في مثل هذا اليوم 11 يناير 1904م..
البريطانيون يهاجمون قوات الدراويش التابعة للزعيم الصومالي محمد عبد الله حسان الملقب بالملا المجنون ويوقعوا إصابات فادحة بين قواته.
السيد محمد بن عبد الله حسن (7 أبريل 1856 – 21 ديسمبر 1920) قائد الجهاد ضد الاحتلال البريطاني والإيطالي والإثيوبي في الصومال في مطلع القرن العشرين. كان يلقبه البريطانيون ب”الملا المجنون”.
وفي 11 يناير 1904 م (20 شوال 1321 هـ) قامت قوات الإحتلال البريطاني بمهاجمة قوات الدراويش التابعة للزعيم الصومالي “السيد محمد بن عبد الله حسان” ، وأوقعت إصابات بالغة بين قواته. وقد استمر الملا في محاربة الإستعمار البريطاني للصومال حتى سنة 1920 عندما لجأت بريطانيا إلى الطيران لقصف مواقع الثوار، ثم جاءت وفاة الملا لتضع حدا لثورته الإسلامية.
قام السيد محمد بتعبئة مريديه نحو الكفاح والجهاد في سبيل الله، وكانت المعركة الأولى حوالي عام 1899 حينما وصل بعض الجنود غير النظاميين من الأحباش إلى مدينة جججة الصومالية، ليفرضوا اتاوة على سكانها بعد أن قاموا بنهب المنازل، وما في المساجد من حصر وسجاد، وما في الحقول من محاصيل وحيوان، وتقدم السيد محمد وجنوده إلى مشارف مدينة جججة وقاموا بغزوة سريعة على معسكرات الأحباش، وانتصر عليهم، وتقهقروا مهزومين، وغنم السيد محمد ورجاله الكثير من السلاح والعتاد الطلياني، وعادوا إلى أغادينا، غير أن السيد محمد لم يستطب الحياة فيها، ومن ثم اتجه إلى مدينة فطوين لإعداد قواته للقيام بحملات واسعة ضد البريطانيين حتى يجلوا عن البلاد.
التعبئة العامة
بدأ السيد محمد بالدعوة إلى توحيد القوى الصومالية ضد المستعمرين، وكان في عمله هذا لابد أن يصطدم مع بعض زعماء القبائل الصومالية، لأن المجتمع الصومالي في هذا الوقت كان مجتمعاً قبلياً وكان رئيس القبيلة له السلطة العليا فإذا خرجت الزعامة من يد رئيس القبيلة، كان ذلك انقلاباً في حياة المجتمع، لا يرضى عنه رئيس القبيلة، فإذا وافق البعض فإنه من المؤكد أن البعض الأخر لا يوافق على خروج الزعامة لأن ذلك في اعتقادهم إضعاف لنفوذهم ومن ثم حدث احتكاك بين السيد محمد وبعض القبائل التي رفضت الكفاح وانضمت إلى قوى الاستعمار فكانت حروب بين مبدأين، كل له أنصاره ومؤيدوه. واضطر السيد محمد أن يدخل الحرب في الجبهة الداخلية لضمان وحدة المقاومة وعدم التسلل للخونة، فكانت ضربة على الخونة والمتعاونين مع الاستعمار تحت تأثير المال والجاه، وقد انضم إليه الكثير من القبائل الوطنية التي أيدت دعوته وزادته قوة وإصراراً على انتزاع حقوق مواطنيه من يد المستعمرين.
قام السيد محمد عبد الله حسن وأتباعه بعدة معارك حربية مع قوات الاستعمار ومن أشهر هذه المعارك، الوقائع التالية:
غزوة بهر طبغ ( حوض الدم)
في أبريل 1901 أصدرت الحكومة البريطانية أمراً إلى الكابتن سواين بالقيام على رأس جيش من قاعدة بربره إلى مدينة أفبكيلي، إذ قيل أن السيد محمد قد جمع دراويشه في هذه المنطقة لمحاولة التغلغل داخل ثكنات الجيش في بربره، والحصول على أسلحة وصلت حديثاً إلى الميناء. وتحرك الكابتن سواين بجنوده نحو الداخل، وكان السيد محمد على علم بتحركات الجيش الإنجليزي، فترك مدينة أفبكيلي، هو و جنوده ليلاً حتى إذا ما وصلت القوات الإنجليزية إلي المدينة التي قيل أنها محصنة جداً لم يجدوا بها شيئاً، و قد فاجأهم السيد محمد برجاله في صباح الثالث من مايو، و كانت أول معركة يدخل فيها السيد محمد على رأس جيش منظم، و كان الإنتصار عظيماً للصوماليين و الخسائر فادحة للبريطانيين، و تخليداً لهذا الإنتصار سميت هذه المعركة باسم معركة بهر طيغ أو حوض الدم لكثرة الدماء البريطانية التي ملأت بقاع المدينة.
غزوة قرطدن
لم يمض شهر على غزوة بهر طبغ حتى وصلت الأنباء إلي معسكرات المسلمين في ناحية لاس عانو أن البريطانيين بعثوا بحملة أخرى أكثر عدداً تحت قيادة الكابتن سواين للثأر من السيد محمد و رجاله الذين فاجأوه في صباح الثالث من مايو سنة 1901 و قتلوا عدداً كبيراً من البريطانيين. و لما علم السيد محمد بأمر الحملة نادي في جنوده قائلاً : ( يريد الكفرة أن يلحقوا بنا الهزيمة لما ألحقناه بهم من خراب و تدمير. فإلي الجهاد يا رجال الإسلام.) و تقابلت جيوش السيد محمد و جيوش بريطانيا العظمي إلي الشرق من لاس عانو بنحو خمسين ميلاً في مكان يدعي قرطدن، و كان النصر فيها للهلال على الصليب في 16 يوليو عام 1901.
السياسة الجديدة لبريطانيا ضد قوات السيد محمد: في مارس عام 1902 اضطر البرلمان البريطاني بعد أن قام البرلمانيون بدراسة تقرير ونستون تشرشل وزير المستعمرات عن الحالة في شرق أفريقيا، أن يقرروا إرسال وفد إلي الصومال لمعرفة الحقائق من أفواه الشعب و المسئولين، و كلفت الحكومة البريطانية سير ريجنالد و نجت حاكم السودان العام بالسفر إلي الصومال على رأس وفد، و كتابة تقرير عن أحوالها، و تقديم مقترحات عملية لحل الأزمة الصومالية، و مقابلة المسئولين البريطانيين لتخفيف عبء الحكومة، و تهدئة ثورة الشعب الصومالي الثائر على الحكومة. و بعد زيارة ونجت للصومال كتب تقريره مقترحاً وضع خطة للقضاء على قوات السيد محمد بالإشتراك مع القوات الفرنسية، و إقناعها بعدم بيع أسلحة أو ذخيرة للثوار. و من مقترحاته فتح باب المفاوضات المباشرة مع السيد محمد و إقرار السلام. و عملت بريطانية بالإقتراح الأول و هو أسلوب العنف و التهديد و اعتمدت في حروبها إلي استخدام الطائرات لأول مرة في شرق أفريقيا، للإرهاب و التنكيل بقوات السيد محمد، و تحولت الصحاري الصومالية الصافية إلي مداخن من الأتربة بفعل القنابل الكثيرة التي دمرت الكثير من مساكن الصوماليين الأبرياء.
غزوة بيرطقة
( شمال جالكعيو ) 19 أكتوبر 1902 كان السيد محمد و رجاله في منطقة مدق عام 1902 طلباً للراحة و الاستعداد لغزوات واسعة المدى، و انتظاراً للأسلحة التي وعد سلاطين الماجرتين أن يمدوا بها الدراويش الصوماليين مساهمة منهم مع أخوانهم الصوماليين في جهادهم ضد الطليان و الإنجليز و الأحباش. و عملت المخابرات البريطانية بمواقع القوات الصومالية بقيادة السيد محمد، فأصدرت السلطات البريطانية على ساحل الصومال أمراً بتعبئة جيش جرار لمداهمة الصوماليين في ناحية مدق ( داخل نطاق الصومال الإيطالي ) و ذلك بالإتفاق مع إيطاليا بشأن السماح للقوات البريطانية بمطاردة السيد محمد و رجاله حتى داخل أراضي المحمية الإيطالية. و السيد محمد الحريص على مصالح وطنه بعث الرسل إلي نواح مختلفة بعيدة عن أرض معسكرات الصوماليين للتجسس على الأعداء، و قد جاء رسول يخبره أن جيشاً بريطانيا ً في طريقه إلي مدق، فتأهب السيد و رجاله للدفاع و المقاومة، و التقي الجيشان في بيرطقه و كان النصر للدراويش بجانب ما غنموه من الأسلحة الحديثة الوافرة لدى العدو.
معركة عفاروينه في 17 إبريل 1903
و ما أن وصلت أخبار هزائم البريطانيين في الصومال، و الخسائر الفادحة في الأرواح و الأموال حتى قررت الحكومة البريطانية أن تقضي على الثورة الصومالية مرة واحدة قبل أن يستفحل أمرها، و يزداد نفوذها مما لا يتفق و السياسة البريطانية على ساحل الصومال، في الوقت الذي قد تتأثر فيه المحميات البريطانية الأخرى بالنزوع إلي الحرية و الاستقلال. و أتخذت الترتيبات اللازمة نحو ترك قوات إنجليزية من قاعدة بربره إلي منطقة مدق و أن تبعث إيطاليا بحملة ثانية من ناحية الجنوب. على أن يتعاون البريطانيون، و الإيطاليون في غزو من ناحية الشرق. وخرجت القوات الإنجليزية من الشمال والإيطالية من الجنوب في الوقت الذي وصلت فيه السفن البريطانية إلى هوبيا، وتبعاً لاتفاقية عام 1889 بين سلطان هوبيا وإيطاليا كانت هوبيا تحت الحماية الإيطالية، ومن ثم سمح الإيطاليون للجنود البريطانيين بالعبور خلال أراضي هوبيا رغم احتجاج السلطان يوسف على الذي نفاه الإيطاليون إلى أسمرة. وبعد أن تجمعت الجيوش في منطقة مدق أرادوا أن يدمروا حصون الدارويش دفعة واحدة، غير أن السيد محمد عمل على سحب القوات المعادية إلى أرض عفاروينه حيث تمكن أن يلحق بهم خسائر أكثر من أي معركة أخرى منذ أن أعلن الجهاد ضد الإنجليز والإيطاليين والأحباش. وفي اليوم التالي لهذه المعركة تعرض السيد محمد ورجاله إلى قوات إنجليزية قادمة من ناحية هود وأمكن هزيمتها في معركة درتولي، وهلل المسلمون حمداً لله بأنهم في يومين متتاليين استطاعوا أن يهزموا قوات إنجليزية وإيطالية أحسن سلاحاً منهم وأكثر عدداً، وقد غنم الصوماليون غنائم كثيرة. وعلم السيد محمد أن منليك بعث بجيش تحت أمرة ضباط بريطانيين لمهاجمة الدراويش في الأوجادين غير أنهم تراجعوا حينما بلغتهم الأخبار عن مدى خسائر القوات الإنجليزية والإيطالية في معركتي عفارونيه ودرتولي.
وجدت بريطانيا أنها خلال الفترة ما بين 1900 إلى 1904 لم تستطع أن تحصل على أية انتصارات أمام قوات السيد محمد، واتضح لها من كشوف الوفيات والمفقودين أن عدد الضباط الإنجليز والجنود الذين تفقدهم بريطانيا في محاربة السيد محمد يزداد من عام إلى عام بل من معركة إلى أخرى، حتى كانت آخر معارك عام 1904 بلغ عدد القتلى أكثر من عشرة أضعاف ما حدث في أول معركة رغم المساعدات التي تقدمها إيطاليا من حين إلى آخر مما أزعج الرأي العام البريطاني للخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد الحربي.
من أجل إصلاح الموقف البريطاني في الصومال، دخلت بريطانيا في عدد من الاتفاقيات الدولية على نطاق واسع بهدف إيجاد أصدقاء لها أمام المحنة التي تجابهها في الصومال للقضاء على قوات السيد محمد وأتباعه. ومن أجل ذلك قامت بريطانيا بإبرام معاهدة 1905 بشأن الاعتراف بمحمية الصومال الإيطالي كحقيقة واقعة مقابل أن تعترف إيطاليا بمحمية الصومال البريطاني ونفوذ البريطانيين في جوبالند وكينيا. وفي الوقت نفسه تتعهد الدولتان بالعمل لما فيه انهاء قوات السيد محمد وأتباعه من الصومال، وتصفية شئون سلطان زنجبار على ساحل الصومال، كما جاء في رسالة المركيز لاندس داون البريطاني إلى السنيور باتا الإيطالي في 13 يناير 1905 وتعتبر هذه الرسالة جزءاً من معاهدة سنة 1905 التي من أهم نصوصها.
مادة1 : تدفع الحكومة الإيطالية مبلغ 144 ألف ليرة إيطالية أو ما يماثلها بالعملة الاسترلينية في بنك انجلترا لحساب حكومة زنجبار في خلال ثلاثة شهور من تبادل الوثائق. على أن تستمر إيطاليا في دفع قيمة الإيجار المتفق عليه حتى ينتهي ثمن الشراء إلى البنك وبذلك تنتهي كافة حقوق السلطان بمقتضى اتفاقية 1892، 1896 بشأن إدارة المدن والمواني والمقاطعات على ساحل بنادر التي تقوم بإدارتها الشركة الإيطالية، على أن يكون لرعايا السطان ورعايا بريطانيا كافة الامتيازات المتفق عليها سابقاً.
مادة 2: في حالة تخلي الحكومة الإيطالية عن حقوقها الإقليمية سواء بمقتضى معاهدات و اتفاقيات أو عرف أو ما شبه ذلك في المستعمرات الأخرى لسلطان زنجبار، فإنها تكون من هذا التاريخ تحت يد صاحبة الجلالة البريطانية بحكم أن زنجبار في يدها منذ عام 1987م.
مادة 3: تتعهد الحكومة الإيطالية في حالة تخليها عن أي جزء من الأراضي المذكورة في أي وقت فإن لبريطانيا حق تملكها بالشفعة. و في الشهر الثاني من تاريخ إبرام معاهدة 1905 دخلت بريطانيا مع إيطاليا في مفاوضات بشأن التعاون في القضاء على قوات السيد محمد، و في الوقت نفسه طلبت من فرنسا أن تغلق موانيها و طرقها ضد تسرب الأسلحة الحربية إلي قوات السيد محمد.
و رغم الإتفاقيات و الجهود الأوروبية في شل قوات السيد محمد فإنهم لم يحققوا أي نصر حربي ذي إعتبار. و لذا وجدت بريطانيا أن الطريق الوحيد لتهدئة ثورة الشعب الصومالي هو التفاوض المباشر مع السيد محمد، و منحه كل ما يرغب في حدود بقاء القوات الأجنبية في الصومال. و قامت مباحثات بريطانيا – إيطالية على أن تقوم إيطاليا بالتفاوض مع السيد محمد بشأن عقد إتفاق صلح و سلام ثم تقوم بريطانيا من ناحيتها بالتصديق على المعاهدة التي تبرمها إيطاليا مع السيد محمد.
معاهدة الصلح والسلام
كان السيد محمد و رجاله معسكرين بناحية أيل، حينما وصل الكومنداتور إلي اليج على ساحل المحيط الهندي و ناشد السيد محمد إجراء مفاوضات بشأن الصلح و السلام، و بعد نقاش طويل وقع الطرفان معاهدة الصلح و السلام في مارس سنة 1905.
المادة الأولي:
نصت على الصلح الدائم بين السيد محمد عبد الله وأتباعه، و الحكومة الإيطالية و التابعين لها من الصوماليين، و كذا الحال مع بريطانيا و الحبشة. وإن كل نزاع أو إختلاف ينشب بين السيد محمد و أتباعه مع إيطاليا أو بريطانيا أو الحبشة يعرض بطريقة ودية مسالمة عن طريق مبعوثين من الطرفين تحت رئاسة المندوب السامي الإيطالي أو المندوب الإنجليزي في حالة ما إذا كانت نقطة النزاع مع البريطانيين.
المادة الثانية:
نصت على تحديد منطقة إقامة السيد محمد و أتباعه ما بين رأس جاراد و رأس حابي بموافقة سلطان هوبيا و سلطان مجرتنيا الخاضعين للمحمية الإيطالية على أن يكون لإيطاليا حق تعيين مندوب عنها في أي وقت كحاكم على هذه المنطقة، و يساعده السيد محمد عبد الله على أن يقوم السيد محمد عبد الله كوكيل لأعمال إيطاليا حتى يعين مندوب إيطالي.
المادة الثالثة:
نصت على حرية التجارة في المنطقة الخاضعة لنفوذ الشيخ محمد، و أن يتعهد رسمياً بمنع مرور الأسلحة من البر أو البحر، أو استرادها، و كذلك تجارة الرقيق و أن الخالف لهذه القوانين يقع عليه عقاب تحدده الحكومة الإيطالية حسبما تري.
المادة الرابعة:
نصت على أن المنطقة المخصصة للسيد محمد و أتباعه هى منطقة نوقال و هود و لهم حق الرعي في المناطق الجنوبية من محمية الصومالند البريطانية على ألا تتعدي الحركة الرعوية خط الآبار – (هالين – هودين ) – ( هودين – نقال ) – ( نقال – ودانوت). و له حق الرعي إلي الجنوب من نطاقهم، و يجب أن يحصل على موافقة من أصحاب الأراضي في مجرتنيا و مدق، و أن المنازعات التي تتعلق بالمراعي أو سكان هذه الجهات ترفع إلي السلطات الإيطالية التي تقوم بحلها.
في 28 ذي الحجة 1322هـ .
إمضاء. السيد محمد عبد الله، ج. بستالوزا
إعتماد المعاهدة من بريطانيا
وقعت بريطانيا على الملحق الإضافي للإتفاقية لإمتداد السيد محمد و أتباعه إلي هالين – هودين – بوران – دانوت – كورمس – و صارت الإتفاقية نافذة المفعول إعتباراً من تاريخ توقيع الملحق الإضافي في مارس سنة 1907. ( انظر الخريطة رقم 11)
إلغاء المعاهدة من طرف السيد محمد
قام السيد محمد بدراسة الإتفاقية الإيطالية، و ما قام به البريطانيون من تعديلات، و أدرك أنها مؤامرة و الهدف منها تحديد نطاق الدراويش حتى يمكن القضاء عليهم في حيز ضيق بين المحمية البريطانية و المحمية الإيطالية و في المعاهدة إهانة لشخصية السيد محمد، إذ جعلته نائباً للحكومة الإيطالية المستعمرة في صوماليا و ذلك في نطاق المنطقة المحدد للسيد محمد و الدراويش و هى أيضا تحد من تسليح الشعب المجاهد في سبيل تحرير بلاده من الدخلاء. و رغم إعتراف بريطانيا بالمعاهدة فإن السيد محمد أعلن أن الإتفاقية ملغاة لأنها لاتتفق و آمال الصوماليين في الحرية و الاستقلال الكامل. و اضطر السيد محمد أن ينقض الإتفاقية مستنداً إلي قوله تعالي ( و أما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) و إستأنف السيد محمد و أتباعه القتال من جديد، و نقل مركز القيادة من أيل إلي تاليح لحصانتها و سهولة الإتصال مع بقية المراكز الدفاعية الصومالية.
فشل المؤامرات البريطانية
بعد إعلان إلغاء معاهدة الصلح و السلام أدركت بريطانيا أن مؤامرة الإعتراف بالصومال الإيطالي، و مؤامرة معاهدة السلام والصلح، و مؤامرة الإتفاق مع فرنسا على عدم تسليح أو السماح بمرور أسلحة السيد محمد و أتباعه. إلخ لم يكن اهذه المؤامرات نصيب من التوفيق. و في عام 1910 بعد عمليات حربية غير فاصلة، بسبب نزوع السيد محمد و أتباعه دائماً إلي عرقلة تقدم الوحدات الثقيلة من الأجهزة الحربية البريطانية في غزواتها سواء على يد الفدائيين أو عن طريق الكمائن، صدرت الأوامر من الحكومة البريطانية بتراجع وحدات الجيش إلي الأراضي الساحلية و ترك المدن و القلاع الداخلية للسيد محمد و أتباعه ريثما ترسل تعليمات أخرى إلي القواد الإنجليز على شاطيء الصومال. و من كشوف التسجيل الحربي البريطاني إتضح أن تراجع البريطانيين على الساحل كان لجمع الشمل و معرفة الحي من الميت، و توزيع السلاح و إحضار فرق عسكرية جديدة من الهند و عدن و كينيا تنضم إلي قوة المحمية بصفة استثنائية و تربط وجودها بحياة السيد محمد فإذا ما قتل عادت هذه الفرق إلي قواعدها في شرق أفريقيا و الهند و عدن و كينيا.
تهديد و وعيد
كتب الجنرال رتشارد كورنفيلد القائد العام للقوات البريطانية المسلحة في محمية الصومالند رسالة إلي السيد محمد عبد الله حسن. جاء فيها.( من قائد القوات البريطانية في الصومال إلي قائد قوات الدراويش السيد محمد عبد الله حسن. أما بعد. لقد نصحناك و أنذرناك من سوء العاقبة، و لم تقبل نصيحتنا، و لهذا فقد تكون عرضة لهجوم حكومة أكبر منك قوة، و سننسفك نسفاً أنت و من معك، إذا لم ترجع عن غيك، و تخمد ثورتك الجنونية و اعلم أن دولة صاحبة الجلالة عظيمة جداً، و لا يستطيع مجنون مثلك أن بنال منها شيئاً، فارجع عما أنت فيه، وعد إلي صوابك قبل أن تقع عليك المصيبة، و تندم على أعمالك السيئة، و الموت ينتظرك متى أصررت على عنادك). و كانت إجابة السيد محمد على رسالة ريتشارد كورنفيلد البريطاني كالتالي. ( من السيد محمد عبد الله حسن قائد قوات الدراويش الإسلامية إلي الجنرال رتشارد كورنفيلد قائد قوات الشيطان. قد أطلعت على رسالتك، و فهمت منها جميع أغراضك الدنيئة و أغراض حكومتك الوضيعة، و اعلم أن قواتكم التي تفاخرون بها لا تساوي لدي شيئاً، و أعلمك أيضاً أنكم إذا كنتم تحاربون بقواتكم الهائلة، فإنني اقاتلكم بنيتي الوطنية، و إيماني القوى، و عزيمتي المتينة التي لا تعرف الملل، مهما تكن الظروف فلن استسلم و لن أكون للشرك عبداً).
معركة دلمادوب
أدركت بريطانيا أن إسلوب التهديد لا يجدي مع السيد محمد المؤمن برسالته و دعواه في تحرير و استقلال وطنه، و قررت أن تدخل حرباً كبرى مكشوفة أمام قوات السيد محمد، فأبرقت إلي الجنرال رتشارد كورنفيلد أن يعد جيشاً قوياً و له مطلق التصرف في استدعاء الضباط و الجنود للدخول في المعركة الثأر للشرف البريطاني الذي استهزأ به السيد محمد، و أن يقضي قضاء تاماً على ما سمعوه بالعصابات الصومالية و قطاع الطرق، و أن يترأس القوات المسلحة المغيرة و التي تتألف من القوات الهندية الإنجليزية القادمة من الهند بالإضافة إلي القوات الموجودة في المنطقة ( أي قوات المحميات البريطانية في عدن و الصومال و زنجبار وكينيا). و اعتبر رتشارد أن المعركة تمثل هيبة بريطانيا، و حدد مكانها في تاليح معقل الدراويش، و بعد أن تجمعت قواته. زار زئير الأسد في جنوده. قائلاً. إلي الفناء يا عصابات الطرق. و دخلت الفرق الإسلامية الصومالية معركة الحقد و الثأر بكل عزيمة و إيمان و دارت رحى الحرب في أكتوبر 1913 و قتل الجنرال رتشارد في بداية المعركة عند دولمادوب و خرج الشرف الصومالي مصوناً قد حمته دماء ذكية طاهرة لتروي شجرة الحرية، و تعلن انتصار الحق على الباطل و الاستعمار. و تراجعت القوات الإنجليزية مذعورة إلي النطاق الساحلي. و هى تضمد جروحها، و تبكي قائدها الكبير الذي سقط مضرجاً بدمائه تحت سنابك خيول الفرسان الصوماليين الصناديد. و أعلنت وزارة المستعمرات البريطانية حداداً على الجنود و الضباط و قائدهم الكبير و الذين سقطوا في المعركة ضد الصوماليين أو أسروا. و أعلن الصوماليون عن فرحتهم الكبرى فسجدوا لله شكراً على هذه الغنائم من الأسلحة و العتاد الحربي الذي لا يحصيه حاسب. و كانت هذه الذخائر خير معين للقوات الصومالية ضد البريطانيين مرة أخرى و أخرى في انتصارات متتالية. ولا فرق بين معركة عدوه سنة 1886 و معركة دلمادوب الكبرى سنة 1913 ففي الأولي ( 1886 ) هزم الإيطاليون و في الثانية ( 1913 ) هزم البريطانيون وفي الأولي تحصل الأحباش على الأسلحة بالشراء من الإيطاليين و استخدموها ضدهم، و في الثانية غنم الصوماليون أسلحة من البريطانيين و حاربوهم بها.
أدركت بريطانيا أن سياسة المفاوضات من أجل الصلحوالسلام تحت ظل الاستعمار لم تجد قبولاً عند السيد محمد المؤمن برسالته، و أن سياسة التهديد و الوعيد أسفرت عن قتل القائد العام للقوات البريطانية في الصومال و عن هزيمة الجنود البريطانيين في معركة دولمادوب و خسائر كبيرة في الأرواح و العناد. فاتخذت بريطانيا سياسة جديدة هى سياسة التعظيم و التكبير والإغراء و الهدايا و الرشوى فبعثت ببرقية إلي القائد العام للقوات البريطانية في الصومال أن يرفع العلم الأبيض رمزاً للسلام، و أن يدخل في مفاوضة مباشرة مع السيد محمد و أتباعه بحضور نائب ملك الهند و أن يمنحه الأمان، و كل ما تشتهي نفسه من أجل استقرار المحمية البريطانية في الصومال. فبعث القائد الجديد برسالة إلي السيد محمد يناشده أن يلبي نداءه و يجتمع في مكان قريب من لاس عانود في ساعة محدده. فاستجاب السيد محمد لنداء القائد البريطاني الجديد عسي أن تنتهي المفاوضات باستقلال وطنه. و تقابل الوافدان الإنجليزي و الصومالي. و تباحثا في أمر الاستقرار و الهدنة. و تقدم نائب ملك الهند بهدية إلي السيد محمد بعد أن قدم التحية باسم ملكة بريطانيا و حكومتها و شعبها. و خلال الحديث أدرك السيد محمد محور الهدنة و الصلح، و هو أن يلقي الدراويش سلاحهم مقابل أن تعترف الحكومة البريطانية و الدول الصديقة بالسيد محمد كملك على الصومال، و أن بريطانيا تضمن له اعتراف الدول به كملك على الصومال. و مع الهدية القيمة وبريق المجد و السلطان الكبير فإن السيد محمد لم ينظر إلي هذه الاعتبارات و ذاك الإغراء، بل أمر مرافقيه بالقاء الهدايا و قال كلمته المشهورة الخالدة التي تعتبر دستوراً لأمانة النضال و الصدق في القيادة و هى ( أني لم أفكر في أن أكون ملكاً، و لم يكن ذلك هدفي لا في الحاضر و لا المستقبل، و لكن هدفي الوحيد هو أن أطهر بلادي من الاستعمار، و اعيد إليها حقوقها المغتصبة، و اطهرها من الشرك و النفاق ولست أبالي بعد ذلك أن أحيا أو أموت ). و لو أن السيد محمد كان يرغب في الملك لما رفضه حين عرض عليه مع الهدايا القيمة و لكنه لا يرغب ألا في الحرية لوطنه، و الاستقلال لبلاده. و عاد الوفد الصومالي إلي مناطق التجمع للقوات الإسلامية ليروي على إخوانه ما ذهبت إليه السياسة البريطانية من تهديد و ضرب بالحديد و النار إلي الوعد بالأماني و الأحلام في ظل الاستعمار و العبودية.
قام السيد محمد بتوزيع القوات الصومالية على ثلاث جبهات، جبهة لمحاصرة القوات الإنجليزية على النطاق الساحلي، و جبهة لمحاصرة منطقةبنادر لتحول دون تقدم أي فرق إيطالية إلي مدق أو مجرتنيا، و جبهة مرابطة داخل أراضي الأوجادين و كانت بصفة دائمة و إليها يرجع الفضل في عدم وقوع أي إعتداء حبشي نحو الأوجادين منذ أن ثار السيد محمد و أعلن الثورة الصومالية ضد الدخلاء و المستعمرين في عام 1901. و كان مسامو العالم في مصر و البلاد العربية و في الهند و تركيا وغيرها يباركون هذا الجهاد العظيم لمسلمي الصومال، و خشى البريطانيون أن يزداد الصوماليون قوة بتعضيد القوى الإسلامية، فأسرعت بريطانيا إلي عقد إجتماعات في لندن و في روما و في أديس أبابا للتشاور في مسألة الصومال، و السيد محمد و أتباعه، لأن القضاء على السيد محمد و أتباعه معناه إمكانية المحافظة على التقسيم الحالي للصومال بين الدول الأوروبية و الحبشة، و أن نجاح ثورة السيد محمد معناها طرد الأوروبيين و الأحباش من كل بقعة يعيش فيها صومالي، و كانت بريطانيا في هذا الوقت تعاني من قوات الدراويش في السودان. و قوات الدراويش في الصومال و أيقنت أن الأيام ستكون في صالح الشعوب الإفريقية إذا لم يتخذ المتآمرون قراراً سريعاً بشأن ما سموه حرب العصابات الصومالية و قائدها السيد محمد. و تسربت أنباء الإجتماعات التي يعقدها الدخلاء و تكتلهم ضد القوى الصومالية للقضاء عليها و إبقاء الصومال المقسم إلي خمس وحدات سياسية. في الوقت الذي كان يعاني فيه السيد محمد من نقص في الأسلحة و التموين بسبب الرقابة البريطانية و الإيطالية على سواحل الصومال و منافذها البحرية، و لذا كان حتماً على السيد محمد ان يتجه إلي العالم الإسلامي يطلب منه مساعدة مسلمي الصومال في قضيتهم العادلة.
معاهدة حماية مع الدولة العثمانية
أرسل السيد محمد عبد الله حسن الوفود إلي دول العالم الإسلامي لمد الصومال بالسلاح و الذخائر و التموين و وفداً خاصاً إلي الدولة العثمانية التي كانت تحكم دول العالم الإسلامي في أفريقيا وآسيا و كان الوفد الصومالي برياسة الشيخ أحمد مشروع بن محمود الصومالي نيابة عن السيد محمد لإجراء معاهدة حماية مع الدولة العثمانية. و هذا نص المعاهدة عن النسخة الأصلية المصورة في كتاب ( الحديد و النار ) لكروسيللي طبعة (1936 ).
في أؤائل عام 1919 علم السيد محمد و رجاله أن الحكومة البريطانية قررت أن تعبيء جيشاً برياً مزوداً بالعربات المصفحة و المدافع الرشاشة السريعة الطلقات، و عشرة آلاف جندي من المشاة تساندهم قوى هائلة من الطيران بقصد التوغل في أراضي المحمية لتطهيرها من الدراويش و تفادي الخسائر التي تصاب بها المعسكرات البريطانية من جراء المفرقعات التي يضمها الفدائيون الدراويش في جهات مختلفة من المعسكرات، حتى اختفت فرق عسكرية بريطانية بأكملها.
و كان السيد محمد يعسكر مع الدراويش في مكان قريب من عرجابو حينما وصلته هذه الأنباء على لسان تاجر عربي. فأمر السيد محمد أن يرتحل الجنود إلي تاليح المركز العام للقيادة الصومالية لمتانة التحصن بها، و بدأ سير القوات الصومالية صوب تاليح غير أن الأنباء وصلت عن وجود فرق إنجليزية متجهة ناحيتها لذلك إتجه السيد محمد و الدراويش ناحية نقال قاصدين نهر شبيلي للإنضمام إلي القوات الصومالية المرابطة هناك برأسة أخيه خليفة عبد الله حسن، و بذلك جمع السيد محمد الجيوش الصومالية للدخول في معركة كبرى ضد البريطانيين. و جاء إلي المعسكر وفد صومالي يطالب بعودة السيد محمد و رجاله إلي نقال، و وقف القتال للعيش في سلم و هدوء. فقال السيد محمد بطل الاستقلال.( أعوذ بالله منكم وممن أرسلكم. لن أستسلم و لن أكون للشرك عبداً ). فانصرف الوفد عائداً من حيث أتى.
و استمر السيد محمد في اعداد الجيش و استكمال المعدات الحربية خلال ثمانية شهور أو أزيد بقليل حتى ظهر وباء مميت بين القوات الصومالية المجاهدة، و يذكر أكثر الرواة أن هذا الوباء قد حمل جراثيمه رجلان من عملاء الاستعمار الإنجليزي، و ألقوا به في آبار منطقة هروشكح التي يعسكر فيها الدراويش و نتيجة لذلك، كثرت الوفيات في الوقت الذي عز فيه الدواء و الطبيب، و لذلك كانت معارك هروشكح فيعام 1920 من المعارك الخاسرة بالنسبة للصوماليين. و استمرت الحروب البريطانية الصومالية نحو عام كامل (1920 /1921) و فيها تسجيلات رائعة لمعارك عظمى انتصر فيها الشرف الصومالي، و رغم المدافع الثقيلة و الطائرات الحربية و القنابل المدمرة التي قيل أنها ألقت أكثر من مائة قنبلة على حصن تاليح و كادت تحطمه في الوقت الذي لا يملك فيه الدراويش طائرة واحدة بينما تمتليء سماء تاليح بطائرات مقاتله ضخمة و أمام هذا الضغط الحربي الكبير اضطر السيد محمد أن يصدر أوامره كما هى عادته بالتفرق السريع و التوغل في البلاد تفادياً من وقع خسائر في الأرواح، بيد أنه استنفد كل وسائل المقاومة و التضحية، و خرج السيد محمد جريحاً من إحدى المعارك، و مات الشهيد متأثراً بجراحه في نهاية عام 1921 تقريباً، و بحث البريطانيون في نهاية المعركة عن جثمان الشهيد السيد محمد، رائد القومية الصومالية، ليفعلوا به كما فعل البريطانيون برأس السيد محمد المهدي في السودان ليجعلوا من جمجمته منفضة سجائر لملكة بريطانيا و زوارها، غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك فقد نجح ورثته في الكفاح و الجهاد من إخوانه الدراويش أن يظل قبره سراً لا يعرفه إلا الخاصة من مريديه. و بعد عام 1921 استعادت الحكومة البريطانية قوتها للسيطرة على الإقليم الشمالي، و لكن بعد أن تركت ثورة السيد محمد مرارو و حسرة في نفوس الشعب لا يمكن أن تمحوها السنون و القرون، و قد أصاب المؤرخ البريطاني الرسمي في ذلك الوقت حينما قال ( أنه سيعيش في قلوب مواطنيه إلي الأبد كرجل وطني و زعيم خالد الذكرى، بلغ الذورة في البطولة.). و بعد أربعين عاماً تقريباً تحررت البلادبقسميها الشمالي و الجنوبي وهى اليوم تعمل لاستكمال الرسالة التي وضعها السيد محمد للاستقلال الكامل للوطن الصومالي الكبير و طرد الدخلاء و المبشرين و تدعيم الاستقلال.!!
Discussion about this post