ مصر قد أغرت المُسلمين، فتخاذلوا، وقال لِأصحابه: «مَا أَبْطَأُوا بِفَتْحِهَا إِلَّا لِمَا أَحْدَثُوا». ثُمَّ كتب إلى عمرو يعظه ويستعجله ويُنبهه على أنَّ النصر لن يكون حليف المُسلمين إلَّا لو أخلصوا النيَّة، وطلب منهُ أن يخطُب في النَّاس ويحُضَّهم على قتال عدُوِّهم ويُرغِّبهم في الصبر والنيَّة، وأن يدعوا المُسلمين الله ويسألوه النصر.
شكَّل كتابُ عُمر عامل دفعٍ للمُسلمين فاقتحموا حُصون الإسكندريَّة ففتحوها بِحدِّ السيف في 28 ذو القعدة 20هـ المُوافق فيه 8 تشرين الثاني (نوڤمبر) 641م بعد حصارٍ دام أربعة أشهُرٍ ونصف. وفرَّ البيزنطيّون منها بكُلِّ اتجاهٍ للنجاة بأنفُسهم، وأذعن سُكَّانها من المصريين، واستبقى عمرو أهلها ولم يقتل ولم يسبِ وجعلهُم ذمَّة كأهل حصن بابليون. وتذكر بعض المصادر التاريخيَّة أنَّ المُقوقس طلب من عمرو بن العاص، في أثناء حصار الإسكندريَّة، الصُلح والمُهادنة لِمُدَّة مُعيَّنة، فرفض عمرو. ثُمَّ تقول هذه المصادر: «إلَّا أنَّ القبط في ذلك يُحبّون المُوادعة»، وقد تدلُّ هذه العبارة على أنَّ المُقوقس والمصريين المُعتصمين بالإسكندريَّة أرادوا الصلح والمُهادنة، في حين أصرَّ الروم على مُواصلة القتال. ويُشيرُ عددٌ من المؤرخين إلى عدم عدم إمكانيَّة تأييد هذه الرواية التي تذهب إلى وُجود المُقوقس بالإسكندريَّة، لأنَّ هُناك رواياتٌ أُخرى تُشير إلى وُجوده في حصن بابليون خِلال هذه الفترة. وتذكرُ بعض الروايات أنَّ الذي ساعد عمرو والمُسلمين على فتح الإسكندريَّة رجلٌ يُسمَّى «ابن بسَّامة»، وكان على أحد أبواب المدينة وقد طلب الأمان من عمرو بن العاص على نفسه وأرضه وأهل بيته، على أن يفتح له باب المدينة، فأجابهُ عمرو إلى ذلك. ودخل عمرو والمُسلمون من جهة القنطرة التي يُقالُ لها قنطرة سُليمان. وتنصُّ مراجع أُخرى أنَّ عمرو ترك فرقة من جُنده لِحراسة المدينة، وأسرع بِقُوَّاته لِتتبع الفارين برًّا. ولكنَّ الروم الذين هربوا عن طريق البحر رأوا أنَّ الفُرصة مُواتية لاستعادة الإسكندريَّة، فعادوا إليها وقتلوا من بها من المُسلمين. وعلم عمرو بذلك، فعاد إلى الإسكندريَّة وقاتل هؤلاء الروم وأجلاهم.
الدخول إلى الإسكندريَّة:
تتباينُ الروايات التاريخيَّة حول كيفيَّة إتمام فتح الإسكندريَّة وجلاء الروم عنها نهائيًّا، فقال البعض أنَّ الفتح كان عنوةً، بينما قال آخرون أنَّهُ كان صُلحًا، لكن ممَّا لا خلاف فيه أنَّ دُخولها في حظيرة دولة الخِلافة الراشدة كان في أوَّل مُحرَّم 21هـ المُوافق فيه 17 أيلول (سپتمبر) 642م. وتنص أكثر الروايات شُيوعًا، وهي الرواية القبطيَّة، أنَّ الإسكندريَّة فُتحت صُلحًا، إذ فوَّض الإمبراطور قُنسطانز إلى المُقوقس عقد الصُلح مع المُسلمين في الإسكندريَّة ومعهُ القائد ثُيودور في 14 أيلول (سپتمبر) 641م. ثُمَّ قصد بابليون حيثُ اجتمع بِعمرو بن العاص ووقَّع على عقد الصُلح في 8 تشرين الثاني (نوڤمبر) 641م، ويقضي اتفاق الصُلح بِتسليم الإسكندريَّة على أن يبقى المُسلمون مُدَّة أحد عشر شهرًا خارجها حتَّى يُبحرُ عنها البيزنطيّون، وأن لا يعود جيشٌ من الروم إلى مصر أو يسعى لِردِّها، وأن يُقدموا لِعمرو بن العاص مائة وخمسين جُنديًّا وخمسين مدنيًّا بِمثابة رهائن، وأن يكف المُسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أُمورهم أي تدخُّل. وبناءً عليه خرج البيزنطيّون من الإسكندريَّة بحرًا في أوَّل مُحرَّم 21هـ المُوافق فيه 17 أيلول (سپتمبر) 642م، ودخلها المُسلمون وأعطوا الأمان لِأهلها، لتنتهي بذلك العمليَّات العسكريَّة، وتخرج مصر نهائيًّا من تحت الراية البيزنطيَّة وتدخل تحت ظل الرَّاية الإسلاميَّة، ويبدأ فصلٌ جديد من التاريخ في الديار المصريَّة.!!