فى مثل هذا اليوم 30 يوليو1993م..
البوسنيون ينتهون من العمل في حفر نفق يمر تحت «مطار سراييفو» كان منقذهم من حصار القوات الصربية لعاصمتهم.
“مرحبا بكم في جهنم” عبارة كانت مكتوبة على جدار في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك لخصت حال المدينة تحت أطول حصار في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية الذي بدأته القوات الصربية في أبريل/نيسان 1992.
ونقلت وكالات الأنباء حينها مشاهد لنساء يلتقطن أعشابا خضراء لا تعرف ماهيتها، وعجائز يمضين حاملات جذوع الأشجار إلى بيوتهن لتدفئتها، وأطفال بوجوه شاحبة لقلة الغذاء، وشوارع خاوية من السيارات لانعدام الوقود.
تمكنت حالة اليأس من قلوب نصف مليون بوسني محاصر من أي تدخل دولي ينهي معاناتهم وكأن عليهم الاستسلام أو الموت البطيء، فقد كان الطعام القليل يأتيهم في طرود مواد غذائية تلقى من السماء، ولم يدر بخلد المدينة أن الفرج سيأتي بصورة أخرى من تحت الأرض.
سيطر الصرب على الجبال المحيطة بسراييفو، مما أتاح لهم المراقبة الدقيقة لكل حركة تتم فيها، فكان السكان يتعرضون لإطلاق النار بكثافة عندما يحاولون التسلل إلى خارجها عبر مدرج مطار سراييفو الفاصل بين أقرب منطقتين يسيطر عليهما الجيش البوسني (دوبرينيا وبوتمير) فقتل حوالي خمسمئة بوسني وهم يحاولون عبور المدرج ليكونوا ضمن 11 ألفا و541 شخصا ماتوا نتيجة الحصار.
منزل عائلة كولار الذي حفر النفق من أسفله وتبدو عليه بوضوح آثار الشظايا من فترة الحرب وتحول الآن لمتحف (الجزيرة)
بينما كان راشد زولراك مساعد قائد الفرقة الأولى في الجيش البوسني يزحف على مدرج المطار تحت وابل القصف تساءل في إحدى لحظات التوقف الاجبارية “لم لا يكون لدينا نفق تحت أرض هذا المدرج فننجو وتنجو المدينة؟”.
عرض زولراك الفكرة على عدة مهندسين اعتبروا الفكرة مستحيلة لظروف الحرب وطبيعة الأرض، وذلك قبل أن يقابل المهندس نجاد برانكوفيتش ويخبره بأنها ممكنة التحقيق، فأصدر زولراك أمر البدء بمشروع حفر النفق في 22 ديسمبر/كانون الأول 1992، وبدأ التحضير لتنفيذه بسرية تامة.
“على بعد خمسمئة متر عن خط الجبهة كان يقع بيتي، تعرض لمئات القذائف واحترق مرة، لكنا كنا نرممه قدر ما نستطيع، حتى زارنا باقر عزت بيغوفيتش والمهندس برانكوفيتش، وأخبرانا أن البيت مناسب لمشروع حفر نفق تحته، ليكون رئة الحياة لأهل سراييفو”.
هذه بداية قصة “نفق الحياة” كما يرويها بايرو كولار صاحب المنزل الذي امتلأت واجهته بآثار ضربات القذائف والذي تقع بداية النفق أسفله في منطقة بوتمير.
بايرو كولار صاحب المنزل مع أمه شيدا التي كانت تقدم الطعام والماء للعاملين (الجزيرة)
ويستذكر كولار تلك الأيام بقوله “كان العمل يجري على مدار الساعة، وبدأ الحفر في نهاية مارس/آذار 1993، وعمل في حفره 260 متطوعا على أربع دفعات في ظروف عمل شبه مستحيلة، فالمكان تحت مراقبة الجيش الصربي بالكامل، فكان العمال يتعمدون المجيء فرادى حتى لا يلفتوا الانتباه للمكان، ولم يمنع هذا من تعرضه للقصف المستمر، وقتل أحد العاملين وأصيب آخرون”.
ويضيف “في تلك الظروف لم يكن بإمكاننا إدخال معدات حديثة للحفر، كنا نحفر بالمجاريف والمعاول فقط، وكنا ننقل تراب الحفر في أكياس بالليل حتى لا نلفت الأنظار”.
وفضلا عن كل ما سبق، يقول كولار “كانت الأمطار الغزيرة المتسربة إلى داخل النفق معيقة لعملية الحفر، فكنا نضطر لإخراجها يدويا بالدلاء، واستعنا بقناديل الزيت للإضاءة أثناء الحفر، فكنا نخرج بعد انتهاء عملنا ووجوهنا سوداء من هبابها”.
مشهد لمدينة سراييفو عام 1995 بعد سنوات من الحرب والدمار (رويترز)
وتحدثت شيدا والدة كولار عن دورها في مشروع إنقاذ سكان المدينة “كنت أعد الطعام للعاملين في الحفر، كانوا يحبون فطائر البطاطا التي أصنعها، ويتناولون طعامهم في فناء البيت حتى سقطت قذيفة وهم هناك، فصاروا يتناولون طعامهم داخل النفق، كنت ألمحهم منهكين، فهم يحفرون في مكان لا هواء نقيا فيه، وكل مجموعة يفترض منها أن تنجز حفر متر من النفق الذي بلغ طوله 720 مترا”.
كان الحفر يتم من طرفي النفق، ولتحديد مسار الحفر بدقة اضطر المهندسون المشرفون لقطع المدرج تسللا وتعرض بعضهم للإصابة نتيجة ذلك، وعند مرحلة متقدمة تمت الاستعانة بعمال المناجم لخبرتهم فتطور سير العمل، وفي الثلاثين من يوليو/تموز من 1993 كانت لحظة لا تصدق حين التقى الحفارون من الجهتين فاحتفلوا بإنجازهم.!!