الفرق بين الأثر الشعري والمعنى الشعري:
ثانيا / تحليل اللاكتابة في زمن المنصات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي ضوء ما نشهده على صفحات التواصل الاجتماعي من انهمار لا يُصدّق لنصوص تُسمّي نفسها شعرًا، يصبح التمييز بين “المعنى الشعري” و”الأثر الشعري” أكثر من ضرورة؛ إنه أداة مقاومة في وجه تفاهة تُنتج نفسها كلّ لحظة. فهذه النصوص – التي هي في حقيقتها خواطر عاطفية غارقة في ذاتية ضحلة – لا تملك لا المعنى ولا الأثر: لا عمقًا دلاليًا يُنتج تأويلاً، ولا صدمةً جمالية توقظ الحواس أو تربك الذائقة.
المقلق اليوم ليس فقط وفرة هذه النصوص في منصات التواصل، إنما تسلّلها إلى الصحف الورقية والإلكترونية، تحت مسمى “نصوص شعرية” أو “أصوات شابة”، وكأن هناك رغبة مؤسسية غير معلنة في تعويم المعايير وتوسيع رقعة الرداءة. تتكرر هذه النصوص يوميًا في صفحات أدبية تُفترض فيها المهنية، ولكنها تُحوّل المساحة الشعرية إلى نفايات لغوية مشوّشة، تُكرّر نفسها بإلحاح ساذج وتُكرّس ذائقة مريضة بالمباشرة والانفعال.
هذه الكتابات تتكئ على خطاب مباشر، عاطفي، مفرط في المجاز الفارغ، لا ينبع من قلقٍ وجودي أو رؤية جمالية، إنما من رغبة في التراكم والظهور. إنها “مراهقة لغوية”، تتصنّع النضج، لكنها لا تُراكم شيئًا سوى الخفّة والادّعاء. وما يُسمّى أثرًا في هذا السياق، لا يتجاوز أحيانًا ردة فعل عاطفية مُفرطة، لا تختلف عن تأثير منشور مُلهم أو صورة حزينة، مما يجعلها تنتمي إلى فضاء الاستهلاك السريع لا التجربة الشعرية العميقة.
ولعلّ الأخطر في هذه الكتابات أنها تُنتج ذائقة هشّة، وتُربّي جمهورًا يقبل بالحدّ الأدنى من اللغة، ويُقايض الشعر بالاستسهال. إنه عصر “اللاكتابة” المتخفّي في قناع الكتابة. وحين تُسأل هذه النصوص: أين شعريتك؟ لا تجد إلا تمتمات عاطفية تُشبه ما يقوله أيُّ مراهقٍ في مفكرة سرية.
لقد آن الأوان، إذن، أن نفرّق نقديًا بين ما يُحدث “أثرًا شعريًا حقيقيًا” – وهو أثر الجمال، المفارقة، التجربة، الخلخلة – وبين ما يُحدث أثرًا انفعاليًا هشًا يُشبه تأثير منشور تحفيزي، أو اعتراف مراهق عند منتصف الليل. فليس كل ما يهزّ القلب شعرًا، كما أن ليس كل ما يُقال بلغة مجازية جديرٌ بالتسمية الشعرية.
وأسوأ ما تُنتجه هذه الحالة أنها تصنع جمهورًا غير معني بالشعر أصلًا؛ جمهورًا يبدأ تاريخه من زر الإعجاب، وينتهي عند تعليق جاهز لا يعكس ذائقة، بل يكرّس الاستسهال ويعيد تدوير الابتذال، حتى أصبح الشعر وهو كذلك في أعين البعض مجرّد منشور صالح للمشاركة والتكرار لا تأمل فيه ولا أنصات
حيدر الأديب