هل تكون الثالثة ثابتة؟
بقلم:ماهر اللطيف
جلست تفتش بكل انتباه وتركيز بين فقرات و سطور وجمل وكلمات صفحات كنشها الصغير عما يثلج صدرها ويرجع لها ثقتها في نفسها – بعد أن تلاشت واضمحلت خلال هذه المدة – عساها تستنشق روح ونسائم الراحة والطمأنينة والسلم والهدوء المنبعث من معتق ذكرياتها التليدة التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة عادة إلاّ دونتها على بياض الورقات ورسمت بالتالي أجمل الصور والعبارات التي لا يتقنها غيرها، ناهيك وأنها أطعمتها ولونتها بعبق أحاسيسها ونبل مشاعرها وصدق أفكارها ورؤاها وتصوراتها….
بقيت تتصفح وتقرأ باهتمام، فتضحك تارة وتبكي أخرى و تتأسف طورا وتندم على تصرف طورا آخر وهي تستعرض شرائط تلك الأحداث وتستحضرها كأنها حاضر تدور أحداثه حاليا، غير أن “هذا الحاضر” أحداثه معلومة ونهايته معروفة وأطواره مكشوفة ومآزقه منزوعة من كل تشويق وترغيب وحلوله منتظرة ومشهودة…
فأتمت قراءة الكنش الأول قبل أن تستنجد بالثاني والثالث والرابع – بما أنها خصصت كنشا لكل سنة إدارية -…، إلى أن توقفت فجأة وهي تطلع على أحداث حادث معين مدون في الكنش العاشر، فصاحت عاليا لتكسر صمت المكان وهدوئه “يا الله، التاريخ يعيد نفسه بعد هذه المدة، نفس الأشخاص والظروف والأطوار والمآلات تقريبا…”
ثم أعادت القراءة بتأن وتركيز مرارا وتكرارا وهي تستحضر صور تلك الحوادث وكل تفاصيلها إلى أن التحمت بتلك الذكريات وذابت فيها ذوبانا تاما انطلاقا من تعرفها على “مجدي” و ولادة قصة الحب التي جمعتهما وكللت بالزواج، مرورا بإنجابها ” عبد الملك” و” خديجة” و” عبد الحليم” وتدرجهم في السن والتعلم وتنامي طلباتهم وحاجياتهم وغيرها، وصولا إلى إيداع مجدي السجن أول مرة بعد أن عجز عن تسديد مبالغ مالية لصكوك بنكية تعامل بها مع مزودين لمؤسسته الصغرى المعدة لتوزيع الكتب واللوازم المكتبية – وقد أفلست لسوء تصرفه وقدرته على إدارتها إدارة علمية سليمة – فقضي هناك مدة من الزمن إلى أن تمكنت هي من تسديد المخلد بذمته بعد أن عملت ليلا ونهارا واقترضت من هنا وهناك ورهنت منزلها – بما أن راتبها الشهري كان محدودا بالنظر إلى قيمة المبلغ المطلوب وهي الأستاذة الجامعية – …
وتطرقت إلى حادثة إيقافه مرة ثانية بعد عقد من الزمن لنفس الأسباب إثر إفلاس شركته الثانية المعدة للخدمات المكتبية – وهو إعدادي التكوين الأكاديمي، متوسط الخبرة الاجتماعية، مختص في استنباط وتصور المشاريع الواهية التي تنتهي في معظمها بالإفلاس والغلق لقلة الخبرة والحرفية والحنكة والتصرف الإدارة وغيرها -، وكانت المدة السجنية مضاعفة لضخامة الأموال وكثرة الدائنين وتكرر هذه الأفعال رغم منعه من استعمال الصكوك البنكية لخمس سنوات بعد الإيقاف الأول.
فاستحضرت عندها حوارها مع بعلها ما إن أطلق سراحه بعد التضحيات الجسام التي قامت بها من أجل تحريره وارجاعه ما سلب منه من حرية، حيث قال لها بصوت خافت حزين ينم على ندم وتوبة وإقلاع عن هذه الأعمال :
– أعدك حبي أن أنسى مشاريعي الوهمية وأبحث عن عمل قار ودائم يوفر لنا الحد الأدنى من المال…
– (مقاطعة وهي تصيح والدمع يبلل وجهها النعم الذي تلاعبت به تجاعيد السنوات والأقدار والأحداث وزوجها) اصمت أرجوك، فقد سبق وأن وعدت وأخلفت
– (يستعد للقسم حين تمنعه، فيواصل بهدوء) لن أخذلك هذه المرة، لا أريد أن اعتدى عليك وعلى أبنائي ونفسياتكم ومكانتكم بين الناس، يكفي ما سببته لكم من أذى
– (مقاطعة بشدة) حفظت هذا الكلام وهذه السيناريوهات البائسة، مللت هذه الرتابة واحتقرت نفسي فعلا بعد أن عبثت بها وطرحتها أرضا وأنا أسعى إلى حماية حب سبب لي المهانة والذل والنقصان وغيرها إلى أن بت مصدر استهزاء وتنمر من طرف البعيد والقريب، وأنت لم ترتدع وتتب وتقدر هذه المجهودات من أجل أبنائك على الأقل إن لم يعد لي ما يشفع لي عندك…
و واصلا الحديث وهما في طريق العودة إلى المنزل إلى جانب التطرق إلى عدة مواضيع أخرى تهم الأسرة وحاضرها ومستقبلهاوعلاقتها بالمجتمع والعائلة الكبرى وغيرهما…
وفعلا رجع مجدي إلى الجادة عدة سنوات واستطاع أن يصنع من الضعف قوة ومن الفشل نجاحا إلى أن اغتر ونال منه الشيطان وأصحاب السوء، فشرع في إنشاء مشروعه الجديد المتمثل في شركة لبيع وإصلاح الهواتف الجوالة ومستلزماتها…
ولم يمض على انطلاق العمل غير بعض السنوات حتى حققت الشركة أرباحا طائلة وشهرة كبيرة جعلت الزوج يخرج عن التوازن والتعقل ويسقط في أتون الفساد والقمار والزنا وغيرها، وهو ما جعله يوزع الصكوك دون أرصدة يمنة ويسرة بعد شح السيولة وتصحرها ، وكانت نهايته كالعادة السجن..
لكنها (استفاقت وهي تحكي في داخلها)، لن تتنازل عنه و تتركه يقبع بين جدران غرف السجون، عليها أن تجتهد وتجد الأموال في أقرب وقت ممكن حفاظا على عائلتها ووحدتها من ناحية وعلى حبها وبطله الذي يسكن فؤادها إلى يوم الدين من ناحية ثانية رغم كل شيء ….
و فجأة، انتفضت واستقامت بسرعة، قبل أن تخفي مذكراتها بين طيات أدباشها وهي تهذي وتكرر نفس العبارات لأبي القاسم الشابي ” ألا انهض وسر في سبيل الحياة، فمن نام لم تنتظره الحياة”.
Discussion about this post