حين تمرّ الوجوه مرّتين
==============
لم يكن عمر يُفكّر في شيء، ولا حتى في نسيان ما حدث.
كان يمشي في الشوارع كما يمشي من فقد الاتجاه.
يمرّ بمحطّة القطار كل صباح، لا ليلتحق بجامعة، بل ليقنع نفسه بأنّ النهار قد بدأ،
وأنّ عليه أن يصمد حتى النهاية.
كأنّ الوقوف وسط الزحام يُنسيه وحدته، أو يؤكّد له أنه ما زال جزءًا من هذا العالم، ولو بالصدفة.
كان يحمل في يده كتابًا لم يفتحه منذ أسابيع،
وفي جيبه ورقة غرامة، مطويّة بعناية، كأنّها رسالة من قدرٍ لا يُردّ.
جلس على مقعد خشبيّ قرب الحائط الزجاجي.
القطارات تمرّ ولا تُبطئ.
الناس تمرّ ولا تنظر.
وهو… مجرّد ظلّ يعلّق على الأشياء، لا فيها.
ثم جاءت.
خطواتها لم تكن عالية، لكنّها أخذت انتباهه دون إذن.
فتاة تحمل حقيبة ظهر بلون باهت، وشعرها مربوط بطريقة تشبه اللامبالاة.
لكن في عينيها شيء لا يشبه أحدًا… شيء نقيّ وسط مدينة تسرق النقاء.
جلست على المقعد المقابل، ولم تنظر إليه.
أخرجت كتابًا من حقيبتها… الغلاف نفسه، المؤلّف نفسه.
رفعه بعفويّة، وقال بصوت خافت، كأنّه يختبر واقعه:
ـ “تحبّين كونديرا؟”
رفعت رأسها. نظرت إليه لحظة، ثم ابتسمت.
ابتسامة لا تشبه الترحيب، بل تشبه التفاهم الصامت.
قالت:
ـ “أحيانًا… لما أحسّ أن العالم فقد الإحساس.”
ثم أضافت، وهي تفتح الكتاب:
ـ “وأنت؟”
لم يُجب.
تنفّس ببطء، وكأنّه يختبر الهواء من جديد.
لكنّه شعر، للمرّة الأولى منذ أسابيع، أن أحدًا لم ينظر إليه كغريب.
سألها بعد صمت:
ـ “شنو اسمك؟”
قالت دون تردّد:
ـ “نور. وأنت؟”
قال:
ـ “عمر.”
لم تكن تلك محادثة عاديّة.
كانت مثل نقطة ماء تسقط على زجاج جافّ.
لم تروِ، لكنها قالت: الحياة ما زالت هنا.
في اليوم التالي، عاد إلى نفس المقعد، في نفس الساعة.
فوجدها هناك.
تنتظره. أو ربما تنتظر نفسها، في حضرة وجه لم يُؤذِها.
لم تكن تعرف بعدُ شيئًا عن قصّته،
ولا هو كان مستعدًّا للبوح.
لكن شيئًا بينهما بدأ يتشكّل… شيء صغير، خافت،
مثل دفء ينبعث من شمعة في غرفة باردة.
راضية بصيلة