في مثل هذا اليوم 17 ديسمبر1979م..
اختطاف أول معارض للحكم في السعودية ناصر السعيد بواسطة الاستخبارات الفلسطينية في لبنان.
أبو جهاد ناصر السعيد الشمري (1923 – 1979) ولد في مدينة حائل شمال وسط سلطنة نجد عام 1923 أي بعد سقوط حائل بيد عبد العزيز آل سعود بعام واحد، يُعتبر أول معارض لنظام حكم آل سعود في السعودية منذ نشوئها عام 1932.
انتقل إلى الظهران عام 1947 للعمل في استخراج النفط وتكريره مع شركة أرامكو وعاش مع بقية العمال السعوديين ظروفاً معيشية صعبة فقاد مع زملائه هناك سلسلة من الإضرابات للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية والسكنية ورضخت الشركة لمطالبهم، وفي عام 1953 قاد ناصر السعيد انتفاضة العمال للمطالبة بدعم فلسطين وتم اعتقاله وأرسل إلى سجن العبيد في الإحساء وأُفرج عنه لاحقاً، وبعد وفاة الملك عبد العزيز أقيم حفل استقبال للملك الجديد سعود في مدينة حائل ألقى فيه ناصر السعيد خطاباً طالب فيه بإعلان دستور للبلاد وبإصلاح وتنظيم الموارد المالية للدولة وحماية الحقوق السياسية وحقوق حرية التعبير للمواطنين وحقوق الشيعة، وفي عام 1956 غادر من حائل إلى مصر بعدما أخبره عبد الرحمن الشمراني عن صدور أمر بالقبض عليه وإعدامه.
أشرف السعيد في القاهرة على برامج إذاعية معارضة لحكم آل سعود في إذاعة صوت العرب ثم انتقل إلى اليمن الجنوبي عام 1963 وأنشأ مكتب للمعارضة هناك وتقابل هناك مع أحد العسكريين الشباب المنشقين وهو المعارض السعودي عبد الكريم أحمد مقبل القحطاني وقد اشتركا لاحقاً في تأسيس تنظيم اتحاد شعب الجزيرة من القاهرة منتصف الستينيات، انتقل السعيد بعدها إلى دمشق بعد انتهاء الحقبة الناصرية الثورية بمصر بموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر ثم وفي زيارة إلى بيروت اختطف فيها في 17 ديسمبر 1979 بتعليمات من ياسر عرفات والعقيد عطا الله عطا الله أبو الزعيم لصالح أسرة آل سعود، حيث استدرجه أحد أصدقائه من قادة منظمة فتح إلى فخ منصوب له بحجه إجراء بعض المقابلات مع صحف أوروبية تم تسليمه بعدها للمخابرات السعودية واغتيل لاحقاً.
النشأة
يعتبر ناصر السعيد شاباً منحدراً من قبيلة شمر في منطقة حائل، فنشأ على كراهية الظلم والاستبداد وشهد كثيراً من مظاهره تلك بنفسه بل تعرض لها حينما سجن مع جدته وهو فتى، فقبل أن تنشب الثورة المصرية سنة 1952 وقبل ظهور جمال عبد الناصر ظهر ناصر السعيد يعارض آل سعود مدفوعاً في ذلك بعاملين نشأته وظروف عمله، حيث ولد ناصر السعيد بعد سقوط حائل في يد عبد العزيز بعام واحد أي سنة 1923 حيث كانت كراهية أهل حائل لعبد العزيز آل سعود على أشدها إلى درجة أنهم كانوا يطلقون على المواليد الذين يولدون بعد سقوط حائل مواليد السقوط حيث قال ناصر السعيد:«أنهم نظروا إليه حين مولده نظرة عدم استحسان، وكأنهم لا يريدون أن يولد أحد بعد سقوط حائل بيد الأعداء.» وفي هذا المناخ تربي ناصر السعيد على كراهية آل سعود حيث كانت جدته حسنى السعيد تجمع النساء كل يوم خميس وتلقي فيهن محاضرات أشبه ما تكون بالسياسية، وقد ذكر ناصر السعيد أسماء بعض ضحايا أسرته في الدفاع عن حائل ومنهم عبد الله العيسى السعيد وعيسى السعيد وسليمان السعيد وفهد السعيد، ويذكر ناصر أنه دخل السجن مع جدته حين كان صبياً صغيراً، إذ رفضت جدته صدقة أرسلها إليهم والي حائل عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود مع أحد الخدم، فما كان من الجدة العجوز إلا أن ضربت الخادم، فقبض عليها، وقبل الإفراج عنها بواسطة أهل حائل حرص الوالي عبد العزيز بن مساعد بن جلوي على شتمها وكان ذلك سنة 1930.
العمل
كغيره من شباب جزيرة العرب في الخمسينيات من القرن الماضي توجه ناصر السعيد إلى المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية حيث الصناعة النفطية بحثاً عن فرصة عمل، وفي أرامكو – الشركة النفطية الأهم والأكثر نفوذاً – قاد ناصر السعيد مع مجموعة من زملائه حملة لتنظيم العمال في شركة أرامكو للمطالبة بحقوقهم ورفع الظلم عنهم، وكان ذلك بمثابة وضع اللبنة الأولى للعمل النقابي في المملكة العربية السعودية، الأمر الذي دفع أرامكو إلى الاستعانة بالسلطات السعودية لفض التنظيم واعتقال القائمين عليه.
فعندما شبَّ السعيد عن الطوق التحق بالعمل في شركة أرامكو وجمع حوله تنظيماً من العمال، وفي 17 سبتمبر 1947 قاد بهم مظاهرة فيما أسماه بيوم فلسطين في مدينة رحيمة وطالب برفض تقسيم فلسطين وقطع النفط عن أمريكا وبريطانيا وأسرع أمير رأس تنورة الأمير تركي بن عطشان بتهدئة المتظاهرين ورفض ناصر فأمر ابن عطشان باعتقالهم وحملهم إلى سعود ابن جلوي حاكم الاحساء فأطلق الأمير سراحهم، وفي نفس العام 1947 أصدرت أرامكو قانون تنظيم العمل والعمال في ستين مادة يضع نظام تصاريح العمل ويحظر إنشاء نقابات أو جمعيات عمالية لذلك قام ناصر سنة 1952 بتكوين لجنة لتمثيل العمال والمطالبة بحقوقهم فاعتقلتهم السلطات لولا الإضراب الذي قام به جميع العمال في أكتوبر 1952 احتجاجاً على سجنهم، ولقيت الشركة خسارة فادحة فاضطرت السلطات إلى إطلاق سراحهم، وتم نفي السعيد إلى مسقط رأسه حائل، ثم عاد إلى العمل في الشركة سنة 1953 بضغط كبير من العمال ليقود أخطر إضراب تزعمته اللجنة التي أنشأها ناصر في الظهران وكانت تمثل 6500 عامل وطالبوا بزيادة الخدمات الاجتماعية وزيادة الأجور والحق في تشكيل نقابة عمالية وقدموا طلباً بذلك لولي العهد – آنذاك – الأمير سعود فرفض طلبهم وأمر باعتقال ناصر وأعضاء اللجنة، وتشكيل لجنة تحريات لتقصي أسباب مطالبة العمال بتشكيل نقابة لهم، وأدى اعتقال ناصر وزملائه لاستنفار العمال لإضراب أشد اشترك فيه 13 ألفاً من عمال أرامكو في كل مناطق الإنتاج في الظهران ورأس تنورة أعلنوا إستعدادهم للاستشهاد في سبيل حقوقهم فاضطرت السلطات السعودية لإرسال قوات مسلحة في المنطقة الشرقية، وأمر ولي العهد العمال بالعودة للعمل تحت التهديد بالطرد والفصل فلم يسمع له العمال، فأمر باعتقال المزيد منهم وتم تدارك الأمر بالعفو عن ناصر ورفاقه المسجونين في سجن العبيد بالاحساء مع أخذ تعهد عليه بالإقامة الجبرية في حائل، وأدخلت أرامكو إصلاحات اقتصادية مع دعم للغذاء والكساء، وأنشأت أول مدرسة لأطفال العمال وتخفيض ساعات العمل وتشكيل لجنة إتصال بين العمال والإدارة، أما ناصر فقد أطلق سراحه وفي الطريق علم بوفاة الملك عبد العزيز واستعداد الإمارة لاستقبال الملك الجديد سعود ومبايعته، وطلب منه أمير حائل أن يلقي خطاب ترحيب بالملك فألقى أمام الملك الجديد خطاباً وضع فيه مطالب الشعب، مما جعل الملك سعود يخرج غاضباً عازماً على قتله، وأرغم العمال شركة أرامكو على عودة ناصر السعيد إلى عمله في الشركة فظلَّ عبئاً عليهم، وفي عام 1956 اتسعت حركة ناصر السعيد لتعبر عن الناصرية، فقاموا بإضراب شامل بمطالب سياسية، فأمر الملك سعود باعتقال قيادات العمال وأصدر مرسوماً ملكياً في 11 يونيو 1956 يجرم الإضراب ويعاقب القائمين به بالسجن كما أمر سعود باغتيال ناصر السعيد، فأشعره صديقه من الحرس الملكي عبد الرحمن الشمراني بذلك فهرب إلى بيروت.
نضاله
نضاله في شركة أرامكو
انخرط ناصر السعيد بحماسة في نضال العمال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية، وساهم في تنظيم صفوفهم وتوعيتهم وتحريضهم على المطالبة بحقوقهم فكان من أبرز قادة الإضرابات التي قام بها عمال أرامكو في نهاية الأربعينيات، وكان من الطبيعي أن يشمله الاعتقال من طرف السلطات السعودية نتيجة المطالبة بحقوق الكادحين، ولعل أسوأ تجربة للاعتقال يمكن أن يعيشها بشر، كانت حين ألقي بقادة العمال المضربين وبينهم ناصر في سجن العبيد في الإحساء، وكان ذلك سجناً مخصصاً لتأديب المخلوقات الدنيا في سلم المجتمع السعودي الطبقي، على أنّ نضال ناصر لم يقتصر على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، بل إنه شمل مبكراً الجانب السياسي أيضاً، فبعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، قاد ناصر مع رفاقه في ضحى يوم 17 أيلول 1947 تظاهرة في مدينة رحيمة لرفض التقسيم، والمطالبة بقطع النفط عن أميركا وبريطانيا، وسمّوا تظاهرتهم هذه يوم فلسطين، ويسرد ناصر السعيد في كتابه حقائق عن القهر السعودي كيف جاء تركي بن عطيشان أمير رأس تنورة إلى العمال المحتجين ليقنعهم بأن النفط هو بيد الأميركيين، ولا أحد يستطيع قطعه عنهم، وحاججه العمال بأنهم إذا أضربوا عن العمل انقطع بالفعل إنتاج النفط، هنالك انتقل الأمير إلى حجة فقهية فقال لهم: «تدرون أن النفط هو مثل الذهب، واسمه الذهب الأسود، وربنا يقول في القرآن أن اكتناز الذهب حرام، فإذا خلينا النفط في الأرض وما خرّجناه، فهذا هو الاكتناز المنهي عنه شرعاً، فيا جماعة الخير اتقوا الله».
خطابه الأول ضد أسرة آل سعود
بعد فرض الإقامة الجبرية على ناصر السعيد في مدينة حائل توفي الملك عبد العزيز وتولى الحكم من بعده ابنه الملك سعود، وبعد أن تولى سعود الحكم قام بزيارة لمنطقة حائل، فألقى ناصر السعيد خطاباً هناك في 11 ديسمبر 1953 في مدرسة مدينة حائل جاء وكأنه إعلان معارضة، أو هو البيان الأول لاتحاد شعب الجزيرة العربية وهذه مقتطفات منه:
«باسم الله وباسم الحق، باسم العمال المعذبين، باسم الفلاحين الذين أصبحوا فريسة للمرابين، باسم البدو المشردين، باسم الشعب العظيم الذي حرم من نور العلم طويلاً طويلاً يا طويل العمر! هل تجشمتم مصاعب الطرقات الوعرة بقصد الدعاية لنفسك أم بقصد الترفيه؟! إذ ليس في مئات المدن والقرى والصحاري التي مررتم بها إلا الفقراء الذين رأيتهم يمدون أيديهم ضارعين من الفقر والمرض والجهل اللعين.. وكان بإمكانك أن تقطع هذه المسافة بالطائرات ولكنك قطعتها بالسيارات.. ولهذا نحاول أن نقنع انفسنا أنك جئت حسب الظن بقصد الإطلاع على ما يلاقيه شعبنا وعرفت أنت بنفسك بعد أن انكسرت العديد من سياراتك أنه لا يوجد طريق واحد معبد.. كما لا يوجد علاج ولا معالج ولا ماء نظيف صحي ولا دواء ولا عمل ولا مساكن تليق بالإنسان وهذا ما جعلك تسكن في الخيام في كل مدينة تنزل بها بما فيها حائل لعدم وجود ما يصلح لسكناك كملك من مساكن شعبنا.»
وفي نفس الخطاب تحدث السعيد عن أرامكو فقال:
«ولهذا فقد شردنا وعذبنا وسرحنا من العمل، حتى أن العمال قد سجنوا سجناً جماعياً خلف الأسوار الشائكة في وهج الشمس المحرقة وقطع عنهم الماء ومنع الطعام، ثم سمح لهم أخيراً بالطعام، ولكنه طعام سم يا سعود. هل تصدق؟ لقد وضع لهم السم في طعام هذا المطعم المسمى بمطعم أبو ربع ومات سبعة عشر من العمال، وقد أسعف الباقون بغسيل بطونهم، وادعت الشركة الاستعمارية أرامكو أنه حدث لهم تسمم غير مقصود لأن قدور الطعام غير نظيفة، ولكنه تأكد من أقوال أحد الأطباء الفلسطينيين الذين يعملون في الشركة نفسها وكشفوا ضمن الأطباء على حالة العمال المصابين أن التسمم حادث عن طريق سم حقيقي عثروا على بقيته، و قد ثبت هذا وأنا على أتم الاستعداد أن أثبت لكم ما أقول.»
وكتب جعفر البلكي عن حادثة هذا الخطاب:«شق شاب حاد النظرات بسيط الثياب صفوف المقاعد المتراصة التي جلس عليها أعيان قبيلته، وحاول أن يصل إلى المنصة التي كان يقعد فوقها ملك البلاد جالساً على أريكة ضخمة، وكانت المناسبة حفلاً أقامه وجهاء مدينة حائل في مدرستها، تكريماً لملك السعودية الجديد سعود بن عبد العزيز وكان العاهل قد قدم إلى الإمارة الشمالية في مملكته لتلقي البيعة من زعماء قبيلة شمر التي تقطن تلك البقاع.
لم يكن الشاب سوى ناصر السعيد البالغ من العمر وقتها ثلاثين عاماً ولقد أخذ يصرخ حين منعه الحراس من الاقتراب علّه يلفت انتباه الملك إليه وحين التفت إليه سعود، هتف الشاب قائلاً: «عندي كلمة يا طويل العمر، أبي ألقيها… حنّا نعرف أنك ما جيت هني للسياحة وشم الهواء، لكن لأخذ البيعة وفي هالكلمة أشياء مهمة عن البيعة يلزمك تسمعها» ولم يعد بالإمكان، وقد انتبه الناس، سوى أن يقول الملك: «تفضل… قول» وأخرج ناصر من سترته أوراقاً حضّرهاً، وجلجل صوته في الحاكم والمحكومين قائلاً: «باسم الله، وباسم الحق… باسم العمال المعذبين، والفلاحين الذين أصبحوا فريسة للمرابين… باسم الجنود الظافرين، باسم البدو المشردين… باسم الشعب الذي حُرم من نور العلم طويلاً يا طويل العمر… يا سعود بن عبد العزيز… دعني أناديك باسمك المجرد من الجلال والجلالة، فزخرف القول غرور… والذي لا يجلّه شعبه لا تجلّه الألقاب الزائفة، بل ولا يجلّه الله أبداً. إن رضى الشعب هو رضى الله! ولن يرضى الله سبحانه لمن لا يرضى عنه شعبه. لذا، أقول لك، يا سعود… هل تجشمت مصاعب الطرقات الخربة الوعرة وجئت لعندنا بقصد الدعاية لنفسك؟ ليس في مئات المدن والقرى والصحارى التي مررت بها إلا الفقراء الذين رأيتهم يمدون إليك أيديهم ضارعين من الفقر والجوع والمرض والجهل… لا يوجد علاج ولا معالج، ولا ماء نظيف، ولا دواء، ولا عمل، ولا مساكن تليق بالإنسان…».
بدا الاضطراب على وجوه القوم، والغيظ على وجه الملك سعود من هذه الوقاحة وأشار إلى ياوره الخاص العقيد محمد الذيب (رئيس حرس الملك) لكي يسكت هذا المعتوه، ويفتك منه الورقة التي بيده. وحينما أراد ناصر السعيد أن يحتج على هذا القمع الذي سُلط عليه، بلغ الحنق بملك السعودية مبلغه، وراح يصرخ : «كفى… أنتم مجرمون، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون… ويسعون… ويسعون…» وعلق لسان الملك في كلمة «ويسعون» فلم يعرف كيف ينطق بقية الآية. ثمّ قام الملك من مجلسه غاضباً. وأراد واليه على حائل عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أن يعتذر له، فقال له سعود: «الاحتفال زين، بس هذا اللي اسمه ابن السعيد خرّبه». كانت تلك الواقعة التي سرد ناصر السعيد بنفسه تفاصيلها في كتابه تاريخ آل سعود هي أول مواجهة وجهاً لوجه بينه وبين وأحد ملوك آل سعود.»
قال جعفر البلكي:«لم تكن الشجاعة التي أبداها ناصر أمام الملك عجيبة، فلقد تربى منذ صغره في أسرة مظلومة استشهد رجالها دفاعاً عن أرضهم، فقاوم من بقي من أفراد تلك العائلة الغزاة َالظالمين. ونشأ الفتى في كنف جدته حسناء كارهاً لمظاهر التعسف كافة، ولكل أشكال الطغيان. ثمّ إنّ وعي الشاب ما لبث أن تفتح على فداحة الاستغلال الرأسمالي لموارد وطنه، وعلى شناعة العنصرية التي يمارسها الأجانب الأميركيون على العمال من أهل البلد، وعلى حجم تواطؤ الملوك الفاسدين مع المستعمِرين الناهبين؛ ولقد حدث كل ذلك أمام عينيه حينما شاء له قدره أن يعمل في معسكرات شركة «أرامكو» الأميركية النفطية في الظهران، منذ 1947.»
نضاله من الخارج
في عام 1956 اتسعت حركة ناصر السعيد لتعبر عن الحركة الناصرية فقام السعيد وزملائه في أرامكو بإضراب شامل بمطالب سياسية إصلاحية فأمر الملك سعود باعتقال قيادات العمال وإصدر مرسوماً ملكياً في 6 نوفمبر 1956 يحرم الإضراب ويعاقب القائمين به بالسجن، كما أمر الملك سعود باغتيال ناصر السعيد، فأشعره صديقه عبد الرحمن الشمراني من الحرس الملكي بذلك فهرب إلى القاهرة، وبعد خروجه من السعودية وخصوصاً خلال الستينيات أصبح ناصر السعيد معارضاً للسعودية من الخارج ينشر البيانات ويحرض ضد النظام، وأنشأ ما أسماه اتحاد شعب الجزيرة العربية ذات التوجه الناصري الإسلامي، وبعد انفصال سوريا عن مصر سنة 1961 لوحق ناصر السعيد من قبل الانفصاليين والسعوديين فغادر دمشق إلى بيروت ومنها إلى القاهرة حيث أشرف على برنامج صوت العرب من برج القاهرة، وكانت إذاعة سرية موجهة ضد السعودية وضد الانفصال في دمشق وضد حكام الخليج الرجعيين حسب قوله، وفي 1962 افتتح السعيد من صوت العرب برنامج أعداء الله الموجه ضد السعودية، واشتعلت ثورة اليمن سنة 1962 فانتقل ناصر السعيد إلى اليمن حيث افتتح مكتباً للمعارضة وأشرف على برنامج إذاعي تحت اسم أولياء الشيطان كما قاد الكفاح المسلح من الحدود اليمنية، فجاءت هزيمة 1967 لتقضي على نشاطه السياسي، إذ حوصر بعد مؤتمر الخرطوم وعودة العلاقات بين عبد الناصر والملك فيصل، واضطر ناصر السعيد للتنقل متخفياً بين العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا وبعد مقتل الملك فيصل وإعلان الملك خالد العفو عن السجناء السياسيين في الخارج عاد الجميع إلا ناصر السعيد، حيث ظلّ في الخارج، ثم حين اندلعت ثورة جهيمان العتيبي في الحرم واضطرابات المنطقة الشرقية في نوفمبر 1979 غادر ناصر السعيد بيته في دمشق وذهب إلى بيروت ليهاجم السعودية في وكالات الأنباء والصحف، فاختفى في يوم 7 ديسمبر 1979.
إذاعة صوت العرب
في كانون الأول 1962 في استديو لإذاعة صوت العرب في القاهرة تدفق صوت ناصر السعيد من الإذاعة حاملاً على من يسميهم «آل سعود اليهود أعداء الله، وأولياء الشيطان» فلا يبقي لهم ولا يذر «هنا إذاعة صوت العرب من القاهرة … تستمعون الآن إلى برنامج أعداء الله الذي يعده ويقدمه الأستاذ ناصر السعيد ..»
كان الزمان وقتها هو ذروة النزاع السعودي – المصري في اليمن أواخر عام 1962 ولم يكتف ناصر ببرنامجيه الإذاعيين أعداء الله و أولياء الشيطان وبكتابة المقالات في صحف ومطبوعات مثل صوت الطليعة؛ فقد انتقل خطوة أخرى في حربه على آل سعود حينما افتتح مكتباً للمعارضة السعودية في اليمن، وأسس تنظيماً سماه اتحاد شعب الجزيرة العربية جمع أطيافاً من ذوي الإيديولوجيات المتباينة، ودعا صحبة رفيق دربه الطيار المنشق عبد الكريم أحمد مقبل القحطاني إلى الكفاح المسلح من الحدود اليمنية، ولكنّ هذه المرحلة من نضال ناصر السعيد المفتوح ضد آل سعود، سرعان ما ضاقت إمكانياتها بعد هزيمة 1967 وكانت قد ابتدأت منذ عام 1956 تاريخ لجوء ناصر إلى مصر هارباً بنفسه من بطش الملك سعود الذي ما عاد يحتمل طول لسان هذا الحائلي.
ناصر السعيد في إذاعة صوت العرب سنة 1956
لقد حدّدت هزيمة حزيران علامة فارقة في صراع الأنظمة العربية بعضها مع بعض فبعد مؤتمر الخرطوم يوم 29 آب 1967 جرت مصالحة بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود وكان من نتائجها إنهاء الاشتباك العسكري بين البلدين في اليمن، وإلغاء الحملات الإعلامية المتبادلة بين النظامين، ووقف أنشطة المعارضين السياسيين ضد الحكومتين، وهكذا صار لزاماً على ناصر السعيد وأقرانه أن يجدوا لهم ملجأ آخر يكملون منه نضالهم، غير القاهرة، وكانت الخيارات ضيقة، ولكن ناصر وجد في دمشق أخيراً مأمنه، فاستقر به المقام في منطقة السبع بحرات في بيت على مقربة من شارع بغداد، ولم يتوقف السعيد طيلة سنين منفاه المديدة عن محاربة ما يراه من الظلم السعودي بيده وبلسانه ولمّا أعلن الملك خالد العفو العام عن السجناء السياسيين في الخارج، أبى السعيد على نفسه العودة وحين اندلعت أحداث الحرم المكي في تشرين الثاني 1979 فإنّ ناصر السعيد بلغ به حماسه لها حدّاً جعله يتبناها، وكانت تلك الواقعة التي قادها جهيمان العتيبي في الكعبة مسألة خطيرة وحساسة جعلت نظام آل سعود يفقد صوابه تماماً، وصار لزاماً على كل من أيّد جهيمان أن يدفع الثمن غالياً، وبالفعل بدأت المخابرات السعودية في نصب شراكها لناصر، ولم يكن اقتناص الرجل في دمشق عملية مأمونة، لكنّ الحال في بيروت المضطربة أيامها قد يكون أيسر، وهكذا جرت اتصالات – على غير العادة – من صحف لبنانية وأوروبية بناصر لأجل إجراء مقابلات معه في لبنان، وذهب السعيد إلى بيروت، وفي ظنه أنه يرفع فيها صوت شعبه، ويُسمع نضاله للعالم ولم يكن يعلم أنّ مكيدة قد نصبت هناك لإنهاء حياته.
وفاته
اختطف المعارض ناصر السعيد في بيروت عام 1979 عبر عملاء سعوديين ولا يُستبعد أن لصحفي فرنسي وعضو في منظمة التحرير الفلسطينية وهو عطا الله عطا الله أبو الزعيم والسفير السعودي في لبنان الفريق علي الشاعر يداً في اختطافه، وبعد حوالى أكثر من ثلاثين عاماً على مرور الحادثة، كشف الحارس البريطاني لأمراء آل سعود مارك يونق أن ناصر السعيد لم يتم التخلص منه في السعودية عام 1979 كما قيل سابقاً بل أنه تمّ التخلص منه في لبنان بعد اختطافه بأمر من الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ورمي جثمانه من طائرة على السواحل اللبنانية وترك أشلائه وجسده الممزق نهباً وغذاء لضواري والوحوش، وأكد يونق أن مصدر معلوماته هو من الملك فهد شخصياً، ولا تزال زوجة السعيد أم جهاد تنتظره بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً من اختفاءه والتي حمّلت الحكومة السعودية مراراً المسؤولية الكاملة عن اختطاف زوجها المناضل ناصر السعيد.
حيث اتهمت زوجته المملكة السعودية بالمسؤولية عن مصيره بعد ثلاثين عاماً من غيابه في ظروف غامضة في العاصمة اللبنانية عام 1979 وروت السيدة أم جهاد قصة اختفائه في فيلم وثائقي أذاعته قناة الحوار، كما تنقل روايات سمعتها من رفاق زوجها في النشاط السياسي الناقد للحكم في المملكة العربية السعودية ومن بعض معارفه وأصدقائه في بيروت ودمشق، وتؤكد ام جهاد أن الذي أزعج السلطات السعودية فيما يبدو هو انتقاد ناصر السعيد للطريقة التي تعامل من خلالها النظام مع مجموعة جهيمان العتيبي الذي قاد تمرداً في اليوم الأول من شهر محرم عام 1400 للهجرة الموافق للرابع من كانون الأول / ديسمبر 1979 للميلاد داخل الحرم المكي معقتداً بأن المهدي المنتظر عبد الله القحطاني ظهر وتوجب على المسلمين مبايعته، ورغم أن المرجح أنه تمت تصفية المعارض ناصر السعيد بعد اختطافه مباشرة، إلا أن أم جهاد لا تزال تنتظر عودة زوجها وأبي أولادها.
ومن الروايات التي تواترت بين الناس حول اختفاء السعيد الزعم بأن قياديين في حركة فتح قبضا مبالغ طائلة من المملكة العربية السعودية مقابل اختطاف السعيد وتسليمه للسفارة السعودية في بيروت التي نقلته بدورها مخدراً إلى مطار بيروت حيث وضع في طائرة خاصة ونقل إلى السعودية، ومن الجدير بالذكر أن قضية ناصر السعيد عادت إلى الأضواء بعد عقود من الصمت والتكتم، وذلك بسبب ما ورد على لسان العقيد سعيد موسى مراغة (أبو موسى) أمين سر فتح الانتفاضة من أن أبا إياد برر ذهابه إلى تونس وتغيير رأيه بأن إصلاح الثورة يحتاج إلى مال، فكان رد أبي موسى «وأين الملايين التي قبضتها أنت وأبو الزعيم من السعودية مقابل تسليم المعارض السعودي.» بعد ثلاثين عاماً يظل مصير ناصر السعيد مجهولاً.
وفي مقابلة صحافية أجرتها معه مجلة الأسبوع العربي نفى أبو الزعيم علاقته باختطاف ناصر السعيد؛ بدليل أنهم في حركة فتح شكلوا لجنة تحقيق للبحث عن المفقود شارك فيها هو بنفسه ومعه صلاح خلف أبو إياد وتوفيق سلطان عن الحزب التقدمي الاشتراكي ولكنهم لم يصلوا إلى شيء، لكنّ مسؤولين سابقين في حركة فتح منهم أبو موسى عضو مجلسها الثوري وقائد غرفة عملياتها يؤكدون علاقة الرجل بهذه العملية، ويعتبر أبو الزعيم من رجال الملك حسين في منظمة التحرير، وقد ارتقى في قيادة فتح حتى صار مسؤول المخابرات العسكرية فيها، لكنه أبعِد بعد أن اتهم بقيادة تمرد على عرفات في الثمانينيات، وبعد أن مات أبو عمّار أعاد خليفته أبو مازن الاعتبار لأبي الزعيم وعيّن ابنه حازم عطا الله مديراً للشرطة الفلسطينية.
وعن اختطاف المناضل ناصر السعيد كتب جعفر البكلي:«المكان: بيروت الغربية الزمان: 17 كانون الأول 1979 خرج رجل متوسط القامة مسرعاً من المبنى الذي تقع فيه مكاتب جريدة السفير، أجال ببصره في الطريق، سوّى ياقة معطفه حول عنقه، فالطقس كان بارداً في ذلك اليوم الشتوي الغائم، ثمّ مضى في شارع أمين منيمنة يحث خطاه نحو متاجر شارع الحمراء القريبة، كان راغباً في اقتناء بعض الهدايا لأسرته الصغيرة التي تركها في دمشق، منذ أيام … محفظته الجلدية المعبّأة بأوراقه تتدلى من كتفه، وعيناه الحانقتان من خلف نظارته السوداء الكبيرة تتفرّسان في وجوه المارّة من حوله، كان سبب حنقه صحافيٌ فرنسي ألحّ في طلب موعدٍ منه في مبنى جريدة السفير، ولكنه لم يجئ …
فجأة انتبه لخطوات مسرعة من ورائه تتسابق إليه، التفت، فرأى رجالاً ثلاثة يقتربون منه بسرعة، حاول أن يبتعد عنهم لكنّ أحدهم أمسكه من كتفه، خاطبهم بقلق: «وش تريدون؟!» أجابه أولهم بلكمة عنيفة ورشّ الثاني على وجهه رذاذاً من شيء كأنه زجاجة عطر، غامت الدنيا من حوله، حتى أنه لم يستطع أن يقاوم أولئك الرجال الذين جرّوه إلى سيارة قريبة انطلقت به مسرعة إلى حيث لن يعود.
كان ذلك الرجل المخطوف هو المعارض السعودي ناصر السعيد، وكان الرجال الخاطفون من زعران جهاز الأمن العسكري الفلسطيني الذي كان يترأسه العقيد عطا الله عطا الله «أبو الزعيم» ويقال إنّ الذي غطّى هذه الجريمة هو أبو إياد، وأمّا المؤجِّر، فلم يكن سوى السفير السعودي في بيروت علي الشاعر، ويُعتقدُ أنّ الأجرَ كان عشرة ملايين دولار وضعت في جيوب منظمة ياسر عرفات.
في الغد، وصل نعش من السفارة السعودية إلى مطار بيروت لأجل شحنه في طائرة خاصة متجهة إلى الرياض، كانت الوثائق السعودية تزعم أنّ من يرقد في النعش هي ابنة سفير المملكة في دمشق عبد المحسن الزيد، وأنهم يريدون نقل جثمانها إلى بلدها، صعد النعش إلى الطائرة راجعاً بمن رقد في جوفه إلى وطنه الذي لم يقدّر له أن يراه، منذ 23 عاماً. أثناء الرحلة، قيل بأن النعش قد قُذِفَ من الطائرة في سواحل لبنان، لكنّ العديد من المعارضين السعوديين يتداولون رواية أخرى تزعم أن ناصر السعيد وصل فعلاً إلى المملكة العربية السعودية، وهنالك عذّب، ثمّ وُضع في هيلوكوبتر، ورُمِيَ منها حياً في الصحراء.»
فكره
للوهلة الأولى يبدو للباحث أن معارضة ناصر السعيد لا تدخل في إطار المعارضة السنية الأصولية السنية وأن هناك مؤثرات في المعارضة للملك سعود تتمثل في دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجامعات الإسلامية التي أدت إلى نمو الأصولية، وأن سياسة الملك سعود أدت إلى تفاقم المعارضة بحيث إنتهى الأمر إلى عزله.
ولكن بالبحث المتعمق يتضح منه أن معارضة ناصر السعيد وإن كان لها توجه اشتراكي وتأثر بالناصرية إلا أنها صدرت عن رؤية أصولية سنية وتغلفت بخطاب ديني في الأساس، كما أن المؤثر الحقيقي في المعارضة في عصر سعود هو البترول الذي أدى إلى تحديث الدولة السعودية داخلياً وأثر هذا التحديث على وضعية علماء الدين، كما أن ظهور البترول وتوجه الدولة إلى التحديث الفوقي شغلها عن إصلاح ضروري للبنية الأساسية وإصلاح أحوال الطبقات الفقيرة، هذا مع اشتهار الملك سعود بالترف، وواكب هذا التأثير الداخلي تأثير خارجي تمثل في تحالف الملك سعود مع أمريكا وعدائه مع عبد الناصر والمعسكر الاشتراكي وكل ذلك أدى إلى توجه المعارضة السعودية في عصر الملك سعود إلى التأثر بالفكر الاشتراكي السائد مع اختلاف درجات هذا التأثر، وكان من أبرز المعارضين هو ناصر السعيد، ليس فقط لأنه أشهرهم وأكثرهم صموداً وأعلاهم صوتاً، ولكن أيضاً لأن مرجعيته كانت دينية تنحو نحو العدالة الإسلامية وتحمل أيضاً في طياتها اجتهاداً دينياً يؤكد على حقيقة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إذا وجد مفكرين إسلاميين يصيغون منه ما يناسب عصرهم، وقد كان اجتهاد ناصر السعيد الإسلامي يربط بين عدالة الإسلام ومقاصد الشريعة مع واقعية عصره وظروف مجتمعه، هذا في الوقت الذي تضاءل فيه – نوعاً ما – دور علماء الدين في السعودية وغرق المعارضون الآخرون في التوجهات الاشتراكية والقومية، لم تكن معارضة ناصر السعيد وهابية ولكنها أدت إلى بعث معارضة وهابية تالية هي حركة جهيمان العتيبي.
أما فكر ناصر السعيد الذي ناضل من أجله فقد ضمنه في خطابه الذي ألقاه أمام الملك سعود في مدرسة حائل في 11 ديسمبر 1953 وذكرها في كتابه (تاريخ آل سعود) ثم شرح هذه المطالب وفصلها في الرسالة التي بعثها إلى الملك سعود من القاهرة ضمن منشورات الأحرار في 1 يوليو 1958 من الخطاب والرسالة تتحدد مطالب ناصر السعيد في الآتي:«إقامة مجلس شعبي (برلمان) حر ينتخب الشعب أعضاءه، ويقوم بتمثيل أبناء الشعب كافة. يضع مجلس الشعب بعد انتخابه دستوراً مستمداً من القرآن والسنة النبوية الصحيحة وروح العدل التي دعى إليها الرسل، يكون الدستور عصرياً يتضمن حقوق الشعب ويحدد مهام السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. يقوم مجلس الشعب بالنظر في قوانين تجارة الرقيق التي لا توجد (وقتها) إلا في المملكة، وتراجع قطع الأيادي والأرجل وجلد المواطنين، وتؤكد علي حرية الصحافة وحرية العقيدة وحرية المبدأ والتعبير والاجتماع، وقوانين تفرض التعليم الإجباري علي كل ذكر وأنثي، وتفرض التجنيد الإجباري، وإصدار قوانين تمنع التعذيب في السجون، وتمنع إسقاط الجنسية، وقوانين تمنع أخذ الزكاة من الفقراء البدو والفلاحين، وقوانين لإصلاح حال العمال باقامة انتخابات عمال لاتحاد عمال نزيه يدافع عن حقوق العمال ويمثلهم أمام الحكومة، ويقيم لهم نقابات، ويكون هذا القانون بديلاً عن القانون الجائر التي تستخدمه أرامكو ضد العمال، وإصدار قانون آخر بأنشاء محاكم عمالية تتولي قضايا العمال، ويراعي قانون العمال مساواة العمال السعوديين في الحكومة بغيرهم من العمال الأمريكيين والأجانب، وقوانين تمنع تسريح العمال وتدفع أجورهم أثناء الإجازات، وقوانين أخرى لإصلاح حال الفلاحين بإنشاء الإصلاح الزراعي، وقوانين بتخفيض الرسوم الجمركية وللإصلاح الاقتصادي، وكما يقوم البرلمان بسن قوانين لمواجهة نفوذ أرامكو والنفوذ الأمريكي مثل إلغاء الاتفاقية الخاصة بالقاعدة الأمريكية في الظهران، وتعديل اتفاقية البترول مع أرامكو والغاء المرسوم الملكي رقم 2639»
قال أحمد صبحي: يواكب هذا الإصلاح التشريعي إصلاح اقتصادي وعمالي وتعميري إذ يطالب بشق وتعبيد الطرق في البلاد وتسهيل المواصلات، وبناء مدن عمالية صحية، وإنشاء صناعة خفيفة وثقيلة ترتبط بالبحث عن معادن، ويعمل فيها البدو الذين يمثلون 60% من السكان، ويلتفت للفلاحين والزراعة، فينادي برفع مستوي الفلاحين وحماية إنتاجهم وأراضيهم من سيطرة المرابين، وإنشاء بنوك زراعية لاقراضهم وتوجيههم واستيراد الآلات والخبرة الزراعية لهم، والعمل علي تحضير البوادي والقرى، واستصلاح أراضي البدو وتسليمها للفلاحين، ويركز اهتمامه علي إصلاح حال العمال، فيطالب باعادة العمال المسرحين، ورفع الغلاء عن العمال.
وأكمل أحمد صبحي محللاً لفكر ناصر السعيد: هذا الإصلاح المادي في الصناعة والزراعة والبنية الأساسية استهدف غرضاً اسمى كان يظهر بين سطور ناصر السعيد وهو التنمية البشرية أو رقي المواطن السعودي، ويبدو هذا من حرصه علي تعليم المرأة ووجوب التجنيد وتحضير البدو والقري؛ أي تحويل البوادي والقرى إلى مجتمعات حضارية متعلمة، وإلحاق البدو والفلاحين بالمزارع والمصانع والجيش، يقول السعيد مثلاً عن التعليم:«إصدار قانون يفرض التعليم الإجباري علي كل ذكر وأنثى في كل مراحل التعليم، فهذا ما فرضه علينا النبي محمد فرضاً حيث قال (طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة).» وقال السعيد عن التجنيد الإجباري:«إصدار قانون يفرض التجنيد الإجباري على كل فرد، ولا أقول كل مواطن ومواطنة لأن هذا الوضع سابق لأوانه في مثل وضعنا الحالي، ليصبح الشعب كله مسلحاً ضد الأعداء، وليس في هذا ما يخالف تعاليم النبي، كما يفتي البعض، وهذا ما فرضه علينا الدين.» وما قاله السعيد في خطابه كرره في رسالته حين قال:«توسيع برامج التعليم ونشره في أنحاء البلاد كافة، وتذليل العقبات التي وضعت في طريقه، وإرسال البحوث العلمية بصورة واسعة للتخصص في مجالات مختلفة في البلاد المتقدمة علمياً وزراعياً، وإباحة تعليم النساء وإيجاد مدارس لهم أسوة بالبنين.»
وحين دعى السعيد في الرسالة إلى التجنيد فإنه يرى في التجنيد لهم تنمية بشرية، حيث يقول:«تدريب جيش الإخوان البدو عسكرياً وضمه إلى الجيش النظامي ورفع مستوى الجيش عسكرياً وثقافياً واجتماعياً وسن قانون التجنيد الإجباري، كذلك رفع مستوى الشرطة الثقافي والاجتماعي.» والتفت السعيد إلى المساجين فيطالب بتحويل السجون إلى أداة تعليم وتهذيب وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإرجاعهم إلى عملهم وتعويضهم وتعويض أسر شهدائهم، ومعني هذا إطلاق حرية النخبة المثقفة في بناء وعي المواطنين وأحداث تنمية بشرية. ويرتبط بالتنمية البشرية والإصلاح السياسي والتشريعي والعمراني ومحاربة الفساد، ومن وجهة نظر السعيد يتركز الفساد في الاستعمار الأمريكي وعملائه داخل المملكة، ولم يكتف بأن يجعل للقوانين المقترحة دوراً في مطاردة الفساد والمفسدين من الأمريكيين وأتباعهم وإنما طالب بأجراءات أخرى منها إلغاء ما اسماه «مكاتب التجسس اللعينة ضد الجيش والشعب، وإبعاد مدير سكة الحديد الجاسوس الأمريكي الملقب بالشيخ قلدي، وإلغاء أوكار التجسس الأمريكية التي يشرف عليها أمثال المستشرقيين العالميين.» وذكر السعيد أسماءهم وأماكن تواجدهم، وألحق بتلك المطالبة أبعاد الباكستانيين والعمال الأجانب وغيرهم من خونة العربالذين تجلبهم أرامكو.
ومن وجهة نظر السعيد يرتبط بملاحقة الفساد «إيجاد ميزانية للمصروفات والواردات في كافة أنحاء الدولة تتماشي مع حفظ ثروة الشعب وتعمير البلاد، ووضع حد للتبذير ووسائل الترف والتصرفات الشخصية في ميزانية الدولة وأموال الشعب، كبناء القصور واستيراد السيارات والكماليات، وأنواع الرقيق والمئات من النساء، وصرف الأموال في سبيل الشهوات والهبات والصداقات والعادات السنوية والرشوات، والرحلات الملكية التي تنفق فيها الملايين بلا حساب.» وفي موضع آخر طالب السعيد بتطهير جهاز الدولة من جميع الدخلاء والخونة والحكام المرتزقة والجهلاء والظلمة ومحاسبة اللصوص الكبار الذين سرقوا مال الشعب مهما كانت مراكزهم وقرابتهم للبلاط الملكي، واسترداد أموال الشعب المسروقة ليعاد استخدامها في سبيل المرافق العامة، وتأمين حاجات العجزة والمتسولين من ضحايا الظلم كمقطوعي اليد والأرجل ومنكوبي السيول والحرائق.
وبالتالي فإن ناصر السعيد لا يرى أن أجهزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم بواجبها الشرعي، لذلك نراه يطالب ليس فقط بإلغائها ولكن بألغاء نفوذ آل الشيخ حيث قال:«تحطيم الطغيان الديني المزيف الممثل بأفراد من آل الشيخ الذين استغلوا الدين البرئ من دين محمد لأغراضهم الشخصية وإيذاء الشعب، وإلغاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها بعكس اسمها تأمر بالمنكر وتنهي عن المعروف، وتوظيف أفراد هذه الجماعات في أعمال أخرى نافعة للشعب ولا يضار بها الشعب، فالشعب ليس بحاجة إلى توجيه وإرشاد من حكومة فاسدة.» ومن الطبيعي أن تلك النظرة للسلطة الدينية المتمثلة في آل الشيخ والهيئات الدينية كانت تعبر عنها لمحات أخرى سبقت يخالف فيها الآراء الدينية التقليدية مثل دعوته للتعليم المدني وتعليم المرأة، والمبادرة بتحريم الرق والذي قدر عددهم وقتها في المملكة بحوالي ستمائة ألف من الذكور والإناث، وهناك مطالب أخرى في هذا السياق تعتبر تحدياً للموروث السلفي مثل مطالبته بحرية الاعتقاد للشيعة حيث قال:«إطلاق الحريات لأخواننا المواطنين من أبناء الشيعة لممارسة شعائرهم الدينية ومساواتهم في جميع مرافق الحياة العامة، وإلغاء الطائفية الممقوتة.» ويرتبط بهذه النظرة رأيه في حرية الفكر والرأي ومطالبته بإطلاق سراح السجناء السياسيين، وحتى مع كراهيته للعاملين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومطالبته بإلغائها، فإنه يطالب بأن يعملوا في مهن أخرى مفيدة ولا يطالب بمصادرة حقهم في العمل، ولم يكتف ناصر السعيد بالإصلاح الداخلي وإنما التفت إلى إصلاح السياسة الخارجية للمملكة، فطالب ليس فقط بالابتعاد عن التبعية لأمريكا، بل بالتمسك بسياسة الحياد الإيجابي والسير في قافلة التحرر العربي بقيادة جمال عبد الناصر، وتجنب مبدأ ايزنهاور اللعين، وعدم التدخل في شئون البلاد الأخرى والتعامل مع البلاد الأخرى اقتصادياً وسياسياً بما فيها الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وبقية الدول الشرقية الأخرى بصرف النظر عن أنظمة الحكم فيها، على أن تضمن الحكومة سيادة البلاد واستقلالها.!!!!!!!!!!!!!